سلوا الله العافية


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛

 أيها الأفاضل الأكارم؛ درسنا اليوم هو المتمم للتسعين من العهود المباركة من عهود الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بالتمسك بها والرضا بها لما فيها من صلاح الدين والدنيا والآخرة، روى هناد في الزهد عن إبراهيم قال: قال عبد الله: «سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَلَسْتُمْ بِعِبَادِ بَلَاءٍ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِكُمْ لَيُسْأَلَ الْكَلِمَةَ فَيَأْبَاهَا حَتَّى يُوضَعَ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِنِصْفَيْنِ وَمَا يُعْطِيهَا» ([1]) .

 هذا أيها الأفاضل عهد عظيم: سلوا الله العافية، فلستم بعبادي بلاء، طلب العافية مطلب كل عاقل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ تُؤْتَوْا شَيْئًا بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلاصِ مِثْلَ الْعَافِيَةِ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» ([2]) نسأل الله العافية.

 وعن العباس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله علمني شيئا أدعو به فقال: «سَلِ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ»، ثم أتيته مرة أخرى فقلت: يا رسول الله علمني شيئا أدعو به فقال: « سَلِ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ  فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ([3])، والبلاء أيها الأفاضل قد يفتن معه الإنسان، ولذلك ثبت عند الترمذي وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» ([4])  ، وفي رواية: «لَيْس لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قيل: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ»،  فليس للمؤمن أن يعرض نفسه إلى ما لا يطيق من البلاء، فكيف بتعريض الأمة إلى ما لا تطيق من البلاء؟ قال المسيب ابن دارم رحمه الله: رأيت عمر يضرب جمالا -صاحب جمل- يقول له: «لِمَ حَمَلْتَ عَلَى جَمَلِكَ مَا لَا يُطِيقُ؟» ([5]) ، وعن محمد بن سيرين قال: كتب عمر بن الخطاب: «أَنْ لَا تَسْتَعْمِلُوا الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ عَلَى جَيْشٍ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ مَهْلَكَةٌ مِنَ الْمَهَالِكِ يَقْدَمُ بِهِمْ» ([6]) ، تعرفون من البراء بن مالك؟ شقيق أنس بن مالك رضي الله عنهما، شهد أحدا والخندق والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع بيعة الرضوان، هو البطل الكرار كان شجاعا مقداما مفرطا في الشجاعة، وله في الحرب نكاية، قتل أكثر من مئة من المشركين من شجعانهم مبارزة، ولما اعتصم أصحاب مسيلمة إلى الحديقة حديقة الموت- وتحصنوا فيها، وفيها قصر مسيلمة وعجز المسلمون عن الوصول إليهم، فقام البراء فقال: يا معشر المسلمين ارفعوني بالرماح على الترس، ثم رفعوه فألقى نفسه عليهم من فوق الجدار ونهض سريعا إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الباب ودخل المسلمون، وكان الفتح وجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحًا ولكنه سلم، وكرّر هذا في قتال الفرس، فهذا البطل العظيم كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الجيش: لا تستعملوا البراءة على جيش فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم أي: من فرط شجاعته لا يرى العدو شيئا، فإذا تأمر سيغامر بالمسلمين وسيقتحم بالجيش وقد يهلكهم، وكان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أمراء الأجناد: «لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلا تجمّروهُمْ -تزيدون عليهم في الطعام والأرزاق- فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ- تحبسون عنهم الطعام- ، وَلا تُنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ»([7]) ، الغياض الغابات الكثيرة، والأماكن التي يمكن للعدو أن يمكن فيها للمسلمين، فواجب الحاكم مراعاة ما يحقن دماء الرعية ولا يوردهم المهالك ويبعد عنهم كل ما يجلب لهم الدمار والبلاء، وأكثر أسباب هذا هي الحروب، ولذلك أوكل هذا الباب في الإسلام إلى السلطان وحده، هو أدرى بجنده وما عنده من عدة وعتاد ليس للرعية في هذا يد لا العلماء ولا العامة، وهذا أمر واضح بين، قال الحسن رحمه الله: «أربع من أمر الإسلام إلى السلطان: الحكم والفيء والجهاد والجمعة» وقال ابن قدامة: وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك»، وفي مواهب الجليل قال: «قال الشيخ أحمد زروق في بعض وصاياه لإخوانه: التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سلّم الفتنة وقلّ ما اشتغل به أحد فأنجح» ([8]).

 وأكثر الناس وللأسف في زماننا يتراقص بهم الإعلام، ويميل بهم دعاة الفتن يمنة ويسرة، ويتخذهم العدو مطية، هذا يقوم خطيبا ويفتات على الولاة، ويطالب بتجييش الجيوش وفتح الحدود، والآخر يسم من يعارض حماقتهم وحماستهم بالنفاق، وهذا يلعن الجيوش العربية، ويتمنى زوالها أسوةً بالطوسي وابن العلقمي حين دمروا بمكرهم جيش الخلافة العباسية، ومهّدوا الطريق للتتار ففعلوا الأفاعيل بأمة الإسلام، وآخر ينزل نفسه منزلة السلطان ويدعو الشعوب للتظاهر والخروج إلى الشوارع والضغط على الحكومات، وآخر يدعو للمقاطعة ويحرم التعامل مع محلات تجارية وقد أعطاها السلطان ولي الأمر رخصة وأذن لها في التجارة ويدعو إلى مقاطعتها، وآخر يقول: لو غاب الحكام العرب عن بلادنا أسبوعا لصلينا اليوم الثامن في القدس، هل يقول هذا عاقل؟ الناس لو غاب عنهم السلطان ليلة واحدة لأكل بعضهم بعضا، ولذلك كان العلماء يقولون: ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام، تريد تصلي في القدس قم الليل وصل الفجر في جماعة يكفيك هذا، تريد تقاطع قاطع المحرمات التي حرمها الله عز وجل يكفيك هذا، تقاطع قهوة وآخر يقول: المسلمون آثمون جميعا في تركهم الجهاد.

 الجهاد ليس حمل السلاح وانتهى مهما كانت النتيجة، لما بايع عليه الصلاة والسلام الأنصار ليلة العقبة في موسم الحج ليلة العيد قال: «ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ، فقاله العباس ابن عبادة ابن نضلة: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا  -كان عدد كبير بالنسبة لذلك الزمان سبعون رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ ولكن ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ »([9])  ، تتحرش بالعدو وأنت ضعيف من أمرك بهذا، ولذلك لا يأذن الله عز وجل لعيسى في آخر الزمان أن يقاتل يأجوج ومأجوج، وقد وطئوا ديار المسلمين واحتلوا أرضهم لعدم التكافؤ، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمر بأصحابه يعذبون فيقول لهم: صبرا إن موعدكم الجنة، هل كان يستطيع أن يجند أحدا من أصحابه فيقتل من يعذب أصحابه يستطيع ولكن ليس هذا طريق الإسلام، تتحرش بعدو قوي فيستأصل شأفتك هذا ليس من الدين، بل عند البخاري قال خباب رضي الله عنه: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، وَهُوَ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ، فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: «لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ المِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»([10]) ، حتى الدعاء أبى عليهم ذلك، فالقدرة شرط مهم وإلا وقع الضرر، تأمل تقريرات العلماء في هذا.

 يقول الشيخ الفوزان حفظه الله: كم يقتل من المسلمين بسبب مغامرة جاهل أغضب الكفار وهم أقوى منه، فانقضوا على المسلمين تقتيلا وتشريدا وخرابا ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويسمي هذا المغامر المغامرة بالجهاد، وهذا ليس هو الجهاد؛ لأنه لم تتوفر شروطه ولم تتحقق أركانه فهو ليس جهادًا، وإنما هو عدوان لا يأمر الله عز وجل به.

 واجب من عجز ما قاله ابن تيمية رحمه الله: «وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ لَمْ يُكَلَّفْ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ» ([11]) ، العدة لها ضابط في الشرع أيها الأفاضل، والعدة عدة مادية وعدة أخرى إيمانية، قال الله عز وجل: ﵟوَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ ﵞ ﵝالأَنفَال : ﵐﵖﵜ ضابط العدة الشرعي أن تكون مرهبة للعدو ﵟتُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ ﵞ فكل قوة لا يرهبها العدو فليست بقوة شرعا: ﵟوَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ ﵞ ما هي القوة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ([12]) ، فالله خصّ الخيل بالذكر لأنه أحسن ما يقاتل عليه يومئذ، والنبي عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر؛ لأنه أقوى ما يقاتل به يومئذ، وهذا تنبيه على أن الإعداد يكون على أرقى المستويات لا أن يقاتلك العدو بالدبابة والطيارة وأنت بسكاكين المطبخ أو بسلاح لا ينكي، وتظن أنك في جهاد بل جهاد الدفع يسقط إذا لم تتحقق مصلحته، ليس جهاد الطلب إنما جهاد الدفع، فما حاجتنا لجهاد لا يهزم عدوا ولا يعيد حقا، فالمسلمون الذين كانوا يعذبون في مكة لم يستطيع النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع عنهم الأذى.

 قال الشيخ العثيمين رحمه الله: «لا يجب جهاد الدفع-، بل ولا يجوز أن نقاتل ونحن غير مستعدين له، والدليل على هذا أن الله عز وجل لم يفرض على نبيه وهو في مكة أن يقاتل المشركين، وأن الله أذن لنبيه في صلح الحديبية أن يعاهد المشركين ذلك العهد الذي إذا تلاه الإنسان ظن أن فيه خذلاناً للمسلمين، حتى قال عمر بن الخطاب : (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟  فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري » ([13]) .

وقال الشيخ  في سبب عدم القتال في هذا الوقت لعدم القدرة الأسلحة التي ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا، وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد، عنده الصواريخ ما تفيد شيئا فكيف يمكن أن تقاتل هؤلاء،ـ يعني يبيعون عليك أسلحة ليست متقدمة عندهم إنما التي ذهب عصرها عندهم، والمتطور جدا لا يبايعونك، فالقديم عندهم في مقابلة جديدهم كسكاكين المطبخ.

 وقال في الشرح الممتع: « لا بد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة، ولهذا لم يوجب الله ـ سبحانه وتعالى ـ على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة وكوّنوا الدولة الإسلامية وصار لهم شوكة أُمروا بالقتال، وعلى هذا فلا بد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات» ([14]) ، قال: « لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ولا يستطيعون جهاد الكفار، حتى ولا جهاد مدافعة في الواقع» ([15]) .

جهاد المهاجمة لا شك أنه الآن غير ممكن على هذا الوضع، وقبل العدة العسكرية العدة الإيمانية وجهاد النفس مقدم على جهاد الأعداء، وحال المسلمين لا يخفى وأعظم سببا للنصر هو الإيمان ووعد الله: ﵟوَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ﵞ ﵝالرُّوم : ﵗﵔﵜ.

 فالنصر يأتي على قدر الإيمان، فالزعم أن الأمة آثمة جميعا بتعطيل الجهاد مع ضعفها باطل، لا يقره العقل ولا الشرع؟ فاحذر أن أن تستغل عاطفتك وحماستك لتوجهات حزبية أو مخططات استعمارية.

 سلوا الله العافية فلستم بعباد بلاء، الناس لو قطع عنهم وسائل التواصل لضجوا فضلا عن انقطاع الوقود والماء والكهرباء، من يطيق الصواريخ والقنابل التي تحرق الأرض حرقا، قنبلة نووية والأعداء كلهم يملكونها من سيقف أمامها المغامرة إهلاك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:« لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» ([16]) ، قال ابن تيمية رحمه الله: « وَقَدْ جَاءَتْ شَوَاهِدُ السُّنَّةِ: بِأَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ أُعِينَ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ خِيفَ عَلَيْهِ» ([17])، فالجهاد عبادة لها شروطها وأحكامها، وأول أمر في الجهاد: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵑﵑﵜ، تبيع نفسك ومالك لله لا أن تجتمع وتجعجع في الشوارع وتصرخ وتسب وتشتم وتحرق وتخرب، هذا مطلب الأعداء وليس هو دين رب الأرض والسماء، الأعداء يريدون ثغرة يلجون من خلالها للدمار وإشعال البلاد ﵟلَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا ﵞ أي لا يقصرون في إيصال الضر لكم بكل ممكن، هذا قول الله عز وجل: ﵟلَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵘﵑﵑﵜ، يحبون كل ما يشق عليكم ﵟقَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ ١١٨ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵘﵑﵑﵜ.

فلا تمهد لهم الطريق، فوّت الفرص عليهم بلزوم الجماعة والطاعة والالتفاف على الأئمة، واعلم أن العواطف في الفتن عواصف، وأهل التحزب لا يرضون إلا بخراب بلدك والتسلط على رقبتك، لا تغرنك شعاراتهم هم أول الناكثين عن الإقدام وأول المنتفعين من خراب البلدان، الزم غرز العلماء الناصحين، السنة واضحة بينة، والعقل نعمة والتأني سلامة  والروح لا تزهق في العمى، عن مطرف قال: «لأن أعافى فأشكر، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر» ([18])، قال حميد الهلالي: « أتت الحرورية مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم، -خوارج وزماننا زمان خوارج انتشر فكرهم، واكتسح الأرض كلها إلا من رحم الله وعصم- فقال: يا هؤلاء، لو كان لي نفسان، بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى، أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة، هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها» ([19]) ، وقال مطرف رحمه الله: «لأن آخذ بالثقة في القعود، أحب إلي من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير» ([20])  .

وتأمل هذه الوصية النبوية العظيمة، روى مسلم في عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» ([21]) ، فسلوا الله العافية فلستم بعباد بلاء، عباد البلاء إيمانهم لا يتزعزع، ويقينهم لا يتزحزح، إن كان الرجل من قبلكم ليسأل الكلمة فيأباها حتى يوضع المنشار على رأسه في شق بنصفين وما يعطيها، لا يبيع دينه مهما كان، كان الرجل يحفر له في الأرض فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصده ذلك عن دينه، وكثير من الناس اليوم حالهم لا يخفى عليكم ولكن أمة الإسلام العاقبة لها، والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم تستعجلون، فاسلك سبيل نبيك وتمسك بسنته ﵟفَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ٦٠ﵞ ﵝالرُّوم : ﵐﵖﵜ، فأنت في نعم فارعها، وأنت في خير فحافظ عليه، إخوانك لا تنساهم من الدعاء، وكِلْ أمور الدول وما يتعلق بالجهاد وغيره إلى ولاة أمرك، فهم أدرى بحالهم وبحال الأمة وحال الناس وحال العدو وقوته، فلا تفتات عليهم في شيء فتضيع أمنك وتسلط عليك عدوك وتخسر خيرك، فالسكينة سكينة والسنة سنة والعلماء العلماء.

 لا تسمعوا لكل ناعق ولا تلتفتوا لكل شائعة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن آخر الزمان: «ثُمَّ يَفْشُوا فِيهم الكَذِب» ([22])، لا تصدق كل خبر ولا تجعل عقلك في أذنك، فتطير بكل ما تسمع، إنما السكينة السكينة والتؤدة التؤدة بهذا ينجو الإنسان من الفتن، ويلزم صراط ربه ويستعين وقت الفتن بكثرة الدعاء وبكثرة العبادة، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة يقول: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ كَيْ يُصَلّين»([23]) ، فعند نزول الفتن يلتجئ الإنسان إلى ربه ويقوم بعبادته، والعبادة في الهرج كهجرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

 نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أمننا واستقرارنا ولاة أمورنا، ويدرأ على المسلمين المحن والفتن، وأن يحقن دماءهم ويرد إليهم أرضهم وأمنهم واستقرارهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل كيد الكفار في نحورهم، ويجعل كيد الفجار في صدورهم، وأن يقي المسلمين شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته.

 سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.


 

([1]) الزهد لهَنَّاد (1/253).

([2]) رواه أحمد (10).

([3]) رواه البخاري في الأدب المفرد (637)، والترمذي (3514).

([4]) رواه ابن ماجه (4016)، والترمذي (2254). 

([5]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص24).

([6]) المستدرك للحاكم (5271).

([7]) مسند أحمد (286).

([8]) مواهب الجليل للحطاب (3/350).

([9]) رواه أحمد (15798).

([10]) رواه البخاري (3612).

([11]) مجموع الفتاوى (28/396).

([12]) رواه مسلم (1917).

([13]) لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (2/393).

([14]) الشرح الممتع (8/7).

([15]) لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (33/16).

([16]) رواه البخاري (2965)، ومسلم (1742).

([17]) مجموع الفتاوى (10/521).

([18]) سير أعلام النبلاء (4/195).

([19]) سير أعلام النبلاء (4/195).

([20]) سير أعلام النبلاء (4/191).

([21]) رواه مسلم (1848).

([22]) رواه الترمذي (2165).

([23]) رواه البخاري (7069).