شَعبَانُ أَقْبلَ .. والعُمرُ أَدبَر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد أيها الأفاضل: لا يخفى على شريف علمكم أن الدنيا مزرعة الآخرة، و {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٩٧].

وإن من سنة الله تعالى في خلقه أن الدنيا تتعاقب أيامها وشهورها وأعوامها، وهذا معناه زوال الأعمار واقتراب الآجال، والارتهان بالأعمال، فالأيام في الدنيا مطايا الناس عليها يركبون ، تمضي بهم وهم لا يشعرون، فهم في الدنيا في جناح سفر ، لا يدري أحدهم متى يحط ركابه في الموتى، وما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، يعني عمر خمسين ستين سنة، كأنه حلم رأيته في النوم، وما بقي من أيام؛ سأفعل، وسأفعل، وسأفعل كلها أماني، والأجل أقرب من الأماني.

وابن آدم إنما هو أيام مجموعة ، فكل يوم يمضي إنما يمضي بعضه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا ، أَوْ مُوبِقُهَا»[1] - وقد قال الله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: ١٤٠]. (۱) أخرجه مسلم في "صحيحه" (١ / ١٤٠) برقم: (٢٢٣)

 خطب حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال في خطبته: "إن الله يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: ١]، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد أنشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، إلا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق، ألا وإن الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة ".

وفي صحيح مسلم أن عتبة بن غزوان الصحابي رضي الله عنه وأرضاه، وكان أميرًا على الكوفة فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم -أي أعلمت أنها منقطعة سريعة الزوال  -وولّت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم - أي انتقلوا إلى دار البقاء بأفضل أعمالكم - فإنه قد ذُكر لنا أن الحجر يلقى به من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا أفعجبتم ؟ - يعني الحجر الكبير يُلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها - أفعجبتم والله لتملأن ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة - أي سعة الباب الواحد بين عمود هذا الباب والآخر - ولقد ذكر لنا أن ما بين مصرعين من مصاريع الجنة - والجنة لها كم باب ؟ ثمانية- مسيرة أربعين يوما، وإنه سيأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام".

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزدحمون على أبواب الجنة.

وقد قال القائل:

إن لـــــنــفرح بالأيــام نقطـــعـهـا   ***  وكل يوم مضى يُدني من الأجل

فأعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا   ***   فإنما الربح والخسران في العمل

والله -عز وجل- خلق الموت والحياة لماذا؟ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملا} [الملك:٢].

والله -عز وجل- لم يجعل لعمل المسلم أجلًا دون الموت، قال الله -عز وجل-:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩]، ما هو اليقين؟ الموت.

فالدنيا إنما هي استقامة على العمل واجتهاد في زرع الصالح من الثمر، واستغلال الأوقات بالصالحات بلا كلل وقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ،أوصني، فقال: « اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقُركَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[2].

وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما : أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلِ » [3] .

فكان ابن عمر بعد ذلك يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ".

وقيل لرجل من عبد القيس في مرضه أوصنا، قال: (أنذرتكم سوف). وقال ثمامة بن بجاد السلمي عند موته (أي قوم أنذرتكم سوف أعمل، سوف أصلي، سوف أصوم).

كلنا في زمن المهلة، وقد أمرنا الله -عز وجل- باستغلال الأوقات، والمسارعة في الصالحات.

قال ابن القيم: (إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت يقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت إنما يقطعك عن الدنيا).

وقال الحسن: أدركت أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه و دیناره

يعني: لا يُفرط في ثانية، أشد تمسكًا بوقته من درهمه وديناره، فالواجب على

المؤمن أن يُبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها.

ولذلك كان الرجلان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لقي أحدهما الآخر لا يفترقان حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (۲) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصبر} [العصر: ٢-٣].

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنا تَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ » أي: بادروا وسارعوا في العمل واجتهدوا قبل أن تأتيكم الفتن التي هي كقطع الليل المظلم« يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا » [4].

فالأعمال تُطوى، والأعمار تفنى، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغَفَل عن الأجل، ومن غفل عن نفسه تصرّمت عليه أوقاته ثم اشتدت عليه حسراته. قال ابن الجوزي رحمه الله: (واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، ففي الحديث الصحيح أن من قال سبحان الله وبحمده: غُرست له نخلة في الجنة لو كانت من نخل الدنيا في الدنيا لما فتر الناس فكيف بنخل الجنة ؟ - . وقال : والعمر أنفس من أن يُفرط فيه بنفس، وكان يقول عن نفسه: وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة).

ونحن أيها الأفاضل في شعبان في ليلة الثاني منه، وشعبان شهر اجتهاد في الصيام، والصيام عبادة لا يعدلها شيء فعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل ؟ قال : « عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ » [5] رواه النسائي.

ولقد كان لصوم شعبان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - شأنا عظيمًا، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: )لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم - يصوم من شهر أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله) متفق عليه.[6]

وفي روايةٍ قالت: (ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان إلا قليلًا) [7]، وكله من باب إلحاق القليل بالكثير، فإنه -عليه الصلاة والسلام - لم يكن يصل شعبان برمضان، إنما كان يصوم أكثره إلا قليلًا.

وفي رواية قالت: )لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشهر في السنة أكثر صيامه منه في شعبان).

وسبب كثرة صيام النبي -صلى الله عليه وسلم - التطوع في شعبان ما رواه أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: '' يا رسول الله لم أراك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم في شعبان - لم أرك، يعني لماذا تصوم هذا الشهر أكثر من غيره - فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:« ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لَا يُرْفَعَ عَمَلِي إِلَّا وَأَنَا صَائِمٌ »[8]

فشعبان شهر تُرفع فيه أعمال العام الله -عز وجل-.

و مما يدل على فضيلة التطوع في شعبان ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمران بن حصين قال له أو لغيره - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال له أو لآخر: «أَصُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ » قال: لا، قال: « فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ » [9].

وفي رواية عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: « هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ شَيْئًا» قال : لا ، قال : «فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه» [10].

قال النووي رحمه الله: (سَرر ، بفتح السين وكسرها وهو جمع سُرة، ويقال أيضًا سرار وسرار بفتح السين وكسرها، وكله من الاسترار، قال الأوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة والحديث والغريب المراد بالسرر آخر الشهر سميت بذلك لأستتار القمر فيها( يعني اختفاء القمر، « صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ » أي من آخره.

وسيأتي ما في شعبان من فضائل أخر في نصفه، وكثرة مغفرة الله لذنوب عباده في ليلة النصف، وما يُشرع من صوم آخره، وما يُنهى عن ذلك.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها : )كان يكون الصوم من رمضان فلا نستطيع أن نقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- منا) أي: لقيامهن على خدمته يؤخرن القضاء لوقتٍ يشتغل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - بالصيام في شعبان فيقضين ما عليهن.

وهذا الحديث فيه دلالة على فضل صوم شعبان، فالرسول عليه الصلاة والسلام - أمره بصوم يومين بدل يوم منه مكان ما أفطر.

وفيه مشروعية قضاء التطوع، واستحباب المحافظة على ما اعتاده الإنسان من الخير هذا ما يتعلق بهذه الخاطرة التي حث على استغلال هي الأوقات لاسيما ونحن قد وفقنا الله - عز وجل-  لبلوغ هذا الشهر وهو كالاستعداد لشهر الصيام الأكبر شهر رمضان، وسيأتي ما يتعلق بذلك من أحكام .

نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد والعصمة والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 

 


 

[1]  أخرجه مسلم في "صحيحه" (١ / ١٤٠) برقم: (٢٢٣)

 ([2]) أخرجه الحاكم (٧٩٤١).

  ([3]  أخرجه البخاري في " صحيحه " (٨ / ٨٩) برقم: (٦٤١٦).

([4]) أخرجه مسلم في "صحيحه" (١ / ٧٦) برقم: (۱۱۸).

([5])  أخرجه النسائي في "الكبرى" (٣ / ١٣٣) برقم: (٢٥٤١).

([6])  أخرجه البخاري في " صحيحه " (۳) / (۳۸) برقم: (۱۹۷۰) ومسلم في "صحيحه" (۲ / ۸۱۱) برقم: .(1107)

([7])  أخرجه مسلم في صحيحه " (٢ / ٨١١) برقم: (١١٥٦).

([8]) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (٣ / ٥٢١) برقم: (۲۱۱۹).

([9]) أخرجه البخاري في " صحيحه " (٣ / ٤١) برقم : (۱۹۸۳) ومسلم في "صحيحه" (٣ / ١٦٦) برقم: (١١٦١) .

([10]) أخرجه مسلم في "صحيحه" (٣ / ١٦٦) برقم: (١١٦١).