هدي السلف في التعامل مع المخاطبين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛
فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام وعلى نعمة الصحة والأمان، كما نشكر القائمين على مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياهم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم القيامة، محاضرة اليوم بعنوان: (هدي السلف الصالح في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله عز وجل).
إن الدعوة إلى الله تعالى من أوجب الواجبات وأفضل القربات، وأجل الأعمال لكن قد يخطئ فيها بعض القائمين على هذه الدعوة، قد يخطئ فيها البعض قصدا أو سهوا بسبب أو آخر، ومن أسباب عدم إصابتهم خطأهم في تصورهم، وعدم مراعاتهم لأحوال المخاطبين عند دعوتهم، فمنهم من لا يلقي لها بالا، ومنهم من يغير ويبدل في الأصول والأسس بحجة مراعاة أحوال المخاطبين ناسيا أو متناسيا أو جاهلا بالضوابط والقواعد اللازمة مراعاتها؛ لذلك رغبة في الاستفادة، وإفادة إخواني المسلمين في مجال الدعوة إلى الله تعالى، نذكر هذه المحاضرة ونذكر شيئا من هدي سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، نذكر بعضا من هديهم في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله عز وجل ليكون هذا الهدي منارا في طريق الدعاة إلى الله عز وجل، فقد اعتنى سلفنا الصالح وأئمة الإسلام بمراعاة أحوال المخاطبين في الدعوة إلى الله تعالى، وقد كانوا يدركون أهمية العناية بأحوال المدعوين، كما كانوا يراعونها أثناء قيامهم بالدعوة إلى الله، وظهر ذلك في عدة أشكال وصور نذكرها من خلال هذه المحاضرة كأمثلة من عناية سلفنا الصالح بالتعرف على المخاطبين، ومراعاة السلف فهم عامة الناس عند العمل، كذلك تخول السلف الصالح الناس بالموعظة ومراعاة رغبة المخاطبين عند التحدث إليهم، كذلك اهتم سلفنا الصالح بمستوى عقول الناس عند التحدث إليهم، كذلك قرروا ضرورة تعرف المفتي على أحوال المستفتي ومراعاة الفتوى عند الإفتاء، مراعاة أحوال أحوال المستفتي، وهكذا ترك سلفنا الصالح بعض الأمور المختارة مخافة وقوع الناس في أشد منها، كذلك قرر سلفنا غض الطرف عن بعض المنكرات أحيانا مراعاة لما يترتب على الإنكار عليها من مفسدة، وهكذا تفقد سلفنا الصالح المدعوين تفقدوا إخوانهم وطلبة العلم في عباداتهم وفي معاملاتهم، هذا ملخص إجمالي لفحوى هذه المحاضرة، لعل فيها تذكيرا لنا ولإخواننا طلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل، هي أمثلة من سلفنا الصالح فيها بيان هديهم في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله عز وجل.
اعتنى سلفنا الصالح بالتعرف على المخاطبين، وهذا مما يدل على اهتمامهم في التعرف على المخاطبين عند جهلهم، ضرورة العلم بحال المأمور والمنهي والمدعوّ، ومن أمثلة ذلك سؤال عمر الفاروق رضي الله عنه عن بلد رجلين قبل دعوتهم وتعليمهم، فقد روى الإمام ابن كثير بسنده في تفسيره([1]) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال: «أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا»، إذًا سعى رضي الله إلى التعرف على الشخصين، ولم يشدد عليهما ولم يعاقبهما على ما فعلاه من هذا المنكر رفع الأصوات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل اتخاذ الإجراء المناسب بحق هذين المدعوين سألهما استفسر عن بلدهما ليعرف حالهما، هذا يدل على عناية السلف بالتعرف على المخاطبين، هكذا عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما سأل عن أصل رجل قبل بيان الحكم الشرعي له، قد يتعرف على هذا المخاطب قبل بيان الحكم الشرعي، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه([2]) عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَعَرَفَهُ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، يَقُولُ: مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْمَخِيلَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، إذًا في هذه القصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما رأى المنكر لدى الشخص سعى إلى التعرف عليه، استفسر عن قبيلته قبل بيان عاقبة فاعل ذلك المنكر، هكذا سلفنا الصالح ثبت عنهم أقوال كثيرة حول ضرورة العلم بحال المأمور والمنهي والمدعوّ، وقد بين العلماء ضرورة العلم بحال المأمور بحال المدعو التعرف على حاله قبل دعوته أو الإجابة على سؤاله، وأكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: «لابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز، ولابد من العلم بحال المأمور والمنهي» ([3])، إذًا لابد من العلم بحال المأمور والمنهي، فقد اعتنى علماؤنا وسلفنا بالتعرف على حال المخاطبين، إذًا لابد من العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم، كذلك علم تقويم البلدان ليعد الداعية إلى الله لكل بلاد منها عدتها إذا أراد السفر إليها، العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها، العلم بالعلوم المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة إلى الله، ولو بقدر ما يورد على الدين من شبهات تلك العلوم، بقدر ما نفهمه من علومهم مما يورد على الدين من شبهات تلك العلوم، الجواب عن هذه الشبهات بما يليق بمعارف المخاطبين بالدعوة، كذلك معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها تيسير للدعاة، بيان ما فيها من الباطل، فإن من لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه هذا لابد من التنبه إليه، وهكذا يؤكد ما جاء عن سلفنا وأئمتنا الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله يؤكد ضرورة العلم بحال المدعوّ، فيقول رحمه الله معلقا على الآية الكريمة: ﵟقُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖﵞ ﵝيُوسُف : ﵘﵐﵑﵜ قال: «وتأمل أيها الداعية لله قول الله تعالى: (عَلَى بَصِيرَةٍ) أي: على بصيرة في ثلاثة أمور: على بصيرة فيما يدعو إليه، على بصيرة في حال الدعوة، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب»([4]) ليعرف حالهم ويستعد لهم، فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله؛ لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال، وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع»([5]) ، فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو» ([6])، إذًا هذه المسألة الأولى عناية سلفنا وأئمة الإسلام في مراعاة أحوال المخاطبين في الدعوة الله.
المسألة الثانية: مراعاة السلف فهم عامة الناس عند العمل بسبب أفعال بعض الأئمة، فإنهم يرون هؤلاء المدعوون قد يرون بعض الاختلافات بين أئمة الإسلام، يرون بعض أفعال بعض الأئمة في بعض الأمور، فهذه لابد من مراعاتها عند دعوة الناس عند دعوة المخاطبين إلى الله، وهذا كان هدي وسلفنا الصالح رضي الله عنهم، اهتموا بذلك اعتنوا بمراعاة أحوال المخاطبين، تنبهوا لسوء فهم عامة الناس بسبب بعض أفعال الأئمة الذين يقتدى بهم، فمن أمثلة ذلك: نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلحة رضي الله عنه عن لبس الثياب المصبوغة في الإحرام خوفا من سوء فهم عامة الناس، هو أمر مباح جائز فعله طلحة رضي الله عنه لكن عمر نهاه أن يفعله لسوء فهم عامة الناس في بعض المواقف، فقد روى الإمام مالك في الموطأ عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال عمر رضي الله عنه: «مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟،فَقَالَ طَلْحَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ،فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ،فلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ» ([7])،إذًا في قصة عمر لم يمنع طلحة رضي الله عنه من لبس الثوب المصبوغ بالمدر إلا خوفا من أن يظن الجاهل أنه يشرع لبس الثياب المصبغة في الإحرام، إذًا في مراعاة لفهم عامة الناس عند العمل.
هكذا أيضا مثال آخر: عثمان رضي الله عنه أتم الصلاة بمنى وهو أمير المؤمنين، أتم الصلاة لم يقصر الصلاة -الظهر والعصر والعشاء- لم يقصر الصلاة أتمها خوفا من سوء فهم الأعراب حتى لا يظنوا أن الصلاة نقصت، فقد أتم رضي الله عنه الصلاة بمنى، وقال كثير من أئمة الإسلام أتم الصلاة فعل ذلك حتى لا يظن الأعراب أن الصلاة ركعتين، فقد الإمام أبو داود في سننه([8]) عن الزهري: «إنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه - أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى مِنْ أَجْلِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ كَثُرُوا عَامَئِذٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَرْبَعًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ»، إذًا مراعاة السلف فهم عامة الناس عند العمل بسبب بعض أفعال الأئمة الذين يقتدى بهم، هذا أمر مهم في الدعوة إلى الله في التعامل مع المخاطبين عند الدعوة إلى الله.
المسألة الثالثة: تخول السلف الصالح بالموعظة، مراعاتهم رغبة المخاطبين عند التحدث، هذا يدل على عناية سلفنا بمراعاة أحوال المخاطبين، ما ثبت من تخولهم الناس بالموعظة ومن إيجازهم في الخطب، وما أثر عنهم من تأكيد على الإيجاز في الموعظة، ضرورة مراعاة نشاط الناس ورغبتهم عند التحدث إليهم هذا أمر مهم للداعية، من أمثلة ذلك: تخول ابن مسعود رضي الله عنه الناس في الموعظة، فقد كان رضي الله عنه يراعي الأوقات في تذكير الناس بالكوفة، لم يكن يذكرهم كل يوم خوفا من أن يملهم، وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه([9]) عن أبي وائل: قال كان عبد الله رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: « يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
هكذا أيضا مثال آخر: إيجاز عمار رضي الله عنه في الخطبة، فقد خطب رضي الله عنه وأوجز وأبلغ، كما جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي وائل قال: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» ([10])، مما يدل على أن سلفنا كانوا يتخولون المدعوين بالموعظة، يراعون رغبتهم، هكذا أكد سلفنا على إيجاز الموعظة، فقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه بإيجاز الموعظة، فقد عين أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان أميرا على جيش عظيم قد وجهه إلى الشام وشيعه ماشيا وأوصاه، فمما أوصاه به: «وَإِذَا وَعَظْتَهُمْ فَأَوْجِزْ؛ فَإِنَّ كَثِيرَ الْكَلَامِ يُنْسِي بَعْضُهُ بَعْضًا» ([11]) ، هكذا أيضا أمثلة: نصح عائشة رضي الله عنها عبيدة بن عمير بتخول الناس بالموعظة، فقد كان يحدث الناس -عبيد بن عمير رحمه الله- فنصحته بتخولهم بالموعظة حتى لا يملوا كما روى الإمام البغوي في شرح السنة بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت لعبيد بن عمير: «أَلَمْ أُحَدِّثْكَ أَنَّكَ تَجْلِسُ وَيُجْلَسُ إِلَيْكَ؟» قَالَ: بَلَى يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: «فَإِيَّاكَ وَإِمْلالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ» ([12])، وهكذا أيضا روى الإمام البغوي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: «حَدِّثِ الْقَوْمَ مَا حَدَجُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ، فَلا تُحَدِّثْهُمْ، قِيلَ: وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِذَا الْتَفَتَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَأَيْتَهُمْ يَتَثَاءَبُونَ فَلا تُحَدِّثْهُمْ» ([13])، هذه آثار من سلفنا الصالح تدل على تخوّلهم الناس المدعوين بالموعظة، مراعاة هذا المخاطبين عند التحدث إليهم إذا كانوا يستمعون ينصتون إلى كلامك، وهكذا أيضا روى الحافظ البغدادي عن مسروق رحمه الله قال: «لَا تَنْشُرْ بَزَّكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَبْغِيهِ» ([14])والبز الثياب، والمعنى: لا تعرض ثيابك إلا عند من يرغب فيها، وكأنه صار مثلا استعير هذا المعنى للمحدث، وذلك ألا يحدث عند قوم لا يرغبون فيه هكذا، إذًا مراعاة أحوال الناس عند الموعظة عند الدعوة عند التحدث إليهم، هذا أمر مهم، كذلك روى الخطيب البغدادي عن مطرف رحمه الله قال: «لَا تُطْعِمْ طَعَامَكَ مَنْ لَا يَشْتَهِيهِ، أَيْ: لَا تُحَدِّثْ بِالْحَدِيثِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ» ([15]) ، ثم بين الخطيب البغدادي في هذا الباب ضرورة توفر رغبة المخاطبين ونشاطهم عند التحدث إليهم، قال: «حَقُّ الْفَائِدَةِ أَنْ لَا تُسَاقَ إِلَّا إِلَى مُبْتَغِيهَا، وَلَا تُعْرَضُ إِلَّا عَلَى الرَّاغِبِ فِيهَا، فَإِذَا رَأَى الْمُحَدِّثُ بَعْضَ الْفُتُورِ مِنَ الْمُسْتَمِعِ فَلْيَسْكُتْ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ قَالَ: نَشَاطُ الْقَائِلِ عَلَى قَدْرِ فَهْمِ الْمُسْتَمِعِ»([16]).
إذًا حاصل ما أشرنا إليه في هذه المسألة الثالثة أن سلفنا الصالح وأئمة الإسلام كانوا يهتمون بتخول الناس للموعظة، كما كانوا يؤكدون على ضرورة الإيجاز في الموعظة، مراعاة نشاط الناس ورغبتهم عند التحدث إليهم، وهذا يتجلى ويبين عناية السلف بمراعاة أحوال المخاطبين.
هنا مسألة رابعة: اهتمام السلف بمستوى عقول الناس عند التحدث إليهم، يراعون عقول الناس، فمخاطبة الصغير تختلف عن مخاطبة الكبير، وهكذا مخاطبة الجاهل تختلف عن مخاطبة غيره ممن عنده علم، من أمثلة ذلك: اقتراح عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على الفاروق عمر بتخصيص أهل الفقه ببعض الأمور، ووافق عمر رضي الله عنه؛ لأن بعض الأمور لا تناسب عقول الناس العامة، يفهمها العلماء وطلبة العلم، أما الجاهل قد يفهم خطأ وهذه مسألة مهمة جدا عند دعوة الناس، روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: «لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اليَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ؟ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ،-هذا قول هذا الرجل ما كانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه إلا فلتة يعني: فجأة، يعني تمت البيعة، قولة غير صحيحة - فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ المَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ،-رعاع الناس جاهلة الناس، والغوغاء السفلة المسرعون إلى الشر موسم الحج فيه الرعاع وفيه الغوغاء- فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ المَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ»، إذًا استمع رضي الله عنه إلى اقتراح عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ألا يتكلم هذا الأمر أمام الرعاء الغوغاء الذين قد يحملون كلامه على غير وجه وتحدث فتنة، هذا يدل على اهتمام السلف بمستوى عقول الناس عند التحدث إليهم، لذلك تكملة الحديث الذي رواه البخاري «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فِي عقبِ ذِي الحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ المُؤَذِّنُونَ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا» إلى آخره([17]) .
في هذه القصة بيان مراعاة عمر وعبد الرحمن بن عوف لحال ومستوى عقول الناس عند التحدث إليهم، هذا أمر مهم ينبغي لطلبة العلم والدعاة إلى الله أن يراعوا في المجالس عندما يتكلمون في بعض المسائل مراعاة أحوال الحاضرين في المجلس؛ لأن من الأمور قد لا يستوعبها جهلة الناس، فإذا غلب جهلة والذي يتوقع منه الشر ومعاداة السنة، فلينتبه طالب العلم إذا دعا الناس ينتبه لهذا الأمر؛ لأن هذا أمر مهم جدا فهمه سلفنا الصالح، وراعوا مثل هذا الأمر، وأيضا مما نقل عنهم أيضا تأكيد علي رضي الله عنه على إرشاد الناس بما يفهمون، كذلك في صحيح الإمام البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، أمر علي رضي الله عنه هنا بمراعاة مستوى فهم الناس عند التحدث إليهم، بين ما يترتب على عدم مراعاته من تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشخص إذا سمع ما لا يفهمه وما لا يتصور إمكانه يعتقد استحالته جهلا، فلا يصدق وجوده فإذا أسند إلى الله ورسوله يلزم تكذيبهما، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في تعليقه على قول علي رضي الله عنه: « وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة» ([18])، من المراعاة لمستوى عقول الناس عند التحدث إليهم هذا أمر مهم جدا، وكذلك روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: « مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» ([19])، هنا نبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن عدم مراعاة مستوى فهم الناس عند التحدث إليهم يكون ضارا، بدل أن يكون نافعا ومفيدا، وهكذا من سير سلفنا أبو قلابة رحمه الله منع من التحديث لمن لا يفهمه مبينا أن ذلك سيضره بدل أن ينفعه، فقد روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي قلابة رحمه الله قال: «لَا تُحَدِّثِ الْحَدِيثَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ» ([20])، وهكذا كان أئمتنا علماؤنا فالإمام مالك رحمه الله والإمام أحمد وأبو يوسف من كبار أئمة الإسلام كرهوا تحديث الناس ببعض الأحاديث، وهذا نقله الحافظ ابن حجر رحمه الله عنهم قال: «وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب» ([21])، خلاصة هذه المسألة الرابعة أن سلفنا الصالح كانوا يهتمون بمراعاة عقول الناس عند التحدث إليهم، ويؤكدون على ضرورة العناية بذلك.
المسألة الخامسة من بيان هدي سلفنا في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله: تقريرهم ضرورة تعرف المفتي على أحوال المستفتي، ومراعاة أحوال المستفتي عند الإفتاء، هذه مسألة مهمة جدا يغفل عنها كثير من طلبة العلم والدعاة، من الخصال اللازمة للمفتي معرفة الناس، يقول الإمام أحمد رحمه الله: « لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس، الخامسة: معرفة الناس» ([22]) ، لذلك ابن القيم علق على كلام الإمام أحمد فقال: «وأما قوله: (الخامسة معرفة الناس) فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه، وبالله التوفيق» ([23])، إذًا قرر سلفنا وأئمتنا ضرورة تعرف المفتي على حال المستفتي، مراعاة حال المستفتي عند الفتوى، ومن ذلك اقتصر زيد بن ثابت رضي الله عنه في الإفتاء على ما حدث للمستفتي، فقد ذكر الحافظ الذهبي عن موسى ابن علي ابن رباح عن أبيه قال: «كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء، قال: آلله كان هذا؟ فإن قال: نعم، تكلم فيه، وإلا لم يتكلم»، وفي رواية: كان يقول إذا سئل عن الأمر : «أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم، حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون» ([24])، إذًا اقتصر رضي الله عنه في الإفتاء على ما حدث للمستفتي يسأله حدث هذا؟ فإذا قال نعم أجابه على سؤاله لكن إذا لم يحدث يقول عندما يحدث تعال اسأل، هكذا أيضا وصية عبد الله بن عباس رضي الله عنه بالاقتصار في الإفتاء على ما يعني المستفتي فقط، فقد أوصى رحمه الله عنه مولاه وتلميذه عكرمة بما كان يفعله زيد بن ثابت في الإفتاء قال له: « انطلق، فأفتهم، فمن جاءك يسألك عما يعنيه، فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه، فلا تفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤنة الناس» ([25])، هذه وصية مهمة نحتاجها جميعا، إذًا الذي يعين أيضا ويساعد المفتي على التمييز في الفتوى معرفة حال المستفتي.
هكذا أيضا تغير الفتوى بتغير الأشخاص، فقد رخص عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قبلة الصائم للشيخ دون الشاب، فرق بينهما في حكم التقبيل أثناء الصيام للشاب والشيخ، فقد رخص كما نقل عنه الإمام ابن حزم رحمه الله في قبلة الصائم للشيخ وكراهتها للشاب ([26])، هكذا أيضا أمثلة كثيرة من هذا الباب.
المسألة السابعة: تقرير السلف غض الطرف عن بعض المنكرات، مراعاة لما يترتب على الإنكار عليها هذا أمر مهم في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله، غض الطرف عن بعض المنكرات أحيانا مراعاة لما يترتب على الإنكار عليها من مفسدة كبيرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه القاعدة عن أهل العلم بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كانت المفسدة فيه أرجح من المصلحة، فقال رحمه الله: «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي منكر وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد...فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم » ، ثم قال رحمه الله: «ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم)، ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة» ([27])، وقال أيضا رحمه الله: «ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبيّ بن أبي سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم؛ وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه» ([28])، قاعدة مهمة كان عليها سلفنا الصالح، أحيانا ترك الأمر معروف المنكر إذا كانت المفسدة فيه أرجح من المصلحة، هذا كثير من الناس لا يقدرون هذا الأمر، هكذا ابن القيم رحمه الله منع من الإنكار الذي ينقل إلى حالة أسوأ، فقد بين أن هدف الإنكار هو نقل المحتسب إليه إلى حالة أحسن من الحالة التي هو فيها أو عليها، قال رحمه الله: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى» ([29])، إذًا هذه المسألة السابعة تقرير السلف وأئمة الإسلام غض الطرف أحيانا عن بعض المنكرات مراعاة لما يترتب على هذا الإنكار من مفسدة عظيمة.
المسألة الثامنة والأخيرة من خلال هذه المحاضرة في بيان هدي سلفنا في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله: تفقد السلف وأئمة الإسلام إخوانهم من المدعوين ومن طلبة العلم في عباداتهم في الصلاة، وفي حلقات التعليم، مما يدل على عناية سلفنا الصالح بأحوال المخاطبين متابعتهم تفقدهم السؤال عنهم، فقد تفقد عمر رضي الله عنه سليمان بن ابن أبي حَثمة رحم الله في صلاة الفجر، فقد روى الإمام مالك رحمه الله بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: « فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَدَا إِلَى السُّوقِ، وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي، فَغَلَبَتْهَ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ أَشْهَدَ صَلاَةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً» ([30])، هذا الأثر دل على تفقد عمر لأصحابه لإخوانه، وسليمان ابن أبي حَثمة رحمه الله تخلف عن صلاة الصبح فعمر انتبه، فسأل زوجته، فقال بات يصلي كان يقوم كل الليل فغلبته عيناه ونام عن صلاة الفجر في الجماعة، إذا عمر يتفقد هذا حال السلف يتفقدون إخوانهم، يتفقدون المدعوين وطلبة العلم في عباداتهم، هذا من هديهم في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله، هذا الأمر مهم والآثار كثيرة عن سلفنا الصالح اختصرنا وأوجزنا من خلال هذه المحاضرة، وذكرنا بعض ما جاء عن سلفنا الصالح لعلنا أن نقتدي بهم، وأن نراعي ما كانوا يراعون في التعامل مع المخاطبين في الدعوة إلى الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين كل سوء وفتنة، نسأله عز وجل أن يوفق أولاد أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعًا ودعاء مستجابًا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) تفسير ابن كثير (4/218).
([2]) رقم (2085).
([3]) الحسبة في الإسلام (ص83).
([4]) رواه البخاري (1496)، ومسلم (31).
([5]) رواه البخاري (2680)، ومسلم (1713).
([6]) زاد الداعية (ص13).
([7]) موطأ مالك (710).
([8]) رقم (1962).
([9]) رقم (70).
([10]) رواه مسلم (47).
([11]) الكامل في التاريخ (2/176).
([12]) شرح السنة (1/314).
([13]) شرح السنة (1/313).
([14]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (727).
([15]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (731).
([16]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/330).
([17]) رواه البخاري (6830).
([18]) فتح الباري (1/225).
([19]) صحيح مسلم: (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
([20]) الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع (730).
([21]) فتح الباري (1/225).
([22]) ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/199).
([23]) إعلام الموقعين (4/157).
([24]) سير أعلام النبلاء (2/438).
([25]) سير أعلام النبلاء (5/15).
([26]) ينظر: المحلى لابن حزم (6/312).
([27]) مجموع الفتاوى (28/126 وما بعدها).
([28]) مجموع الفتاوى (28/131).
([29]) إعلام موقعين (3/16).
([30]) رواه مالك في الموطأ (294)، وقال عنه الألباني في هامش مشكاة المصابيح (1/399): إسناده صحيح.