هدي النبي ﷺ في التداوي من الأمراض ( الجزء ٢ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد، فهذه المحاضرة بعنوان: " هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوقاية والتداوي من الأمراض "، وهي المحاضرة الثانية من سلسلة محاضرات في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في التداوي والوقاية من الأمراض، وسبق هذه السلسلة محاضرة بعنوان "النظام الصحي في الإسلام" بيّنا خلالها أن الإسلام اعتنى بصحة الإنسان وبصحة المجتمع، وينبغي على المسلم أن يحافظ على صحته وعلى صحة المجتمع، وأشرنا إلى وجوب الاحتجاج بالهدي النبوي في الشؤون الطبية والعلاجية، وذكرنا الأدلة على ذلك وأن الطب النبوي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، ودلت الأدلة العامة، ومنها قول الله عز وجل: ﵟمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ ﵞ ﵝالنَّجۡم : ﵓ ﵜ هذه الآية عامة شاملة لكل ما يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم من القول سواء ما يتعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا، فكل ذلك وحي الله أوحاه إليه لا مجال فيه لخطأ، وكذلك أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كاجتهاد غيره من المجتهدين لأنه لا يقر على خطأ البتة سواء أكان في أمور الدنيا أو أمور الدين، ولا شك أيضا أن الطب فعل من أفعال المكلفين وجاء شرعنا الحنيف ليضبط أفعال المكلفين ويحكمها ببيان ما يوجبه الله عز وجل منها وما يحرمه أو ما يستحبه أو يكرهه أو يجيزه، لذلك جاءت أحاديث تأمر بالتداوي وأحاديث تصف بعض الأدوية، وأحاديث فيها الوقاية من بعض الأدواء والأمراض أيضا أحاديث أخرى تحرم قسما آخر من التداوي، والله عز وجل ما أنزل داء إلا انزل له دواء كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم، كذلك دلت الحقائق العلمية والطبية الواردة في السنة أنها مشتملة على أدلة دامغة أيدها العلم الحديث، وأكدها الطب الجديد، وقد وردت أحاديث تدل جزما أن الطب النبوي وحي من عند الله عز وجل، وتأتي الأدلة على ذلك وبعد هذه المقدمة أيضا نذكر بأن المصدر الأساسي لهذه المحاضرات هو كتاب "الطب النبوي" للإمام ابن القيم رحمه الله، فننقل منه كثيرا مما أتى به في هذا الكتاب القيم رحمه الله تعالى، ولذلك قال في مقدمة كتابه: هذه فصول نافعة في هديه صلى الله عليه وسلم في الطب الذي تطبب به أو وصفه لغيره نبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول الأطباء عن الوصول إليها، وهكذا في هذه المقدمة القيمة في هذا الكتاب ذكر فوائد كثيرة ينبغي الرجوع إلى هذا الكتاب للاستفادة منه، ثم قال في أول بداية كلامه وذكره لفصول تتعلق بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض قال: هذه فصول نافعة في هديه صلى الله عليه وسلم في الطب الذي تطبب به ووصفه لغيره نبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ثم قال: نقول وبالله المستعان ومنه نستمد الحول والقوة، وذكر رحمه الله أنواع الأمراض وقال: المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان وهما مذكور في القرآن وأتى بالأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، وهكذا تكلم عن طب الأبدان وقال هو نوعان: نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها والثاني من طب الأبدان قال: ما يحتاج إلى فكر وتأمل كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج إلى آخر كلامه رحمه الله، وذكر أسباب الأمراض وعلامات الأمراض ثم قال أيضا في فصل في هذه المقدمة كان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ثم قال: وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، وهكذا قالوا وكل داء قدر دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية، ولذلك ينصح الأطباء من بعده يقول: لا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلّله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها، وهذه نصيحة قيمة من هذا الإمام بأن الأطباء لا يسرفون في صرف الأدوية للناس؛ لأنه قد تكون لها أضرار لا يعلمها إلا الله عز وجل، ثم في هذه المقدمة أشرنا أيضا سابقا في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة، وأيضا القانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب ذكرنا ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب، ثم ذكر أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الحمى وتكلمنا عنها في المحاضرة الأولى بيان هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
الفصل الأول
قال ابن القيم رحمه الله([1]) : فصل في هديه في علاج استطلاق البطن، في «الصحيحين» : من حديث أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخي يشتكي بطنه، وفي رواية: استطلق بطنه، فقال: «اسقه عسلاً» ، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته، فلم يغن عنه شيئا. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول له:«اسقه عسلاً» ، فقال له في الثالثة أو الرابعة: «صدق الله، وكذبَ بطنُ أخِيك».
هذا حديث في الصحيحين ذكره ابن القيم رحمه الله في هذا الفصل، ثم أشار أيضا إلى رواية أخرى في صحيح مسلم في نفس هذا الأمر، ثم قال ابن القيم رحمه الله ذاكرًا لنا بعض فوائد ومنافع العسل: «والعسل فيه منافع عظيمة، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها، محلّل للرطوبات أكلا وطلاء، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه باردا رطبا، وهو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منق للكبد والصدر، مدر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر، قتل قمله وصئبانه، وطول الشعر، وحسنه، ونعمه، وإن اكتحل به، جلا ظلمة البصر، وإن استن به، بيض الأسنان وصقلها، وحفظ صحتها، وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق، ويدر الطمث، ولعقه على الريق يذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخنها تسخينا معتدلا، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة»([2]) إلى غير ذلك من الفوائد التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في هذا الفصل، ثم قال: «وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خلق شيء في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريبا منه»([3]) هذا كلام مفيد للإمام ابن القيم عن العسل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من هنا أنه علاج لاستطلاق البطن، ثم قال ابن القيم رحمه الله: «إذا عرف هذا، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل، كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، فإن العسل فيه جلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة، تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة–المنشفة- ، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة، أفسدتها وأفسدت الغذاء... وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يزله بالكلية، وإن جاوزه، أوهى القوى، فأحدث ضررا آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل، سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله»([4]) ثم قال رحمه الله: «وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة، وكمال العقل، وطب غيره، أكثره حدس وظنون، وتجارب، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان»([5]) ، هذه أمر مهم جدا، فإذا أراد المسلم أن يتبع هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج والوقاية من الأمراض عليه أن يتلقى هديه صلى الله عليه وسلم بالقبول وأن يعتقد الشفاء به بإذن الله عز وجل، وأن يعتقد كمال التلقي له بالإيمان والإذعان والاعتراف بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
الفصل الثاني هديه صلى الله عليه وسلّم في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج هديه صلى الله عليه وسلم في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه، يقول ابن القيم رحمه الله في هذا الفصل: «في الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارا منه»، وفي الصحيحين أيضا عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
يقول ابن القيم رحمه الله: الطاعون- من حيث اللغة-: نوع من الوباء، قاله صاحب «الصحاح» ، وهو عند أهل الطب: ورم رديء قتال يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التقرح سريعا، وفي الأكثر، يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن، والأرنبة، وفي اللحوم الرخوة»([6]) .
هذا كلامه رحمه الله، ثم قال بعد ذلك ([7]) : «ولما كان الطاعون يكثر في الوباء عبر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض يعم، والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون، فإنه واحد منها، والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها»، ثم قال: «والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذكره الأطباء.
والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد في الحديث الصحيح: «أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل». انتهى كلامه رحمه الله في ذكره لهديه صلى الله عليه وسلم في الطاعون، ثم بعد صفحات قال خاتمًا كلامه عن الطاعون: «وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء، وموافاة له في محل سلطانه، وإعانة للإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية، وأما نهيه عن الخروج من بلده، ففيه معنيان:
أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله، والتوكل عليه، والصبر على أقضيته، والرضى بها.
والثاني: ما قاله أئمة الطب: أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه»([8]) . هذا كلام قيم من الإمام، ثم قال: «وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها-أي الطاعون- عدة حكم:
أحدها: تجنب الأسباب المؤذية، والبعد منها.
الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد.
الثالث: ألا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون.
الرابع: ألا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم.
الخامس: حمية النفوس عن الطيرة والعدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطيرة على من تطير بها.
وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية، والنهي عن التعرض لأسباب التلف، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأول: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم»([9]) .
الفصل الثالث
هديه صلى الله عليه وسلّم في العلاج من داء الاستسقاء وعلاجه
من هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج هديه في داء الاستسقاء وعلاجه، والاستسقاء هو انتفاخ البطن لوجود سائل بارد، وقيل هو تليف الكبد، وقيل هو الدرن في أيامنا، قال ابن القيم في هذا الفصل في هديه صلى الله عليه وسلم في داء الاستسقاء وعلاجه: « في الصحيحين» : من حديث أنس بن مالك، قال: «قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة-يعني عافوا المقام بالمدينة أصابهم الجوى في بطونهم والجوى هو مرض من أمراض الجوف، أصيبوا بهذا المرض-، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحوا، عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم... »([10]) إلى آخر هذا الحديث المتفق عليه.
الشاهد أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بشرب أبوال الإبل وألبانها، وصحوا شفاهم الله عز وجل، هذه النصيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها بيان هديه في العلاج من هذا المرض وهو مرض الاستسقاء تليف الكبد، انتفاخ البطن، يقول ابن القيم رحمه الله: والدليل في هذا الحديث أنهم قالوا إنا اجتوينا المدينة: « والدليل على أن هذا المرض كان الاستقساء، ما رواه مسلم في «صحيحه» في هذا الحديث أنهم قالوا: إنا اجتوينا المدينة، فعظمت بطوننا، وارتهشت أعضاؤنا، وذكر تمام الحديث» فرواية مسلم في بيان أن ما أصابهم هو مرض الاستسقاء انتفاخ البطن؛ لأنهم ذكروا ذلك عظمت بطوننا، ثم قال ابن القيم: «والجوى: داء من أدواء الجوف- والاستقساء: مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط»، ثم قال: بيان أن ألبان الإبل وأبوال الإبل فيها شفاء بإذن الله عز وجل وفيها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، وفيه تأكيد لهديه صلى الله عليه وسلم في العلاج: «ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل، وإدرار بحسب الحاجة، وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها، فإن في لبن اللقاح -النوق- جلاء وتليينا، وإدرارا وتلطيفا، وتفتيحا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح، والقيصوم»([11]) إلى آخر كلامه وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء.
وأشير إلى كلام ابن مفلح رحمه الله في كتابه الآداب الشرعية، قال ابن مفلح رحمه الله: «وقال ابن جزلة لبن اللقاح وهي النوق أقل الألبان دسومة وجبنية وهو رقيق جدا مائي لا يحدث سوداء كغيره من الألبان لقلة جبنيته ينفع من الربو والاستسقاء وأمراض الطحال والبواسير، وأجود ما يستعمل للاستسقاء مع أبوال الإبل فإنه يسهل الماء الأصفر وهو سريع الانحدار عن المعدة وهو أقل غذاء من سائر الألبان.
قال الزهري في أبوال الإبل: قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأسا، ذكره البخاري، وقال الطحاوي حدثنا حسين بن نصر الفريابي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يستشفون بأبوال الإبل لا يرون بها بأسا»([12]) ، وهذه كلها بعض الحكم العلمية في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم العرنيين أن يشربوا ألبان الإبل وأبوالها.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله بعد ذلك -أنا أخذ من كلامه وأختصر في كتابه الطب النبوي- يقول: « وفي القصة -قصة العرانيين- دليل على التداوي والتطبب، وعلى طهارة بول مأكول اللحم، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة»([13]) ، يبين مسألة مهمة وهي أن ما يؤكل لحمه طاهر بوله وروثه هذا هو القول الراجح.
الفصل الرابع هديه صلى الله عليه وسلّم في علاج الجرح
من هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الجرح، جاء في «الصحيحين»([14]) : عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: «جرح وجهه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، -البيضة هي الخوذة التي توضع على الرأس- وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن–الترس- ، فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت قطعة حصير، فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم»، والنبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك فكان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الجرح، ثم يقول ابن القيم رحمه الله بعد ذلك: «فاستمسك الدم برماد الحصير المعمول من البردي، وله فعل قوي في حبس الدم، لأن فيه تجفيفا قويا، وقلة لذع، فإن الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذع هيجت الدم وجلبته، وهذا الرماد إذا نفخ وحده، أو مع الخلّ في أنف الراعف قطع رعافه»([15]) .
الفصل الخامس
أيضا خامسا من هديه صلى الله عليه وسلم أيضا: هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج بشرب العسل والحجامة والكيّ، وذكرت هذه الأشياء ذكرها ابن القيم في فصل مستقل وجمعها في فصل واحد؛ لأنها جاءت في حديث واحد، ولذلك قال: في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي»([16]) قال ابن القيم رحمه الله: «قال أبو عبد الله المازري- رحمه الله- الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية، فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية، فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها، وكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد، وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله: «شرطة محجم»، فإذا أعيا الدواء، فآخر الطب الكي، فذكره صلى الله عليه وسلم في الأدوية، لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب، وقوله: «وأنا أنهى أمتي عن الكي» ، وفي الحديث الآخر: «وما أحب أن أكتوي»، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي، انتهى كلامه»([17]) .
ثم قال ابن القيم رحمه الله([18]) : «فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة، فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حارا، عالجناه بإخراج الدم، بالفصد كان أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغا للمادة، وتبريدا للمزاج، وإن كان باردا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية، وأما الكي فلأن كل واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حادا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مزمنا، وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي، لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو، وأفسدت مزاجه، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة، فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ شدّة الحمّى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء».
ثم يذكر فصلا في العلاج بالحجامة، ويذكر رحمه الله العلاج بالحجامة وآداب العلاج بالحجامة وأحكامها ومنافعها وأوقاتها وأماكنها في أكثر من عشر صفحات، هذه تحتاج إلى محاضرة مستقلة -العلاج بالحجامة- لكن من أراد يرجع إليها لكن علمنا مما سبق أن الحجامة علاج لكثير من الآلام، وهي أيضا وقاية لكثير من الأمراض، فالإمام ابن القيم رحمه الله ذكر هذا الفصل في ذكر الحجامة، ثم بين أيضا بعض المسائل التي تتعلق بالحجامة ثم أيضا بعد ذلك ذكر في هديه صلى الله عليه في قطع العروق والكي، يزيد أيضا في الكلام عن الكي لأهميته قال: «ثبت في الصحيح([19]) من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه، ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ورمت، فحسمه الثانية، والحسم: هو الكي»([20])، ثم قال ابن القيم: وفي طريق آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص-المشقص هو السهم الطويل غير العريض- ، وفي لفظ آخر: أن رجلا من الأنصار رمي في أكحله بمشقص، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فكوي.
وقال أبو عبيد: وقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل نعت له الكي، فقال: «اكوُوه وارضِفوه»([21]) .
اكووه من الكي، وارضِفوه من الرضف، الرضف الحجارة المحماة على النار يعني يكوى بالحجارة المحماة على النار هذا معناه ارضِفوه.
ثم قال ابن القيم: «وفي صحيح البخاري([22]) من حديث أنس، أنه كوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ -يأتي ابن القيم رحمه الله بالأحاديث التي في الكي يقول-: «وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة([23]).
ثم قال ابن القيم رحمه الله: «قال الخطابي: إنما كوى سعدا ليرقأ الدم من جرحه، وخاف عليه أن ينزف فيهلك، والكي مستعمل في هذا الباب، وأما النهي عن الكي، فهو أن يكتوي طلبا للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو، هلك، فنهاهم عنه لأجل هذه النية».
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله قال: «وقال ابن قتيبة: الكي جنسان: كيّ الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا نغل، والعضو إذا قطع، ففي هذا الشفاء
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز ألاينجع، فإنه إلى الكراهة أقرب. انتهى»([24]) .
ثم يختم كلامه ابن القيم رحمه الله قال: «وثبت في «الصحيح في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله؛ والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينهما بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفا من حدوث الداء، والله أعلم»([25]) .
ونختم هذه المحاضرة بكلام ابن القيم الذي أشرنا إليه، وللحديث بقية وفي المحاضرة التالية وهي الثالثة من سلسلة المحاضرات نذكر أيضا مزيدا من بيان هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) الطب النبوي (ص27).
([2]) (ص27-28).
([3]) (ص28).
([4]) (ص28-29).
([5]) (ص29).
([6]) (ص30).
([7]) (ص31-32).
([8]) (ص34).
([9]) (ص35).
([10]) (ص36-37).
([11]) (ص37).
([12]) الآداب الشرعية (2/450).
([13]) الطب النبوي (ص38).
([14]) البخاري (2111)، ومسلم (1790).
([15]) (ص39).
([16]) صحيح البخاري (5680).
([17]) (ص40).
([18]) (ص41).
([19]) صحيح مسلم (2207).
([20]) (ص49).
([21]) رواه أحمد في المسند (3701)، والحاكم (8283 ) بإسناد صحيح على شرط مسلم.
([22]) رقم (5709).
([23]) رواه الترمذي، وهو في صحيح سنن الترمذي (2050).
([24]) (ص50).
([25]) (ص50-51).