تصدق على سارق


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد؛

 الإنسان في هذه الحياة يمر ببعض العقبات وبعض الظروف وبعض التحديات وبعض المواقف، يستطيع أن يتجاوز هذه المواقف والظروف بعد فضل الله سبحانه وتعالى بالعلم، والعلم إما أن يكون خبرًا من قرآن أو من السنة أو العلم يكون بسؤال الناس واستشارة الخبراء، وأفضل ما يستفيد منه الإنسان معرفة هذه المواقف والتحديات وكيف يتجاوزها أن يقف عند القصص التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل معها صاحبها، وسأذكر لكم قصة لطيفة وقصيرة، نستفيد منها بعض الفوائد في حياتنا.

فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ -أراد أن يتصدق- ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا في يَدِ زَانِيَةٍ؛ فَأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ! لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فوَضَعَهَا في يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وعلى غَنِيٍّ-متعجبا يظن أن هذه الصدقة غير مقبولة- فَأُتِيَ فقيل لَهُ: أمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وأمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ عَنْ زِنَاهَا، وأمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ»([1]).

 هذه القصة نستفيد منها بعض الفوائد:

 الفائدة الأولى: في حياتنا لابد على الإنسان أن يكون جادًّا، صاحب عزيمة في فعل الخير، ليست كل عقبة تمنعه أو ترده عن فعل الخير، وأيضًا فعل الخير ليس فيه ملل ولا كسل ولا سآمة، بل على الإنسان أن يجتهد دائمًا خصوصًا إذا فتح الله عليك باب خير، لهذا الرجل فتح له باب الصدقة، فأصر على الصدقة، في اليوم الأول على سارق ويظنها غير مقبولة، واليوم الثاني على زانية ويظنها غير مقبولة، واليوم الثالث على غني، ويظنها أنها غير مقبولة، وهكذا هو يتصدق المرة بعد المرة بلا كسل ولا ملل ولا شيء يرده عن فعل الخير، فهكذا فكن إن فتح لك باب العلم فاجتهد فيه لا تنقطع، وإن فتح لك باب الصدقة لا تنقطع، إن فتح لك باب قيام الليل لا تنقطع، وهكذا في كل باب خير فتح الله عليك به، فحاول أن لا تغلق هذا الباب ولو كانت هناك بعض العقبات وبعض التحديات.

 الفائدة الثانية: الظاهر من المجتمع الذي كان يعيشه الرجل أنه مجتمع صغير، وبعض المجتمعات الصغيرة أي موقف يحدث فيها يشيع وينتشر، ويصبح الناس يتحدثون عنه، ما الفائدة؟

 الفائدة هنا أنه لا يمنعك كلام الناس من هدفك الذي أنت تسعى إليه، كلام الناس قد يكون فيه بعض التثبيط وبعض التحبيط وغير ذلك من الكلمات التي قد تؤثر في الإنسان خصوصًا إذا فعل الخير، فعندما تنادى الناس أنه تصدق على زانية وهم يضحكون ويتنادون ويتكلمون، ولو دخلت هذه الكلمة في قلب ذاك الرجل لقال لن أفعل الخير ولن أتصدق، ودائمًا الذي عنده هدف واضح وعنده باب خير مفتوح، لا يستخفنه الذين لا يعلمون، لا تركن إلى كلام من لا علم عنده أو تضعف بسبب كلام الناس، الذي هو عكس المقصود الصحيح، حتى لو كان كلام الناس هذا كثيرًا، لا تلتفت ما دام عندك هدف واضح وصحيح ونبيل وفيه خير على أهل دينك  ومجتمعك فامض فيه، والتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى ونتائجه تأتي بعد ذلك.

 الفائدة الثالثة: في بعض الأحيان الإنسان يريد أن يفعل شيء من الخير، فيحصل غير المقصود الذي يريده مثل هذا أراد أن يتصدق على الفقراء، فوقعت على زانية وقعت على سارق وقعت الصدقة على غني، فوقع على غير مقصوده، ويكون في ذلك حكمة بالغة ، هو خير تقبل لكن فيه حكمة وفيه أثر عظيم، لاحظ الأثر الذي ترتب على هذا الشيء الذي ما كان يقصده و هو أن الزانية تترك الزنا والسارق يترك السارقة والغني يعتبر فيتصدق، ما كان يقصد هذا أبدًا، يقصد فقط أنه يتصدق فصارت عنده صدقة وأثر على المجتمع نافع جدًا؛ لذلك إذا فعلت الخير فبلا بد من أثر ولو لم تعلمه أو لم يأتِ وقته ولا تقل كما يقول بعض الناس ما لا أثر فيه لا فائدة منه،  لا الفائدة تحصل اليوم غدا قد تدرك أنت الفائدة، قد لا تدرك أنت هذه الفائدة.

 وأذكر في مرة من المرات أيام الشريط الكاسيت واحد من الإخوة أعطى شريطًا  لسائق سيارة، الشريط هذا فيه صفة الصلاة وأهمية الصلاة، يقول السائق : جلس عندي هذا الشريط ما يقارب عشرة أيام أو أكثر ولم أسمعه حتى ركب معي رجل فتذكرت هذا الشريط، فأعطيته الشريط ومضى، فأتى هذا الرجل الذي أعطي الشريط من قبل السائق بعد فترة والتقى بهذا السائق، فقال له جزاك الله خيرًا، قد نفعني الله بذلك الشريط نفعًا عظيمًا، ومن بعده ما تركت الصلاة أبدًا.

 فيقول هذا السائق لذلك الأخ رجع له يقول له: الشريط التي أعطيتني إياه والله ما سمعته ولكني وجدت شخصًا فأعطيته فانتفع به، هذا الشخص الآن الذي أعطى الشريط لهذا السائق ما كان يقصد ذاك، وإنما قصد هذا أحبتي الأخير له أثر ولا بد؛ ترمي الكلمة وتفعل الخير من الصدقة أو تضع كتابًا في مكان أو مصحفًا أو كتيبًا، أو تفتح مكتبة أو ترسل بطاقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، فتجد النفع بإذن الله سبحانه وتعالى وسينتفع بهذا الخير أناس الله يعلم بحالهم وحاجتهم لهذا العلم وهذا الخير.

 الفائدة الرابعة: أثر الصدقات على المجتمع، الصدقة باب خير عظيم، وينبغي للناس أن يحرصوا عليها ولو بدرهم، فإنها تطفئ غضب الرب، خصوصًا لو كانت في السر، لاحظوا هذا الرجل من شدة خفائه في الصدقات حتى السارق والزانية والغني لم يكونوا يعرفونه أنه من تصدق، فالإنسان يحاول أن يتصدق بالصدقات، ويخفيها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وهذه فيها أجر عظيم حتى أنه جاء في الحديث يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل  إلا ظله يوم القيامة.

 لكن هنا تنبيه مهم خصوصًا في هذه الأيام وقد انفتحت وتسهلت الوسائل، وهي نعمة لكن استغلها بعض الناس استغلالًا خاطئًا، فالإنسان مهم أن يعرف أين يضع صدقته حتى تكون مقبولة، لكن بعض الصدقات تقع في أيدي مجرمين أو متطرفين، وأيضًا بعض الصدقات تذهب إلى غير المستحقين أو أنه يستغل ماله استغلالًا خاطئ، فعليه أن يعرف أين يضع صدقته، خصوصًا أن في بعض الدول كدولة الإمارات جهات معتمدة لصرف هذه الصدقات والزكوات، في النفقة من خلالها آمن.

الفائدة الخامسة: وهو مهم جدًا أن الإنسان يفعل الخير، ولا ينتظر الشكر من الناس والمدح والثناء، ليس من الضروري أنك تفعل الخير، ويعرفك الناس أنك أنت فاعل هذا الخير إلا لمصلحة، وليس من الضروري أن تفعل الخير وتنتظر الناس يقولون ما شاء الله فلان فعل خير، انظروا إلى هذا الرجل يتصدق لا يعلمه الناس، ويصبح ويسمع الناس يتكلمون عن الذي تصدق على كذا من باب التندر، ولم يثنه ذلك كما سبق لكن المقصود حفظكم الله فعل الخير ليس بالضروري أن تذكر وتشكر عليه، كما يفعل اليوم بعض الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، يذهب يتصدق فيصور نفسه أنا أتصدقت على فلان وأنا وأهديت فلانًا فلا نفعل الخير وتنتظر من الناس جزاء ولا شكورًا إلا إذا كان فيه مصلحة، إذا كان الإنسان له مكانة وله شأن فتصدق أمام الناس سيقتدى به، فهنا مصلحة أخرى تقدر في وقتها ومن تصدق بها.

الفائدة السادسة: أثر وجود الصالحين في المجتمعات، حفظكم الله وجود الصالحين في المجتمعات ولو كثر فيها المخطئون فهو خير، ظاهر الحديث أنه يريد أن يضع صدقته على ناس فقراء مستحقين فتقع على أناس غير مستحقين، لعله والله أعلم أن أهل الشر كثر في المجتمع ذاك لكن وجود هذا الرجل الخيّر كان له أثر على المجتمع، فقد يصلح الله سبحانه وتعالى بالرجل أمة، ووجود أهل الخير في الأماكن مهم جدًا، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم أناس قليل بين أناس كثير يصلحون ما أفسد الناس"([2])، فوجود أهل الصلاح صلاح للمجتمع، وجود أهل الخير خير للمجتمع وجود أهل العلم علم للمجتمع، وهذا يفيد المجتمع ولابد أن يحترم أهل الخير وأهل الصلاح، ولا يتفكه بهم ولا يتندر عليهم.

 الفائدة السابعة: ارتباط الإنسان بربه دائمًا لأن الإنسان بين حالتين: إما أن يأتيك أمر خير أو تأتيك مصيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يرى الأمر يحبه يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال([3])، فهذا الرجل كلما تصدق ووضعت صدقته على غير ما يقصد هو يقول: الحمد لله ، هذه الكلمة مهمة جدًا أن يكون الإنسان حامدًا لله سبحانه وتعالى في سرائه وفي ضراءه، فالحمد ثناء وذكر الله سبحانه وتعالى، والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض، فالإنسان دائمًا يكون مرتبطًا بالله، راضيًا بقضاء الله وقدره، غير متسخط بما يحدث له؛ لأن ذلك يعطيه طمأنينة، وسكينة، ويعطيه أمل والاستمرارية في العطاء.

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم، وأن يوفق مجتمعاتنا، وأن يبارك في ذرياتنا، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وصلى الله على نبينا محمّد.


 

([1]) البخاري 2/ 137 (1421)، ومسلم 3/ 89 (1022) (78).

([2])  رواه ابن ماجة (3803) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (378)، والطبراني في المعجم الأوسط (6663)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4640)ــ

([3]) انظر السلسلة الصحيحة (265)ــ