بين إجرام الروافض…وغدر الخوارج (قصة تاريخية وواقع مشاهد)
الحمد لله الذي امتنَّ على عباده بأتمِّ نعمة، والصلاة والسلام على نبينا محمد من أخلص ونصح وصدق في إرشاد الأمة، فاللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير أمة، أما بعد:
فإنَّ أهل الأهواء والبدع المتطرفين في كلِّ زمان ومكان أهل شرٍّ وفساد في البلاد وعلى العباد، وقد ذاق أهل الإسلام منهم أصناف الغدر والخيانة حتى فاقوا أهل الكفر في إضعاف قوة المسلمين وتفريق كلمتهم، فسَهُل على العدو استغلال أياديهم في تخريب البلاد وإفساد عقائد العباد، وما التاريخ عنَّا ببعيد، فكم قتل من الصحابة بسببهم؟ وكم سقطت من الدول بغدرهم؟ وكم قتل من العلماء بخيانتهم؟ وكم زهقت الأرواح وسلبت الأموال بفتاويهم؟ إلى غير ذلك من مواقف الغدر والخيانة التي تؤكد شذوذ رأيهم وإفسادهم وعدم الثقة بهم وإن أظهروا الحسنى.
وسنقف في هذا المقال على موقف عظيم حدث لأهل السُّنَّة من علماء المالكية -رحمهم الله- في القيروان ساقه القاضي عياض، ونقيس عليه الواقع، ونستفيد من مشاهده الدروس والعبر.
فقد كان أهل السنة بالقيروان أيام دولة بني عبيد الرافضيَّة -التي تسمى بالفاطميَّة كذبًا وزورًا- في حالة شديدة من الذُّلِّ والتَّستر كأنَّهم أهل ذمَّة، تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة؛ كمحنة عمروس في خلع لسانه، وابن معتب في ضرب ظهره، وابن المدني في ضرب ظهره وصفعه، وابن اللباد بسجنه، وابن البرذون وابن هذيل بقتلهما وصلبهما، وابن النابلسي الذي سلخ، كلُّ هؤلاء من العلماء جرى عليهم ما جرى، من أجل ترك:
– حيَّ على خير العمل في الأذان،
– وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة،
– والفتيا بمذهب مالك.
فلمَّا أظهر بنو عبيد أمرهم، ونصَّبوا حسينًا الأعمى السبَّاب في الأسواق؛ للسبِّ بأسجاعٍ لُقِّنها يصل منها إلى سبِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في ألفاظ حفظها، كقوله: “العنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوى”، وغير ذلك، وعلقت رؤوس الأكباش والحمر على أبواب الحوانيت عليها قراطيس معلقة مكتوب فيها أسماء الصَّحابة؛ اشتدَّ الأمر على أهل السُّنَّة، فمن تكلم أو تحرَّك قُتل ومُثِّل به، وذلك في أيام الحاكم الثالث من بني عبيد؛ وهو إسماعيل الملقب بالمنصور([1])، سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وكان في قبائل زناتة([2])رجل منهم يكنَّى بأبي يزيد، ويعرف بالأعرج صاحب الحمار، واسمه مخلد بن كيداد من بني يفرن، وكان يتحلَّى بنسك عظيم، ويلبس جبَّة صوف قصيرة الكمَّين، ويركب حمارًا، وقومه له على طاعة عظيمة، وكان يبطن رأي الصفريَّة([3])، ويتمذهب بمذهب الخوارج، فقام خارجًا على بني عبيد الرَّافضة، والنَّاس يتمنَّون قائمًا عليهم، فتحرَّك الناس لقيامه واستجابوا له، وفتح البلاد ودخل القيروان، وفرَّ إسماعيل إلى مدينة المهدية([4])، فنفر الناس مع أبي يزيد إلى حربه، وخرج بهم فقهاء القيروان وصلحاؤهم، ورأوا أن الخروج معه متعيِّن لكفر بني عبيد([5])، أما هو فمن أهل القبلة، وقد وجدوه ليقاتلوا الروافض معه.
فخرج معه جمع غفير من العلماء، فعقدوا أمرهم على الخروج وركبوا الرَّكاب وشقُّوا القيروان ينادون بالجهاد، وقد شهروا السلاح، وأعلنوا بالتهليل والتكبير، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم وعلى آله-، والتَّرحم على أصحابه وأزواجه -رضي الله تعالى عنهن-، فاستنهضوا النَّاس للجهاد، ورغبوهم فيه.
فلما كان يوم الجمعة ركبوا بالسلاح التامِّ، وأتوا حتى ركزوا بنودهم قِبالة الجامع، وكانت سبعة بنود، وحضرت صلاة الجمعة، فخطب خطيبهم أحمد بن أبي الوليد خطبة بليغة، وحرَّض الناس على الجهاد، وسبَّ بني عبيد ولعنهم وأغرى بهم، وتلا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}([6])، وأعلمَ النَّاسَ بالخروج من غدهم، فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم، فرزقوا الظَّفَر بهم، وحصروهم في مدينة المهديِّة، فلمَّا رأى أبو يزيد ذلك ولم يشكَّ في غلبته؛ أظهر ما أكنَّه من الخارجيَّة.
فقال لأصحابه: “إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان؛ حتى يتمكَّن أعداؤهم منهم”، فقتل الروافض ما يقارب خمسةً وثلاثين رجلًا من فقهاء علماء القيروان، ممن أراد الله سعادتهم، وذلك في رجب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة؛ ففارق الناس أبا يزيد بالقيروان، وأظهروا السُّنَّة وحلَّقوا بالجامع([7]).
-
ما أعظمها من حادثة! وما أمرَّها من واقعة وقعت على أهل السنة بسبب غدر الخوارج وإجرام الرافضة، ولكن لكل حادثة حِكم وفوائد يستفاد منها ومن الممكن أن يستفاد من هذه الحادثة فوائد التالية:
الفائدة الأولى: عداوة الرافضة لأهل الإسلام.
إن هذه الواقعة شاهد من شواهد عداوة الرَّافضة القديمة لأهل السنة، ذلك الماضي الأسود الدموي الذي لم ينسه التاريخ، نعم لم ينسَ المسلمون تمجيد الروافض لأبي لؤلؤة قاتل الفاروق -رضي الله عنه-، ولم ينسوا استخراج الروافض للحسين من مكة إلى الكوفة، ثم الغدر به وقتله وأهل بيته، ولن ينسوا ثورة الرافضة على بني أميَّة، والمذابح التي ارتكبوها في أهل السنة من الإبادة لهم على يد أبي مسلم الخرساني وحزبه الرافضيِّ بمعاونة عبد الله بن علي العباسي، ولن ينس التاريخ الثورات والمذابح التي قامت في المغرب على أيديهم، ولن ينس الناس ما فعله أبو طاهر القرمطيُّ الذي سفك دماء الألوف ونهب الحجر الأسود والأموال، ولن تنس العقول تلك الخيانة الكبرى والتآمر الذي كان بالتعاون منهم مع التتار لاجتياح الدولة العباسيَّة؛ حتى سالت الدماء في أنهار بغداد فأصبحت حمراء بسبب خيانة ابن العلقميِّ والطوسيِّ الرافضيين، وها هم اليوم يصدِّرون الثورات في البلاد الإسلامية ويدعمونها ويشجِّعون عليها، وهم اليوم يعلقون أهل السنة بالمشانق في الطرقات، ويسفكون دماء الأبرياء في العراق، ويفتكون بالمسالمين في اليمن.
فمثل هؤلاء لا أمان لهم، ولا يوثق بمثلهم، لا في حال أمن ولا في حرب، فهم كما قال البربهاري -رحمه الله-: “مثل أصحاب البدع مثل العقارب، يدفنون رؤوسهم وأبدانهم فِي التراب ويخرجون أذنابهم، فَإِذَا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع، هم مختفون بين الناس، فَإِذَا تمكنوا بلغوا ما يريدون“([8])
الفائدة الثانية: غدر الخوارج.
إن غدر الخوارج وإجرامهم بأهل السنة متأصِّل من سالف العصور، فهم الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ“([9])، وهم الذين تعدُّوا على الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقتلوه في بيته، وهم الذين كفَّروا الخليفة الراشد عليًّا -رضي الله عنه- وغدروا به وقتلوه بعد صلاة الفجر من يوم جمعة في شهر رمضان، وهم الذين غدروا بأهل القيروان حتى قتل منهم من قتل من أهل الصلاح والعلم، ولا يزال الغدر والإجرام فيهم إلى يومنا هذا، واعتبر بجرائم وغدر الإخوان المسلمين والدواعش والقاعدة فهم من فجَّر في بلاد المسلمين، وقتلوا الآمنين المعاهدين والمستأمنين، وهم من هيَّج الشارع العام في تونس ومصر وسوريا واليمن على الثورات، فرموا بعامة الناس في أودية سحيقة مهلكة، وهم من حثَّ الأغمار على الجهاد –المزعوم- حتى وقع ما وقع من سفك دماء الأبرياء، وانهيار بيوتهم عليهم، وخطف نسائهم وسبيهن وهتك أعراضهن، ويُتم الأبناء بفقد آبائهم، وانفطار أكباد الأمهات والآباء بفقد أبنائهم، وهم من فجَّر في المساجد حتَّى وصلوا إلى قرب مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الحرام بمكة، وهم من حثُّوا الابن على قتل أبيه وأمِّه وابن عمِّه، وهم الذين تسببوا في سقوط الدول وذهاب الأمن وانهيار الاقتصاد.
فالتاريخ قد سجَّل، والعقلاء ينظرون، والنَّاس تبصر، والله على ما يفعلون شهيد ولهم بالمرصاد.
الفائدة الثالثة: الخوارج لا أمان لهم.
أبعد هذه الخيانات الخارجية والغدر الإخواني يمكَّن لمثل هذا الفكر في البلاد؟!، ويتبنَّى نشره بين العباد؟!، إن الدول التي تحتضن الفكر الإخواني الإرهابي إنما تسعى في إزالة سلطانها، وتسلط الأعداء عليها قبل غيرها؛ لأنَّها أول من سيكتوي بنار الفكر الإرهابي، وما أشبههم برجل دسَّ في ثوبه الأفعى مغترًا بنعومة ملمسها!!!
وما استيلاء الإخوان على مصر منَّا ببعيد؛ فقد فقدت الدولة هيبتها، وتدهور اقتصادها، وطمع الأعداء فيها، وتسلل الروافض في ربوعها، وقتل الآلاف من أهلها في غضون سنة واحدة من حكم الإخوان المسلمين، حتى أنقذ الله البلاد والعباد بوقوف دول الخير ومكافحة الإرهاب، وأول الدول وقوفًا دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فهل من معتبر؟؟!!
وها هما الشقيقتان اليوم يقفان سدًّا منيعًا أمام ما يهدد أمن البلاد من تطرف إخواني أو حوثي في أرض اليمن، حتى بذلت دولة الإمارات الغالي والنفيس في حماية أمن الخليج من ابتداء التطرف هجومه من أرض اليمن؛ وذلك برد العدوان بيد القوة، وبناء الدولة بيد الرحمة.
الفائدة الرابعة: قِتال الروافض والخوارج مطلب شرعي أمني.
إن قتالَ أهل السنة والإسلام للرَّافضة قتالٌ شرعيٌّ صحيح إذا كان تحت راية وليِّ أمر، وتحققت فيه الشروط والضوابط الشرعيَّة.
وإن ما قام به ولاة أمرنا بدولة الإمارات العربية المتحدة واضعين أيديهم في يد ولاة أمر المملكة العربية السعودية وإخوانهم المتحالفين؛ لردِّ كيد الحوثيين -تلك الفئة الضالة الظالمة المعتدية التي أرادت الفساد بالبلاد والإضرار بالعباد- لهو جهاد شرعي صحيح.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتال الخوارج، وقد قاتلهم الصحابة -رضي الله عنهم-، وإن كان قتال الإرهاب الخارجي الإخواني واجب فقتال الإرهاب الرافضيِّ أوجب منه؛ لأنهم أشرُّ من الخوارج، وقد سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن أشرِّ الطوائف فقال -رحمه الله-: “الروافض”([10]).
الفائدة الخامسة: خطر التعاون مع أهل البدع في قتال الأعداء.
إن تعاون أهل السنة مع الخوارج على قتال الروافض كان اجتهادًا من علماء القيروان صحيح في أصله من حيث التعاون مع المبتدع لإزالة الكفر، لكنَّه كان يحتاج إلى أمر وهو ألا يكون أهل السنة تحت لواء الخوارج، وهكذا في كل زمان ومكان، لا يجدي تعاون أهل السنة مع أهل البدع خوارجَ أو غيرهم لقتال أهل الرفض أو الأعداء إلا أن يكونوا تحت لواء أهل السنة بحيث يكونوا من المقاتلين ممن ليس له راية، ولا يعطوا المواقع الحساسة والخطط العسكرية القتالية ولا القيادة، ثم لا يكون هذا التعاون إلا بقدر الحاجة والضرورة؛ لما عرف عنهم من الغدر بأهل الإسلام، وها هي أرض اليمن شاهدة بذلك، فإن غدر الإخوان المسلمين المتمثل في جمعية الإصلاح والقاعدة أعاق كثيرًا من التقدم، وكان بسبب غدر الإخوان المسلمين أو خيانة من يتعاون معهم من الدول التي تبنت الإرهاب وساعدته أن وقعت تلك الحادثة على أبناء دولة الإمارات التي ذهب ضحيتها عدد كبير ممن نحسبهم شهداء.
وبسبب منهج الإخوان المسلمين وقفت دولة الإمارات سدًّا منيعًا في مواجهة الإخوان في ثوبهم الإرهابي أو الإصلاحي -زورًا وكذبًا-، ورفضت بقوة التعاون معهم في جميع الميادين، وهذا الموقف موقف صحيح سليم ينبع عن رؤية شرعية ومصلحة وطنية ومقاصد أمنية وخبرة تاريخية.
همسة ختامية: مهما تكن من محاولات رافضية حوثية صفوية أو خارجية داعشية إخوانية لكسر شوكة أهل الإسلام أو القضاء عليهم فلن يكن لهم إلى ذلك سبيل؛ فإنهم منصورون من الله -بإذن الله- إذا ما تمسكوا بدينهم واجتمعوا عليه وعلى ولاة أمرهم.
فاللهم احفظ بلادنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واحمِ خليجنا من العدوان الغاشم.
______________________________________
([1])أبو طاهر إسماعيل بن القائم تولى الأمر سنة 334 هـ، وتوفي سنة 341هـ، ينظر: الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين (314).
([2])هي قبيلة تتشعب على قبائل كثيرة، ومدينتهم ناحية بسرقسطة من جزيرة الأندلس.
ينظر: قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان القلقشندي (176)، ومعجم البلدان الحموي (3/151).
([3]) هم طائفة من الخوارج، أتباع زياد بن الأصفر، عقيدتهم في الجملة عقيدة الأزارقة في التكفير بكبائر الذنوب.
ينظر: مقالات الإسلاميين الأشعري (94)، والفرق بين الفرق البغدادي (90).
([4]) هي مدينة بإفريقية منسوبة إلى المهدي، جنوب القيروان جعلها المهدي دار مملكته وحصنه.
ينظر: معجم البلدان الحموي (5/229)، ومرصد الاطلاع صفي الدين البغدادي (3/133).
([5])يقول الذهبي: “وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه”. ينظر: سير أعلام النبلاء (15/154).
([6]) النساء: 95
([7]) ترتيب المدارك القاضي عياض (3/27-31) و(3/515)، وينظر: رياض النفوس (2/297و338)، وسير أعلام النبلاء(16/138).بتصرف.
([8]) طبقات الحنابلة (2/41).
([9]) رواه البخاري (3344 )، ومسلم (1064).
([10]) نفح الطيب: (5/307).