شأن الصلاة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

الحمدُ للهِ ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، وبعد

فإنّ الصلاةَ ركن عظيم من أركان الدين، وعمود الإسلام الذي بها يقوم، رفع الله شأنها، وعظّم قدرها، وأمر المسلمين أنْ يُؤدّوها جماعةً في المساجد، ومدحهم وأثنى عليهم بذلك فقال سبحانه: ﵟإِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ ١٨ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵘﵑﵜ ، فجعل من المساجد محلاً لأدائها، وشهد لعمّارها بالإيمان، ووصفهم بالهداية.

وقد بَشَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم المشَّائِينَ إلى المساجِدِ بأنَّ لهم بِكلِّ خطوةٍ حسنةً، ويُرْفَعُ لهم بِهَا درجةٌ، ويُحَطُّ عَنْهُمْ بِهَا خطيئةٌ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: )أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟(. قَالُوا: بَلَى يا رسولَ اللَّه. قالَ: )إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ(([1]).

والله عز وجل يفرح بقدوم عبده إلى الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: )لَا يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُسْبِغُهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ، إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بغائِبهم إذا قدِم عليهم(([2]).

والتَّبْكيرُ إلى المسجد لأداء الصلاة المفروضة، وإدراكُ تكبيرة الإحرام له فضل عظيم عند الله عز وجل، لاسيما إذا داوم عليه المسلم أربعين يوماً، فعن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلمقال: )مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ(([3]).

فمن صلى لله عز وجل مخلصاً من قلبه، لا رياءً ولا سمعة، (يُدرك تكبيرة الإحرام) مع الإمام (كُتِب له براءتان: براءة من النار) أي خلاص ونجاة منها، (وبراءة من النفاق) في الدنيا وفي الآخرة، فيبرأ في الدنيا بأن لا يعمل عمل المنافقين، ويبرأ في الآخرة بأن لا يُعذَّب بما يُعذَّب به المنافقون([4]).

وليس المقصود بذكر الأربعين هنا أنْ يقتصر عليها المسلم ثم ينقطع بعد ذلك! وإنما المراد بذلك أنّ مَن لازم تحصيل تكبيرة الإحرام خلال هذه المدة فإنّ الغالب أن يصير ذلك عادةً له([5])، لأنه يحصل له من التلذذ بالعبادة، وتذوُّق حلاوتها، ما يُذهب عنه التكلف لأدائها، فيستقيم على ذلك ويداوم عليها.

والصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما من صغائر الذنوب، قال النبي : )الصَّلوات الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ ‌كَفَّارَةٌ لما بينهن، ما لم تُغش الكبائر(([6])، وقال عليه الصلاة والسلام: )مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ‌تَحْضُرُهُ ‌صَلَاةٌ ‌مَكْتُوبَةٌ فَيَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي فَيُحْسِنُ الصَّلَاةَ إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَهُ بِهَا مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا مِنْ ‌ذُنُوبِهِ...(([7]).

والملازم للمسجد في ظلِّ عشر الرحمن يوم القيامة، قال النبي : )سبعةٌ يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلّ إلا ظلُّه( وذكر منهم: )ورجلٌ قلبُه معلّقٌ بالمساجد إذا خرج منه حتى يعودَ إليه (([8]).

قال ابن رجب رحمه الله: "وإنَّما كانتْ ملازمةُ المسجدِ للطاعاتِ مكفرةً للذنوبِ؛ لأنَّ فيها مجاهدةَ النفسِ وكفًّا لها عن أهوائِها؛ فإنها لا تميلُ إلا إلى الانتشار في الأرضِ لابتغِاء الكسب؛ أو لمجالسةِ الناس، أو لمحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقةِ والمساكنِ الحسنةِ ومواطنِ النزهِ، ونحو ذلكَ.

فمن حبسَ نفسَهُ في المساجدِ على الطاعةِ فهوَ مرابطٌ لها في سبيلِ اللَّه مخالِفٌ لهواهَا، وذلكَ من أفضلِ أنواع الصبرِ والجهادِ"([9]).

السَّلف وشأنهم مع الصلاة

لقد كان السّلفُ الصالح رحمهم الله تعالى لهم شأن عظيم مع تكبيرة الإحرام:

قال وكيع رحمه الله: "كان الأعمشُ قريباً من سبعين سنة؛ لم تفُتْه التكبيرة الأولى، واختلفتُ إليه قريباً من سنتين؛ فما رأيته يقضي ركعةً"([10]).

وقال سعيد بن المسيِّب: "ما فاتتني التكبيرة الأولى منذُ خمسين سنة، وما نظرتُ إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسينَ سنة"([11]) وثبت عن جمع من السلف نحواً من ذلك رضي الله عنهم وأرضاهم.

بل كانوا رحمهم الله تعالى يجعلون إدراك هذه التكبيرة مقياساً لصلاح الرجل، ولهذا قال إبراهيم التيمي: "إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه"([12]).

وقد حذّر النبي مِن التهاون في الصلاة، وبَيّن عاقِبة مَن يتعمد التأخر عن الصَّف الأول فضلًا عن تكبيرة الإحرام فقال: )لا يزالُ قومٌ يتأخرون عن الصَّفّ الأول حتى يُؤخرَهم اللهُ في النار(([13]).

أيها الإخوة: ينبغي على المسلم أن يتحلى بالخشوع والسكينة حال ذهابه إلى المسجد، لاسيما إذا سمعَ إقامة الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّو(([14]).

والحديث فيه النهي عن المشي بسرعة والاشتداد فيه إذا أقيمت الصلاة، لأنه منافٍ للخشوع في الصلاة والوقار فيها.

لكن أهل العلماء ذكروا أنه من طمع في إدراك تكبيرة الإحرام وخشي من فواتها؛ جاز له أن يُسرع ما لم يكُن ذلك منافياً للوقار والسكينة.

قال أبو الوليد الباجي رحمه الله: "وَأَمَّا الْإِسْرَاعُ الَّذِي لَا يُنَافِي الْوَقَارَ وَالسَّكِينَةَ لِمَنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَخَافَ أَنْ يَفُوتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إلَى الْمَسْجِدِ"([15]).

قال رجل من طيئ قال: كان عبد الله [ابن مسعود] ينهانا عن السعي إلى الصلاة، فخرجتُ ليلة، فرأيته يشتد إلى الصلاة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، كنت تنهانا عن السعي إلى الصلاة، فرأيتك الليلة اشتددت إليها؟ قال: إني بادرت حدّ الصلاة. يعني التكبيرة الأولى([16]).

وقال إسحاق: يسعى إذا خاف فوات التكبيرة الأولى([17]).

إذن من خشي أن لا يُدرِك التكبيرة الأولى؛ جاز له أن يسعى سعياً لا يتنافى مع الوقار والسكينة.

أيها الأكارم: احرصوا على أداء الصلاة في المساجد، وجاهدوا أنفسكم على المداومة عليها، فإن المساجد بيوت الله، أمر ببنائها لأداء الصلاة فيها جماعة، ووعد من قصدها بالفضل والخير العظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )مَن غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزله من الجنة كلّما غدا أو راح(([18])، والنّزُل: ما يُهَيّأ للضيفِ عند قدومه.

فيا لها من بشرى عظيمة لعُمّار المساجد، فأنتم في ضيافة الله تعالى كلّما غدوتم أو رجعتم، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: "المساجد بيوت الله في الأرض، وحقٌّ على المزور أنْ يٌكرم الزائر"([19]).

اللهم اجعلنا ممن يعمر مساجدك آمنين مؤمنين مطمئنين، واعمر قلوبنا بطاعتك، وامنن علينا بهدايتك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

* * *

 


 

([1]) رواه مسلم (251).

([2]) رواه أحمد (8350) وابن ماجه (800).

([3]) رواه الترمذي (241).

([4]) ينظر: شرح المشكاة للطيبي (4/1165)

([5]) يُنظر: حُسن التنبه للغزي (9/183).

([6]) رواه مسلم (233).

([7]) رواه أحمد (22237).

([8]) مسند البزار (120).

([9]) روائع التفسير (الجامع لتفسير ابن رجب) (2/ 171).

([10]) مسند ابن الجعد (755).

([11]) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/163).

([12]) حلية الأولياء لأبي نعيم (4/215).

([13]) رواه مسلم (438)، وأبو داود (679) واللفظ له.

([14]) رواه البخاري (866)، ومسلم (602).

([15]) المنتقى شرح الموطإ (1/132).

([16]) الأوسط لابن المنذر (1929).

([17]) الأوسط لابن المنذر (1929).

([18]) رواه البخاري (631).

([19]) المصنف لابن أبي شيبة (34615).