سنن مهجورة (3)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...
عوداً على بدء واستكمالاً لما قد بدأته، أذكر بعضاً من السنن التي هجرها كثير من الناس، مبينا فضلها وشيئا من أحكامها وآدابها، تذكيراً لنفسي المقصرة أولا ثم تذكيراً لغيري بهذه السنن عملا بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
راجياً من الله تعالى أن يجعلني ومن ساهم في نشرها ممن قال فيهم صلى الله عليـه وسلم: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) رواه مسلم.
تطرقتُ في مقالين سابقين على اثنتين من السنن المهجورة وهي: سنة الاقتصاد في استعمال الماء، وسنة استعمال السواك، وها أنا الآن أتطرق إلى السنة الثالثة فأقول وبالله التوفيق:
ثالثاً: السُّترة في الصلاة
إن من السنن التي سنها النبي صلى الله عليـه وسلم سنةَ اتخاذ السترة عند الصلاة، والمراد بالسترة: ما يجعله المصلي أمامه ليكون حائلاً وحاجزاً عما وراءه كيلا يمرّ مارٌ بين المصلي وبين موضع سجوده.
وقد أكد النبي صلى الله عليـه وسلم على مشروعيتها فقال: (إذا صلى أحدكم فليصلِ إلى سترة، وليدنُ منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحدٌ يمر؛ فليقاتله فإنما هو شيطان) رواه أبو داود.
وقد حرص النبي صلى الله عليـه وسلم على هذه السنة حتى لو كان في الصحراء أو في السفر فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليـه وسلم كان إذا خرج يوم العيدِ أمر بالحَربَةِ فتوضعُ بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعلُ ذلك في السّفر. رواه البخاري
وقد بين النبي صلى الله عليـه وسلم الحِكمة من ذلك فقال: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يمرّ الشيطان بينه وبينها) رواه البيهقي. وفي لفظ عند أحمد وغيره: (لا يقطع الشيطان عليه صلاته).
بل أرشد عليه الصلاة والسلام إلى مشروعيةِ دفعِ من يريد المرور بين يدي المصلي وسترته فقال: (إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه؛ فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليـه وسلم: (يَقطعُ الصَّلاةَ المرأةُ والحمَارُ والكلبُ، ويقِي ذلكَ مثلُ مؤخرةِ الرَّحْلِ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤخرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ) رواه مسلم.
ومؤخرةُ الرحل: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب.
ويقدر طولها بذراع أو ثلثي ذراع.
قال الألباني رحمه الله في صفةالصلاة: وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدعَ شيئاً يمر بينه وبين السترة؛ فقد كان مرة يصلي؛ إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فَسَاعَاهَا [أي: سابقها] حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرت من ورائه] رواه الطبراني.
وهذه السنة عمل بها الصحابة، وأرشدوا الناس إليها.
قال عمر رضي الله عنه: "المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها" أي باتخاذها سترة لهم.
وعن قرّة بن إياس قال: رآني عمر وأنا أصلي بين أسطوانتين فأخذ بقفاي إلى سترة فقال صلّ إليها. رواهما البخاري معلقاً ووصلهما ابن أبي شيبة.
وقد كانوا رضي الله عنهم يتسابقون إلى السواري في المسجد يتخذونها سترة لهم ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب حتى يخرج النبى صلى الله عليه وسلم.
وفي مصنف عبد الرزاق أن عمرو بن دينار قال: مررت إلى جانب ابن عمر [أي: وهو يصلي]، فظن أني أمر بين يديه، فثار ثورة أفزعتني، ونحاني.
وعند ابن أبي شيبة في مصنفه أن عبد الله بن بريدة قال: رأى أبي ناساً يمر بعضهم بين يدي بعض في الصلاة فقال: ترى أبناء هؤلاء إذا أدركوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون.
وفي المصنف أيضاً عن ابن سيرين قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قائماً يصلي، فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمرّ بين يديه فدفعه، وأبى إلا أن يمضي، فدفعه أبو سعيد فطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذتُ.
ولا بد من التنبه لما يلي:
1. لا يجزئ أن يضع أمامه عصاً عرضاً ولا أن يخط خطاً ولهذا قال الإمامان مالك، والليث: "الخَطُّ باطل وليس بشىء"، فمن لم يجد شيئاً يستتر به فإنه لا شيء عليه.
2. إن هذا الحكم عام في جميع المساجد، ولا يستثنى منها المسجد الحرام ولا المسجد النبوي لعدم ورود ما يدل على استثنائهما، قال ابن بطال في شرح البخاري: "والسترة للمصلي معناها: درء المارّ بين يديه، فكل من صلى فى مكان واسع، فالمستحب له أن يصلى إلى سترة بمكة كان أو غيرها".
3. بين العلماء أن مقدار المسافة بين المصلي وبين السترة يكون قريباً من ثلاثة أذرع.
4. مذهب جمهور العلماء على أن المراد بقطع الصلاة نقص أجرها لا بطلانها، كما أشار إلى ذلك الإمام النووي والشوكاني وغيرهم.
فلنحرص جميعاً على امتثال هذه السنة العظيمة، فإن الإتيان بها من مكملات الصلاة، ومن تمامها وحسنها، ولنحذر من مخالفة أمر النبي صلى الله عليـه وسلم، فإنه لم يترك شيئاً يقربنا إلى الله إلا أمرنا به، وأرشدنا إليه، ولم يترك شيئاً يباعدنا عن الله تعالى؛ إلا حذرنا منه، قال أبو بكر رضي الله عنه: "لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم" رواه مسلم.
وقال الإمام ملك رحمه الله: السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.