إنه لقرآن كريم
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وجعله نورا وهداية وكفاية لعباده وكان بهم خبيرا بصيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله المبعوث بالحق شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛
أيها المسلمون اتقوا ربكم و أطعوه و استمسكوا بهديه و عظموه، قال تعالى:ﵟلِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ١٥ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵕﵑﵜ
أيها المسلمون ها هو شهر الخير أناخ بخيراته بينكم، وآذن بحلول نعم ربكم عليكم، أبوابٌ من النفحات والجنات قد فتحت، وموائد للخيرات قد هيئت، ودار العذاب قد غلّقت، ومردة الشرور قد صفّدت، أيام معدودات، وعتق من النار ورحمات، ومغفرة من الله ومحو للسيئات، ونداء من السماء وإجابة للدعوات، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، فالمحروم من حرم هذه الأيام، والملوم من فرط في غنيمة الزمان.
أيها الناس إن رمضان تتجدد فيه دواعي الإيمان، وتبرز فيه خصال الخير والإحسان، فهو شهر القرآن الذي هو منبع الإيمان، ومأدبة الرحمن، ﵟشَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵘﵑﵜ، وبقدر التعلق به وبتلاوته يعرف العبد ميزان استغلال شهره، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ» ([1])، فليل رمضان إنما يعمر بالقرآن، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة»([2]) .
وقد كان السلف الكرام إذا دخل رمضان قالوا: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، والقرآن هو الكتاب المبين، والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين، كتاب أنزله الله بعلمه، وجعله آيةَ خاتم رسله، فضل الله به أمة الإسلام على أمم العالمين، نورٌ يبدد الظلمات، وبرهان يقطع كل حجة، وحبل ممدود من السماء: ﵟقُرۡءَانًا عَرَبِيًّا غَيۡرَ ذِي عِوَجٖﵞ ﵝالزُّمَر : ﵘﵒﵜ وقال تعالى: ﵟقُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِﵞ ﵝالجِن : ﵑ - ﵒﵜ وكتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود، هو شفيع أهله يوم القيامة، والمحاج عن صاحبه، وأهله هم أهل الله وخاصته، وخير الناس من تعلمه وعلمه، وما تقرب أحد إلى الله تعالى بأفضل من كلامه، وهو أعظم ذكر كل حرف منه بعشر حسنات، وكل آية منه خير مما في السماء والأرض، فيه علم الأولين والآخرين، وهو نور لتاليهِ في الأرض، وذخر له في السماء، ما خلا قلب منه إلا خرب، كفى به واعظا لمن عقل، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.
وقد أمر الله بترتيله وتلاوته وحث على تدبر آياته، والتفكر في عجائب أسراره وأخبر أن الذين يتلونه لهم تجارة لن تبور، وأجر عظيم وفضل كبير من غفور شكور، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم به حتى تتفطر قدماه، فلو طهرت القلوب ما شبعت منه أبدا، ولو تدبرته العقول لرأت فيه من الآيات عجبا، قال تعالى: ﵟقُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵔﵔﵜ ، وقال تعالى: ﵟإِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٠ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵙ - ﵐﵑﵜ.
أيها المسلمون من عرف شرف الزمان شحّ بوقته، ومن طلب مرضاة ربه اجتهد في خدمته، وإن الصيام والقرآن في رمضان قرينان لا يفترقان، وبقدر المحافظة على القرآن يحفظ الصيام، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، جهاد بالنهار على الظمأ وحفظ الصيام، وجهاد بالليل على القيام وتلاوة القرآن، فمن قام بهذين الجهادين ووفى حقوقهما وفيّ أجره بغير حساب، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يقرؤون بمئات الآيات في قيامهم في رمضان حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام ومشقته، وما كانوا ينصرفون من صلاة الليل إلا في فروع الفجر، بل كان من السلف من يختم القرآن في كل ثلاثة أيام في رمضان، فإذا دخلت العشر الأواخر ختم في كل يوم.
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل في رمضان جماعة ليسمع الناس فيه القرآن كاملا، قال ابن رجب رحمه الله: « وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وكان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه» ([3]) ، وكانوا يجلسون في المساجد ويتفرغون من أشغالهم ويحفظون أوقاتهم وصيامهم.
بهذا يحفظ الصيام وتصان الجوارح، ويسارع الإنسان في الخيرات، ويترقى في درجات الإيمان والثبات، قال تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَﵞ ﵝالحَج : ﵗﵗﵜ.
فاللهمّ أعنا على طاعتك وذكرك وحسن عبادتك، اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، اللهم كما سلمتنا إلى رمضان فسلمه لنا وتسلمه منا متقبلا يا رحمن، وأعنا فيه على الطاعات وأعذنا فيه من شرور النفس والسيئات.
وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) رواه أحمد (6626)، والحاكم (2036).
([2]) رواه البخاري (1902)، ومسلم (2308).
([3]) لطائف المعارف (ص171).