إنَّ الحسنات يذهبن السيئات


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله الكريم ذي الهبات، بسط يديه بالعطايا والمكرمات، وخص عباده من دهره نفحات، وتمم بنعمته عليهم الصالحات.

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بكمال الأسماء والصفات، المحمود بالجلال والكمال في سائر الأوقات، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، المبعوث بالهدى والبينات، والمتمم للمكارم والرسالات، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه ما تعاقبت الأيام والساعات، وعلى من تبعهم بإحسان وسلك سبيل التقوى والطاعات.

أما بعد أيها الناس، اتقوا ربكم وأطيعوه، وشمروا لمرضاته واعلموا أنكم ملاقوه، واستبقوا الخيرات دهركم ولا تضيعوه، وبادروا بغتة الآجال قبل حسرة التقصير فيما قدمتموه.

 عباد الله إنكم في ممر الليل والنهار، أيام معدودة وأعمار محدودة وأعمال محفوظة، فالدنيا متاعٌ قليل وأمدٌ قصير قد آذنت بانقطاعها وأحاطت كلاليبُ المنايا بأهلها ونادت بالرحيل تعاقب أيامها، فالعمر مهلة والأجل بغتة، والحوادث عبرة والخير فرصة والغفلة حسرة ولا تسمع إلا كان ثم مضى، وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت، ﵟ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ﵞ ﵝالحَشۡر : ﵘﵑ - ﵙﵑﵜ

أيها المسلمون روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ»([1]) ، والمغبون من يبيع باهض الثمن بأبخس ثمن، ويضيع النفيس بما لا يسوى، فمن جعل شبابه لهوا ومتعة وجعل صحته سياحة في كل لذة، وجعل غناه تبذيرا ومترفة، وجعل فراغه نوما ومضيعة، وجعل حياته أيام غفلة عن الآخرة فهو مغبون، وسينادى يوم القيامة يوم الحسرة: ﵟيَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُﵞ ﵝالنَّبَإ : ﵐﵔﵜ

 يقول: ﵟ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِﵞ ﵝالزُّمَر : ﵖﵕﵜ ﵟيَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ﵞ ﵝالفَجۡر : ﵔﵒﵜ ﵟيَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ ٢٥ وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ ٢٦ﵞ ﵝالحَاقَّة : ﵕﵒ - ﵖﵒﵜ.

 الفراغ يُعمَّرُ بالطاعة، والصحة تسخر لمرضاة رب العزة، قال تعالى: ﵟفَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ ٧ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب ٨ﵞ ﵝالشَّرۡح : ﵗ - ﵘﵜ ، وجاء في الحديث: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» ([2]) .

 والوصية النبوية الجامعة: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ»([3]) ، والغريب لا يُعَمِرُ دار الغربة، وعابر السبيل لا يبني تحت الشجرة، وإنما همه الوصول إلى داره، وجمع ما يتنعم به في بيت قراره، وقد قال أهل المعرفة الصحب الكرام رضي الله عنهم: «إِذَا أمْسَيتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».

فاعتبروا وتفكروا في دنياكم، واتعظوا بسرعة زوال أيامكم، واستعدوا لما أمامكم: ﵟوَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ٣٣ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵓﵓﵜ.

فالدنيا متاعٌ وغرور والشيطان عدوٌ غرور، والمرد إلى الله وليس للمؤمن راحة دون لقاء ربه، والعاقل من تدارك اللحظات، والحازم من بادر الأوقات بالخيرات، والسعيد من سعد في الجنات، والشقي المحروم من حرم الرحمات، وتقاعست نفسه عن الصالحات، واتبع هواه وكان أمره فرطا وكان عاقبة أمره خسرا.

 ألا وان من نعم ربنا على عباده تنوع مواسم الخيرات، وتفاوت الأوقات ليتجدد النشاط في الطاعات، وإننا في شهر شعبان، وشعبان شهرٌ خصه الله برفع أعمال العام، ومغفرة الذنوب والآثام وكثرة التنفل بالصيام، فعن أسامة رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» ([4])، وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه»([5]) ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» ([6]) .

 فهذا فضل عظيم من رب كريم، وفيه حثٌّ على التوحيد والتحاب والتواصل، ونهي عن الشرك والتشاحن والتخاصم، ولا تعلق لذلك بعبادة خاصة أو صلاة مخصوصة، إنما شرطه أعظم الأعمال ترك الشرك بالله، وترك المشاحنة بين عباده، فليس في النصف من شعبان عبادة خاصة يتعبد لله بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الأحاديث الواردة في فضل التعبد في ليلة النصف بصلوات مخصوصة وتخصيص يومها بصيام كلها أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

 فأكثروا من الصوم في شهركم تصيبوا سنة نبيكم، فقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يصوم شعبان إلا قليلا، وحققوا التوحيد عباد الله ودعوا المشاحنة على الدنيا مع إخوانكم، وأصلحوا ذات بينكم يغفر لكم ربكم، ويتمم لكم أجر ليلتكم، فلا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، وأفضل الأعمال أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك.

 والدنيا لا تدوم وهي أحقر من أن تفرق بين المسلمين، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن عفا وأصلح فأجره على الله، والدفع بالإحسان يقلب العداوة محبة وولاية، ومن قصد الله هانت عليه الأمور العظيمة، والخَيِّر من يبدأ غيره بالخير والمحسن من يحسن إلى المسيء، والواصل ليس بالمكافئ، ومعادن الأخلاق تظهر عند الاختلاف وتنازع الدنيا، ومن عمل للآخرة عمي عن نقائص الدنيا .

 إن ترك الشرك والشحناء أعظم قيام بحق الله وحق عباده المؤمنين، ويدخل في التشاحن عند العلماء الذي في قلبه شحناء على أفضل الخلق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام على أصحابه المكرمين هذا أعظم جرما من مشاحنة أهل الزمان، فحقهم الذكر بالجميل والحب والولاء والتقدير، لا يستثنى منهم أحد فمن خالف هذا فهو على غير السبيل، وكذا علماء الدين والأئمة المهديين من السابقين واللاحقين، ويدخل في المشاحنة كما قال الأوزاعي وغيره: صاحب البدعة المفارق للجماعة المنازع للسلطان، وكذا التارك للسنة الطاعن على الأئمة والأمة، السافك للدماء المستحل للأموال والأعراض كالخوارج المارقين والضلال المفسدين بالفتن الساعين لجر المحن، وهذه الشحناء قد تخفى على البعض وقد نص عليها العلماء، وهي من أسباب حرمان المغفرة من رب الأرض والسماء.

 فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمن بمغفرته، وأن يتولانا بولايته، وأن يزكينا بطهارة قلوبنا، وأن يوفقنا إلى ما يرضى به عنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 


 

([1]) رواه البخاري (6412).

([2]) رواه الحاكم (7846)، وهو في  صَحِيح الْجَامِع (1077).

([3]) رواه البخاري (6416).

([4]) رواه النسائي (2357) ، وهو في صَحِيح الْجَامِع (3711).

([5]) رواه البيهقي في شعب الإيمان  (3551)، وحسنه الألباني  في صَحِيح الْجَامِع (771).

([6]) رواه ابن ماجه (1390)، وحسنه الألباني.