الإسراء والمعراج
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛
أيها المسلمون، نقف معكم اليوم على حدث من أحداث التاريخ العظام، ودرس من دروس سيرة رسول الإسلام، ومعجزة من معجزات خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، تواترت به الأخبار، وأجمع عليه أهل الآثار، حدث هزّ مكة بأرجائها، وزادت به قريش في عتوّها، بل من هول سماعه ارتد أناس، وعظم عند البعض الالتباس، حير العقول، وخرق ناموس المشاهدة، وأحزن الرسول حتى قال صلى الله عليه وسلم: «لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعت بأمري-أي اشتد عليّ وهبته من فظاعته- وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلا حزينا» ([1])، وفي رواية عند مسلم: «فكربت كربة ما كربت مثله قط» ([2]) .
هذا هو الإسراء أيها المسلمون، ﵟسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵑﵜ ، عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ» ([3]) ، وهذا تهيئة لرؤية آيات ربه الكبرى، ثم أسري به عليه الصلاة والسلام يقظة لا مناما، بروحه وجسده من مكة من بيت أم هانئ إلى بيت المقدس، بصحبة جبريل راكبا البراق، وما ركبه أحد أكرم على الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم كما قال له جبريل عليه السلام، والبراق دابة بيضاء يشبه الفرس يضع حافره عند منتهى طرفه، فسار عليه حتى أتى بيت المقدس، فربطه بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء، ثم دخل المسجد فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أوتي صلى الله عليه وسلم بالمعراج، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، وتلقاه من كل سماء مقربوها، ورأى في السماء الدنيا آدم أبا البشر صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام،
ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها يحيى وعيسى ابن مريم، ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس، ثم عرج به إلى الخامسة فرأى فيها هارون ابن عمران، ثم عرج به إلى السماء السادسة فرأى فيها موسى ابن عمران، ثم رفع إلى السماء السابعة فرأى فيها أباه إبراهيم الخليل، مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي في السماء السابعة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة من كثرة ما في السماء من الملائكة الكرام، ثم جاوز عليه أفضل الصلاة والسلام جاوز منزلة الأنبياء عليهم السلام فَرُفِعَ حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام التي يكتب بها القدر، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله فرأى الحجاب وحجابه النور كما قال صلى الله عليه وسلم، وأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم خففها إلى خمس في العدد وخمسين في الأجر، وهذا فيه دلالة على كرامة هذه الأمة على ربها عز وجل وعلى رحمته بها وعلى عظم الصلاة وأهميتها حيث فرضها الله عز وجل من فوق السماوات، فيا فوز من حافظ عليها ويا خسارة من فرط فيها، ثم ذهب به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا ورقها كآذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها([4]) ، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: « لما انتهيت إلى السدرة، فإذا نبقها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها، تحولت ياقوتا، أو زمردا أو نحو ذلك »([5]) ، فما يستطيع أحد أن يصفها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ -أي قِباب اللؤلؤ- وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْك» ([6]) ، «وَرَأَيْتُ النَّارَ» ([7]) ﵟعِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨ﵞ ﵝالنَّجۡم : ﵔﵑ - ﵘﵑﵜ،
ثم هبط صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم في بيت المقدس إماما، فدل على أنه هو الإمام المقدم عليه أفضل الصلاة وعليهم، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فلما أصبح أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، ولم يكن قد رآه من قبل، يختبروه بذلك وليسخروا منه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ»([8]) ، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: «فجيء بالمسجد -وربك على كل شيء قدير- وأنا أنظر حتى وضع دون دار عقيل فنعته، وأنا أنظر إليه» ([9]) ، وطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه وفي رجوعه وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبى الظالمون إلا كفورا إلا أهل الإيمان، فقد أرسلوا للصديق رضي الله عنه يخبروه عن صاحبه بما قال، فقال: إنا نصدقه بأكثر من ذلك، إنا نصدقه بخبر السماء صباح مساء، فسمي من ذلك اليوم الصديق، وهذا هو الواجب على المسلمين اتجاه نبيهم واتجاه ما يخبر به عليه الصلاة والسلام، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛
أيها المسلمون، إن من الأمور العظام، ومن آيات الله عز وجل التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسراه جبريل عليه السلام رآه في صورته التي هو عليها، وقد خلق عليها له ست مئة جناح في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض، ومما رآه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتت علي رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إذ سقطت المدرى-المشط أو إناء الزيت- من يديها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ -وفي رواية : تعنين أبي- قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟ قالت: نعم، الله، قالت: فأخبر بذلك أبي، قالت: نعم-أي أخبريه- ، فأخبرته، فأرسل إليها فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق- أي جزاء ما قدمتيه لنا من خدمة- قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها، واحدا واحدا،-وكلما ألقي واحد اشتوى وانفصل عظمه عن لحمه- إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع، كأنها تقاعست من أجله-فأنطقه الله-، فقال: يا أمتاه اثبتي فإنك على الحق»، وفي رواية: «يا أمه، اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت» ([10])، هذا هو الإيمان أيها الناس إذا عمر القلوب، ودخلت بشاشته فيه، وهذه هي التضحية من أجل الإيمان ﵟأَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٤ مَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَأٓتٖۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٥ وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٦ﵞ ﵝالعَنكَبُوت : ﵒ - ﵖﵜ .
هذا هو الإسراء أيها المسلمون، وهذه بعض معالمه وهو من أعظم فضائل رسولنا عليه الصلاة والسلام، ولكن ذلك لا يخص بعبادة، فإنه لم يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور، بل لا يعرف أيّ ليلة كانت على التحقيق، قال ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ([11]) ، والخير كل الخير في الاتباع، والوقوف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته عليهم رضوان الله، فالسعادة منوطة بذلك، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على هذا الدين العظيم، كما نسأل عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل فتنة ومن كل شر، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
([1]) رواه أحمد (2819).
([2]) رواه مسلم (172).
([3]) رواه مسلم (163).
([4]) رواه أحمد (12505).
([5]) رواه أحمد (12301).
([6]) رواه البخاري (3342)، ومسلم (163).
([7]) رواه البخاري (5197)، ومسلم (907).
([8]) رواه مسلم (172).
([9]) رواه أحمد (2819).
([10]) رواه أحمد (2821)، وابن حبان (2903).
([11]) تبيين العجب فيما ورد في شهر رجب (ص2).