فوائد قرآنية - (١٢) تلاوة القرآن حقَّ التلاوة
إنَّ من علامات إخلاص قارئ القرآن، ودلائل رغبته الصادقة فيما عند الله تعالى من الفوز بالثواب العظيم الذي رتَّبه الله عزَّ وجل على تلاوة القرآن =أن يُعطى القرآن حقَّه من التلاوة، وأن يكون في قراءته على سمت الأوائل من الصحابة والتابعين، فيجمع بين تلاوة القرآن حفظاً لحروفه، وإقامة لألفاظه، وعقلاً لمعانيه، وفهماً لكلماته، وعملاً بما دل عليه من لزوم الحق، فيُطبق المأمور، وينزجر عن المحظور، ويُحِل الحلال، ويُحرِّم الحرام، ويتَّعظ بقصص القرآن، ويؤمن بأخباره، ويتفكَّر في أمثاله، إلى غير ذلك من لوازم تلاوة القرآن حقَّ تلاوته.
وكل هذه المعاني داخلة في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك لفظ "التلاوة" فإنها إذا أُطلقت في مثل قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} تناولت العمل به، كما فسَّره بذلك الصحابة والتابعون مثل: ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم، قالوا: يتلونه حقَّ تلاوته يتبعونه حقَّ اتِّباعه؛ فيُحِلُّون حلاله، ويُحرِّمون حرامه، ويعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمُتشابهه.
وقيل: هو من التلاوة بمعنى الاتِّباع كقوله: {والقمر إذا تلاها}، وهذا يدخل فيه مَن لم يقرأه.
وقيل: بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً"([1]).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأوَّل ينزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومُحْكَم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمرتم به، وانتهوا عمَّا نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمُحْكَمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنَّا به كل من عند ربِّنا»([2]).
ومَن كان على الوصف المتقدِّم من التلاوة للقرآن فإنه مُثنى عليه عند الله وممدوح على هذه التلاوة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29]، وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وهذه التلاوة وسيلة وطريق، والمقصود التلاوة الحقيقية، وهي تلاوة المعنى واتِّباعه؛ تصديقاً بخبره، وائتماراً بأمره، وانتهاء عن نهيه، وائتماماً به، حيث ما قادك انقدتَ معه، فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة، فإنهم أهل متابعة وتلاوة حقّاً"([3]).
([1]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/167-168).
([2]) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3102)، وابن حبان في صحيحه (745) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2031)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (587).
([3]) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/115).