فوائد قرآنية - (١١) تصنيف آي القرآن


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

أجلُّ الفوائد وأنفعها وأخيرها وأقواها في التعلُّق بكتاب الله والارتباط به هو تدبره والتأمل في ألفاظه وما دل عليه.

ومن أحسن ذلك أن يتفكر القارئ في الآيات التي تمر عليه، ويصنفها تصنيفاً تساعده على تدبرها والتفكر فيها والنظر في معانيها، قال أبو إدريس الخولاني رحمه الله: "إنما القرآن آية مبشرة، وآية منذرة، وآية فريضة، أو قصص، أو أخبار، وآية تأمرك، وآية تنهاك"([1]).

وهذا يدل على دقة عناية السلف الصالح بتصنيف آيِ القرآن، وبهذا انتفعوا به وفقهوا المراد منه.

ولعل من خير ما يوضع هذا الأثر ويبين معناه ويجلي مقصوده ما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: "تأمل خطاب القرآن؛ تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله، أزِمَّةُ الأمور كلها بيديه ومصدرها منه ومرَدُّها إليه، مستَوِياً على سرير مُلكِه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مُطَّلِعاً على إسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويُقدِّر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقِها وجليلِها وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.

فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه؛ فيذكِّرُهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نِقَمِه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم ما العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويُصدِّق الصادق، ويُكذِّب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويُذكِّر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرَّةً من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.

ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مُقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومُصلِحٌ فسادهم، والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه ولِيُّهم الذي لا وليَّ لهم سواه؛ فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم؛ فنعم المولى ونعم النصير.

فإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟!

وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاءها وقوتها ودواءها؛ بحيث إن فقدت ذلك؛ فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!"([2]).

فهذا بيان كافٍ وتوضيح شافٍ -من هذا الإمام بحق- فيه أنواع خطابات القرآن ومقاصدها بها يهتدي قارئ القرآن، وبها يستنير في تلاوته، وبها يصل إلى مراد الله من خطابه، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

 


 


([1]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/123). 

([2]) الفوائد (ص:39-41).