الصيام واحة الإخلاص


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

إن تربية النفوس على الصدق والإخلاص لله -تبارك وتعالى- من أعظم المأمورات الشرعية.

وقد حرص ديننا الحنيف على تصفية النفوس وتنقيتها من كل ما يشوب صدقها وإخلاصها لباريها -سبحانه-، وجعل لنا هذا الدين من الأسباب والوسائل المُعِينَة على تحقيق ذلك الصدق والإخلاص؛ فكان من تلك الأسباب والوسائل: الصيام. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»، فهذا الحديث متضمن للإخبار بقضية كبرى؛ ألا وهي منزلة الصدق والإخلاص لله -تعالى- في دين الإسلام.

فإنه لمَّا كان الصدق والإخلاص شأنه عزيز في دين الإسلام، امتاز الصيام بميزة خاصة فيه دون غيره من العبادات، قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: «قد علمنا أن أعمال البر كلها لله -تعالى- وهو يجزي بها، فنرى -والله أعلم- أنه إنما خَصَّ الصوم بأن يكون هو الذي يتولَّى جزاءه؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل، فتكتبه الحفظة. وإنما هو نية بالقلب وإمساك عن حركة المطعم والمشرب والنكاح...»، إلى أن قال: «وذلك أن الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات؛ إلا الصوم خاصة، فإنما هو بالنية التي قد خَفِيَت على الناس، فإذا نواها فكيف يكون ههنا رياء؟!» ا.هـ.

والمقصود هنا؛ أن الله -سبحانه وتعالى- إنما أوجد الخلق لغاية عظيمة، وهي توحيده -سبحانه-، الذي قال: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتابه الأم: «خلق الله الخلق لعبادته»، وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم».

والعبادة التي أمر الله -سبحانه- بها لا تتحقق إلا مع وجود إخلاص في العبودية لله -تبارك وتعالى- الذي قال: «وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ»، وقال: «فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين»؛ فعُلِمَ من ذلك أن ارتباط العبادة بالإخلاص قضية كبرى، يجب على كل مسلم أن يتفهَّمَها فهمًا جيّدًا.

وإنَّ المتأمِّل في الفرق بين الصائم والممسك عن طعامه؛ يرى أن الصائم إنما عَلَتْ رُتبته، وسَمَت منزلته؛ بقصده أن يكون ذلك الإمساك ابتغاء وجه الله -تعالى-، وهو الإخلاص المقصود في النصوص الشرعية، فكان الفارق بينهما تلك النية التي جعلت للصائم من الثواب ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه: «عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدل له».

ومن المعلوم والمتقرّر أن العبد إنما يتَّقي النار بإخلاص التوحيد والعبودية لله -تبارك وتعالى-؛ فإنه أساس حفظ العبد من عذاب الله -تعالى-، كما قال الله -عز وجل-: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ»، ومن ههنا كان «الصيام جُنَّةٌ يَستَجِنُّ بها العبد من النار»، كما في الحديث، أي: وقاية يَتَّقي بها العبد من النار؛ وذلك لما في الصيام من التوحيد والإخلاص لله -تبارك وتعالى-.

ثم تأمل ما في قول الله -تعالى- عن الصائم في الحديث القدسي: «يَدَعُ طعامه وشرابه وشهوته من أجلي»، تَجِدُ ههنا معنى جليلاً؛ وهو أن الصائم يترك من الأشياء ما هو أكثر ملازمةً له في يومه وليلته، وهو الطعام والشراب والشهوة، رغم حاجته إليها، ولكنه إنما تركها لله -تعالى-، فقال -سبحانه-: «من أجلي»، فكان الصائم في ذلك إنما مراده ومقصوده أن يحصل له الرضا من ربه -تبارك وتعالى-، فكان لأجل ذلك الرضا قد هان عليه أن يكسر حظوظ نفسه وحاجتها من الطعام والشراب والشهوة، قاصدًا بذلك وجه ربه -تبارك وتعالى-.

فإذا علمتَ هذا أخي المؤمن؛ عرفتَ معنى قول أهل العلم: «ما استعانَ أحدٌ على تقوى الله تعالى وحفظ حدوده بمثل الصيام».