بعض أقوال أهل العلم على حجية أقوال الصحابة رضي الله عنهم ووجوب اتباعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله ، وآله أجمعين ، وأصحابه المباركين ، ومن تبِعَهم إلى يوم الدين ، وبعد؛
فهذا نقلٌ مُبارك إن شاء الله تعالى ، لبعض أقوال أئمة الدين وأعلامه ، من السابقين والخالفين ، عليهم رحمات الله تعالى أجمعين. جمعتها رجاء أن ينفع الرب سبحانه بها، وأن يُجزِل المثوبة لناقلها ، ورجاء العفو عن زَلَلِ كاتبها ، فإنه تعالى أهل العفو والمغفرة. ثم رجاء أداء شيء من الحق الذي في أجدُه في عُنُقي تِجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ، ورضي عنهم أجمعين ، فإنّ الحقّ الذي لهم أكبر من أن يُوفيه أمثالي، ولكنها الرغبة في التطفّل على أسفار العلماء، والنظر في علوم الأئمة الأجلاّء، رجاء اللحاق بركبهم، والتعلّق بأذيال رِكابهم، لعلّ الرب سبحانه أن يجمعنا بهم لمحبّتنا إياهم، إنه نِعم المولى ونِعم المستعان. ولا أُطيل عليك أخي القارئ الكريم، لتَستَقِيَ من أقوال هؤلاء الأئمة، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بعلومهم، وأن يَجعلنا نحتمي بفهومهم، عن آحاد الفهوم التي لم تستنر بكتاب الله تعالى ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، مع حُسن القصد والعمل والاتباع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم.
وقد جعلتُ وَشْيَ ذلك المقصد، شيئاً من أدلة القرآن وصحيح السنة، عَصَمَنا الله بهما.
ودونك أخي الكريم ذلك المقصد ، والله المستعان :
قال تعالى: ( والسّابِقون الأَوَّلون من المهاجِرينَ والأَنصارِ والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ رضِيَ الله عنهم ورَضوا عنه وأعدَّ لهم جنات تَجرِي تَحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم).
قال الإمام الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : (وما رأيُ امرِئٍ في أمر بلَغَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتِّباعه , ولو لم يكن فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فيه أصحابه من بعده ؛ كانوا فيه أولى بالحق منّا؛ لأن الله تعالى أثنى على من بَعْدَهم باتِّباعِهم إيّاهم , فقال: (والذين اتّبعوهم بإحسان) ؛ وقلتم أنتم: لا !! بل نَعْرِضُها على رأيِنا في الكتاب ، فما وافقه منها صدَّقناه , وما خالفه تركناه , وتلك غاية كل مُحْدِثٍ في الإسلام : ردُّ ما خالف رأيَه من السنة ) .
وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: (كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا تتعبَّدوا بِها ؛ فإن الأول لم يَدَع للآخر مقالاً , فاتّقوا الله يا مَعشَر القُرّاء , خُذوا طريق من كانَ قبلَكُم ).
وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (من كان منكم مُتَأَسِّياً فَلْيَتَأَسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم كانوا أبَرَّ هذه الأمة قلوباً , وأعمَقَها عِلماً ، وأقلَّها تكلُّفاً , وأَقْوَمَها هَدياً , وأحسنَها حالاً , قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم , فاعرفوا لهم فضلهم , واتَّبعوهم في آثارهم , فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (النجوم أَمَنَةٌ للسماء , فإذا ذهبت النجوم أتى السماء أمرها , وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يوعدون , وأصحابي أَمَنَةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) رواه مسلم .فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نسبة أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ لمن بعدهم كنسبته هو لأصحابه.
وقال تعالى : (فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا ) ، قال ابن القيم: (فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزاناً للتفريق بين الهداية والشقاق , والحق والباطل ). وقال ابن أبي حاتم ـ رحمه الله ـ : (ونَدَبَ الله عزَّ وجلّ إلى التمسُّكِ بِهَديهم ـ يعني: الصحابة ـ ، والجَرْيِ على مِنْهاجِهم , والسلوكِ لسبيلهم ، والاقتِداء بهم فقال : ( ومن يًشاقِق الرسول من بعد ما تَبَيَّنَ له الهدى ويتَّبِع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تَوَلّى ونُصْلِه جهنم وساءَت مصيراً )).
وقال الإمام الأصبهاني قوّام السنة ـ رحمه الله ـ: (... لأنّ الدين إنّما جاء من قِبَل الله تعالى , ولم يُوضَع على عقول الرجال وآرائهم , فقد بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم السنّة لأمَّتِه ، وأوضَحَها لأصحابه , فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل ) ا.هـ.
وقال الهيثم بن جميل: قلت لمالك: إنّ عندنا قوماً وضعوا كُتُباً ، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بكذا. وكذا فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ بقول إبراهيم. فقال مالك: وصحَّ عندهم قول عمر؟، قلت: إنما هي رواية، كما صحّ عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يُستَتابون.
وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (أصول السنة عندنا : التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والاقتداء بهم ....). وقال ـ رحمه الله ـ : (رأيُهُم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا).
وقال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ: (العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما لم يَجِئ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بعلم). وقال أيضا رحمه الله ـ : (عليك بآثار من سلف ؛ وإن رَفَضَك الناس , وإيّاك ورَأيَ الرجال ؛ وإن زَخرَفوه لك بالقول ، فإنّ الأمر يَنْجَلي وأنت منه على طريق مستقيم).
قوله: (من سلف): يعني الصحابة، لأن لفظ السلف قد يطلق ويراد به القرون الثلاثة المفضلة، وقد يطلق ويراد به الصحابة، وهو في الغالب إذا كان قد أطلق عند السلف فيراد به الصحابة.
وقال أبو العالية رحمه الله: (عليك بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا) ، يعني : ما كانوا عليه قبل مقتل عثمان رضي الله عنه .
وقال محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ عن الصحابة: (هم حجة الله على خلقه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , يُؤَدّون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أَدَّى إليهم ؛ لأنه بذلك أمرهم) ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فَمَنْ بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة ، والآثار المأثورة عن السابقين ؛ فقد أصاب طريق النُّبُوَّة)اهـ."يريد بالسابقين الصحابة لأن سياق الكلام كان عنهم".
وفي الحديث المشهور في افتراق الأمم ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) .
قال ابن القيم رحمه الله: (فاتِّباع ما عليه الصحابة زمن النبوة، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مناط النجاة والهداية ، وخلافه: من سبل الفرق الهالكة التي هي تحت الوعيد بمخالفتها منهج الصحابة) ا.هـ.
وفي قصة ابن مسعود رضي الله عنه مع أصحاب الحِلَق أنه كان فيهم رجل يقول لهم: ( كَبِّروا الله كذا، وسبِّحوا الله كذا، واحمدوه كذا وكذا) ، فلما جاءهم ابن مسعود رضي الله عنه قال: (والذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد سَبَقتُم أصحاب محمد علماً ) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وقد عَلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، كما علّمهم السنة أتمَّ تعليم وأكمله، ولم يشاركهم أحدٌ في التلَقِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ؛ فلا يُماثِلُهم أحد في كمال علمهم وفهمهم ؛ لأن من تَلَقّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلَّم على يديه ليس كمِثْلِ من تَلَقّى عن غيره ، إذ لا يمكن لأحدٍ أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتعليم ) .
وقال رحمه الله: ( ومعلومٌ أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها ، فيا سبحان الله !! أيَّةُ وَصْمَةٍ أعظم من أن يكون الصدّيق ، أو الفاروق ، أو عثمان ، أو علي ، أو ابن مسعود ، أو سلمان الفارسي ، أو عبادة ابن الصامت ، وأضرابُهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم الله أنه : كَيْتَ وكَيْتَ في مسائل كثيرة ؛ وأخطأ في ذلك ، ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تَبِعَ مَن بَعدَهم فعرفوا حكم الله الذي جَهِله أولئك السادة ، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة ؛ سبحانك هذا بهتان عظيم !! ) .
قلت: وهذه المسألة مسألة عظيمة نكص عنها كثيرٌ مما ينتسب إلى الفقه، ونبذوها وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وإنما كان هَمُّ الرجل منهم: الاشتغال بالخلاف الواقع في المذاهب الفقهية، وإذا ذَكَرَ أحدُهم قولاً لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحسبه أن يقول: (هذا مذهب المالكية ـ مثلاً ـ وقال: به فلانٌ من الصحابة) ، وكأن الصحابة قد وافقوا المالكية على هذا القول ، نسأل الله أن يلهمنا سلوك طريق الصواب ، وأن يُحيِيَنا عليه، وأن يُثبِّتنا عليه، وأن لا يقبضنا إلا عليه؛ إنه وليُّ ذلك سبحانه.
قال رجلٌ للشعبي: (اتّفَقَ شريحٌ وابنُ مسعود, فقال له الشعبي : (بل تَبِعَ شريحٌ : ابنَ مسعود؛ وإنما يَتَّفِقُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والناس لهم تَبَع).
ولكن يجب التنبيه إلى أمرٍ مهمٍ جداً وهو: أنه ليس فيما ذكرناه ادِّعاء العصمة لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيبون ويخطئون ، ويُؤخذ من قولهم ويُرد ، وإنما العصمة هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه فإننا إذا تعارض عندنا نصٌّ من الكتاب والسنة مع قول أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا عبرة بقول أحد أبداً بعد قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: (كلٌ يُؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول أحدٍ كان من كان).
ونقول أيضاً: إذا اختلفت أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة فالعبرة بما وافق الدليل الصحيح، ولكنّنا لا نخرج عن هذه الأقوال أبداً إلى غيرها، ولا نُحدث قولاً لم يسبقنا إليه أحد.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (آخذ بكتاب الله، فما لم أجد؟ فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ؛ أخذتُ بقول أصحابه، آخذ بقول من شئتُ منهم ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم ... )اهـ.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (إذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقاويل مختلفة يُنظر إلى ما هو أشبه بالكتاب والسنة فيُؤخذ به، فإن تعذر ذلك من نص الكتاب والسنة؛ أُعتبرت أقاويلهم من جهة القياس فمن شابه قوله أصلاً من الأصول أُلحق به) ا.هـ.
وقال قتادة رحمه الله تعالى : ( أحقُّ من صدَّقتُم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، الذي اختارهم الله لصحبة نبيِّه ، وإقامة دينه ) رواه أحمد (برقم 12375 رسالة) بإسناد صحيح .
قلتُ : وهذه أيُّها القارئ الكريم ، تَقدمة لمباحث تتبعُ إن شاء الله تعالى في فقه الأصحاب رضي الله عنهم أجمعين .
كتبه راجي عفو ربه تعالى
حامد بن خميس بن ربيع الجنيبي
غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين