لا يكاد يخفى أن منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام كبيرة، فهي من الشعائر العظيمة التي أكَّد عليها الشرع الحنيف غاية التأكيد؛ لما فيها من المصالح العظمى المتمثلة في صلاح الأفراد والمجتمعات في تعزيز الصواب وتصحيح الخطأ، وهي من الصفات الدالة على خيرية الأمة وفلاحها وسعادتها في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {كنتم خير أمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، وقال عزَّ وجلَّ: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، وفي صحيح مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من رأى منكم منكراً فليغيِّرهُ بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ».
ولقد أحكم الإسلامُ هذا الباب غاية الإحكام حتى لا يؤدي ذلك إلى أي نوع من الفوضى والاستغلال أو جلب المفاسد من قبل المتحمسين أو المرضى والدخلاء، فجعل له ضوابطَ وشروطاً، منها: العلمُ الصَّحيحُ المستمدُّ من الكتاب والسُّنَّة، الذي يُبصِرُ فيه المسلمُ الأمورَ على ما هي عليه شرعاً وواقعاً، ويهتدي به إلى الطُّرق المناسبة السديدة في العلاج، فبمقدار استزادة المسلم من العلم النافع تزداد قدرته على نشر الخير بين الناس، قال تعالى: {وقل ربِّ زدني علماً}، وقال تعالى ناهياً عن القول بلا علم: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ إنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا}.
ومنها: سلوكُ طريق الحكمة، بأنْ يضعَ الآمرُ والناهي الأمورَ في مواضعها من اللين والشدة واختيار الوقت المناسب ومخاطبة كلٍّ بما يناسبه وغير ذلك إذ الأخطاء متفاوتة في النوع والضرر والتأثير وكذلك المخطئ متفاوت الدرجة في المكانة الاجتماعية والعلمية فمخاطبة الأب ليست كمخاطبة الابن، ومخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل الخ، ومنها تحري الأساليب التي هي أدعى لاستجابة الناس وفق الهدي النبوي الشريف..
فيجتهد في التعبير عن المعاني بأحسن الألفاظ، ويستحضر في ذلك أنَّ الغرضَ هو هدايةُ النَّاس وإرشادُهم إلى ما يحبُّه الله ويرضاه وتجنيبُهم ما يضادُّ ذلك، فيكون همُّه تحقيقَ هذه الغاية ما أمكن، ويكون مع المنصوح كالطَّبيب الذي يجتهد في وصول الدَّواء إليه بكلِّ ممكنٍ مع تحمُّل أذاه ولائمته، كما ذكر ذلك العلماء.
ومن الضوابط أيضاً: النظر في المقاصد الشرعية ورعاية المصالح العليا المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ولذلك أكَّد أهل العلم على مراعاة المصالح والمفاسد، وأنَّ درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، وأنَّه في حال التعارض ينبغي درءُ أعلى المفسدتين، وتحصيلُ أعلى المصلحتين، وأنَّ سَّد الذرائع المفضية إلى المفاسد من الأصول العظيمة التي ينبغي مراعاتها..
كما قال الله تعالى: {ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عَدْواً بغير علم}، فنهى سبحانه عن سبِّ الآلهة الزَّائفة إذا ترتَّب عليها سبُّ الله عزَّ وجلَّ الذي هو أهل الثَّناء والمجد، ومنها: العنايةُ بالأصول الجامعة وبالخصوص في أوقات الفتن والاختلاف، فإنَّ من الصُّور المؤكَّدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمرَ بالاجتماع والائتلاف والنَّهيَ عن التَّفرُّق والشِّقاق.
ومن هنا نؤكد أنه من الضَّرورةِ بمكان فهمَ هذا البابِ العظيمِ على حقيقته ومراعاةَ ضوابطه وآدابه، ليتحقَّقَ معنى الوسطية فيه، وليتميَّزَ ما هو داخلٌ فيه ممَّا هو دخيل، فقد أدخلت الخوارجُ في هذا الباب قتالَ الحكام والخروج عليهم وخلع اليد من طاعتهم وتكفيرهم بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
وهو أمرٌ دخيلٌ مخالفٌ للكتاب والسنة وأصول أهل السنة والجماعة، وفي مقابلهم قومٌ سدُّوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإخراجه في قالب الفضول وتتبُّع العثرات والتدخُّل فيما لا يعني، حتى ساد الانحلال الديني والخلقي وهو أمرٌ دخيلٌ أيضاً مخالفٌ للشرع والعقل والواقع والفطرة..
كما أدخل قومٌ مراعاةَ أهل العلم للمصالح والمفاسد أو استعمالَهم عباراتٍ معينةً في الإنكار أو سكوتَ بعضهم لتحقُّق الفرض بغيرهم في قالب المداهنة والنفاق وقلَّة الغيرة على الدين، ولم يقبلوا منهم إلا ما يرونه من طرائق وألفاظ ولو أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهذه كلُّها أمور دخيلة، فالأمرُ بالمعروف والنَّهيُ عن المنكر من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين فلا يُلامون على سكوتهم..
كما أنَّ الاجتهادات تتنوَّع في اختيار عبارات الإنكار، فلا يكون ذلك سبباً في الاختلاف والتشاحن، ممَّا يؤكِّد علينا أن نتوخَّى الشَّرعَ في هذا الباب الجليل، وأنْ نُطعِّمَ غَيرتنا على الدين بضوابط الكتاب والسنة، فلربما أدَّى الحماسُ مع قلَّةِ العلم إلى ما لا تُحمد عقباه كالمجازفةِ بإطلاق ألفاظٍ تقتضي تكفيرَ الآخرين، فيكون صاحبُه قد عالج منكراً بمنكر.
وأخيراً فإنَّ ممَّا ينبغي على كلِّ حريصٍ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يجعل من ذلك لنفسه الحظَّ الأوفر، فيأمرها بتقوى الله تعالى، وينهاها عن معاصيه، ويربِّيها على الوقوف عند حدود الشريعة، لينال بذلك الدَّرجاتِ العلى عند ذي الجلال والإكرام، قال الله تعالى: {وأمَّا من خاف مقام ربِّه. ونهى النَّفس عن الهوى. فإنَّ الجنَّة هي المأوى}.