رمضان فرصة
شهر رمضان المبارك موسم عظيمٌ من مواسم الخير والبركة والرحمة والغفران، التي يترقَّبها المسلم كلَّ عام، وهو مدرسةٌ تربويَّةٌ يرتقي فيها الإنسان في معارج التقوى، ومدارج العمل الصالح؛ ليزداد قرباً من الله تعالى وأُنساً به وإنابةً إليه وخشيةً له، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر.
فرمضان بما حباه الله من مزايا وخصائصَ، فرصةٌ وأيُّما فرصة للارتقاء والتصحيح والتكميل، والعاقل لا يفوِّت مثل هذه الفرص، بل يحرص في جميع الأوقات على الإكثار من الخير، ومجانبة الشَّرِّ، ومعالجة الخطأ وسدِّ النقص؛ ويستزيد من ذلك قدر الوسع والطاقة، في الأيام الفاضلة التي يتيسَّر فيها من أسباب ومقوِّمات الارتقاء والتصحيح ما لا يتيسَّر في غيرها، فهنيئاً لمن اغتنم هذه المواسم فجَدَّ واجتهد وصحَّح وكمَّل.
ورمضان فرصةٌ عظيمةٌ لتحقيق التقوى، التي هي وصيَّة الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، كيف لا وهو شهر الرحمات والمغفرة، حيث ترى النفسَ فيه منكسرةً لله تعالى، منيبةً إليه، حريصةً على حسن الصيام والقيام وتلاوة القرآن، والإمساك عن اللغو والرفث، شديدةَ الرغبة في التصحيح ومعالجة الأخطاء، فالعاقل يغتنم مثل هذه الأسباب المتيسّرة، فيسارع للرجوع إلى ربِّه، والتوبة من زلاّته، والمحافظة على ما أُمِر به من عبادات قلبيَّة وقولية وعملية، وعلى رأسها الصلوات الخمس في أوقاتها، لا سيما صلاة الفجر في جماعة، التي قد يتساهل فيها كثيرٌ من النَّاس.
إنَّ رمضان فرصةٌ كبرى للتصحيح والتكميل، فهو فرصةٌ لإصلاح الباطن بتنقية القلوب وترقيقها وإعمارها بخشية الله ومراقبته، وفرصةٌ لإصلاح الظاهر بتقويم السلوك وتهذيب النفس وتربيتها على الأخلاق الكريمة من التواضع والرحمة واللين والصبر والحلم وقوة التحمل والجلد، وفرصةٌ لصحة البدن وتحصيل الفوائد الطبية، وفرصةٌ لإشباع الروح وإسعادها بالتلذذ بالعبادة، وحسن مناجاة الله تعالى، وفرصة ليتفقَّه المسلم في أمور دينه، فلا يدخلُ عليه رمضانُ إلا وقد تعلَّم واجبات الصيام وسننه ومفسداته، ليعبد الله تعالى على بصيرةٍ ونور، فرمضان فرصةٌ عظيمةٌ للتصحيح في كلِّ الأمور، ليس على مستوى فعل المأمورات، وترك الشهوات فقط، بل حتَّى على مستوى ترك الشبهات والثقافات الفاسدة أيضاً، فالتصحيح يشمل ذلك كلَّه، فيغتنم المسلم شهر رمضان للتخلص مما ابتلي به من المعاصي والزلات، سواء كانت غِيبة أو نميمة أو ربا أو شرب خمر أو زنا أو أكل المال الحرام أو غير ذلك، كما أنَّه يغتنم هذا الشهر المبارك في تصحيح أفكاره، وترك الشبهات والأفكار المضلِّلة والثقافات الفاسدة، التي تُفسد العقل وتشوِّه الدين وتورث الفتن وتجلب العداوة والبغضاء، ليخرج المسلم من الشهر الفضيل نقيَّ السريرة سليمَ القلب طاهرَ النفس ناصعَ الفكر.
كما أنَّ التصحيح يشمل أيضاً حقوق الله تعالى وحقوق خلقه، فلا ينحصر في جانب من دون جانب، ولذلك فإنَّ المسلم يحرص على أداء ما يجب عليه تجاه الآخرين، ويردُّ ما في ذمَّته لهم من حقوقٍ كاملةً غير منقوصة، ويغتنم شهر رمضان في تصحيح أيِّ خللٍ قد ابتُلي به في هذا الباب، فالزوج والزوجة يجتهدان في تصحيح جوانب التقصير، ويؤديان ما عليهما تجاه الآخر، وتجاه الأبناء من حقوق وواجبات، وهكذا الأبناء يجتهدون في تصحيح علاقاتهم مع والديهم، ويطلبون منهم الصفح إن ابتُلوا بشيء من العقوق، ويسعون في برِّهم والإحسان إليهم، وهكذا الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، والجار مع جاره، والصديق مع صديقه، والشريك مع شريكه، يصحِّح كلٌّ منهم علاقته بالآخر، ويفتح معه صفحةً ناصعةً عامرةً بالخُلُق الكريم والمعاملة الطيبة.
ومن ذلك أيضاً أنَّ رمضان فرصةٌ لأداء حقوق الوطن، وترك الثقافات الفاسدة التي تنافي ذلك، وتصحيح أيِّ خلل يُبتلى به الإنسان في هذا المسار، والوفاء بالحقوق اللازمة تجاه ولي الأمر، وعلى رأسها انعقاد القلب على لزوم بيعته، والدعاء له بالخير والصلاح والسداد في الليالي والأيام المباركة.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل والفضيل بن عياض، وغيرهما من علماء الأمَّة وأئمتها: "لو كانت لنا دعوةٌ مستجابةٌ لجعلناها في السُّلطان؛ لأنَّ بصلاحه صلاح العباد والبلاد"، وهكذا يسعى الإنسان إلى التصحيح في جميع أموره، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الدِّين شاملٌ لكلِّ مناحي الحياة، فلا تنفكُّ حاجة الإنسان المستمرة للتصحيح والارتقاء في كلِّ باب، وبالخصوص في الأيَّام الفاضلة المباركة، التي تتهيَّأ فيها الأسباب وتتيسَّر.
نسأل الله تعالى أن يكتب لنا الخير في شهر رمضان، وأن يوفقنا فيه للتصحيح والتكميل، وأن يمنَّ علينا بالرحمة والمغفرة والرضوان.