فأهلَّ بالتوحيد (من معاني التلبية وفوائدها)
فأهلَّ بالتوحيد
من معاني التلبية وفوائدها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل في بيان صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((فأهلَّ بالتوحيد: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملكَ، لا شريكَ لك)).
فهذه التلبية هي تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أهل بها للحج، وحري بالمسلم أن يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم في أمر دينه وعبادته عمومًا، وفي أمر حجه خصوصًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)).
وإن مما يعين المسلم على كمال التأسي والاقتداء فهم المعنى وتدبره، ومن هذا الباب أردت في هذه العجالة ذكر بعض ما اشتملت عليه كلمات التلبية من قواعد عظيمة وفوائد جليلة، مُلخصًا لكلام العلامة ابن القيم رحمه الله في بيانه لذلك.
فأقول مستعينًا بالله تعالى: إن من معاني التلبية وفوائدها ما يأتي:
-
أن قولك: لبيك، يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك، ولا يصح في لغةٍ ولا عقل، إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه، وذلك يتضمن الإقرار بسمع الرب تبارك وتعالى، إذ يستحيل أن يقول الرجل: لبيك، لمن لا يسمع دعاءه.
-
أنها تتضمن المحبة، إذ لا يقال: لبيك، إلا لمن تحبه وتعظمه، ولهذا قيل في معناها: أنا مواجه لك بما تحب، وأنها من قولهم: امرأةٌ لَبَّةٌ، أي محبةٌ لولدها.
-
أنها تتضمن التزام دوام العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة، أي أنا مقيم على طاعتك.
-
أنها تتضمن الخضوع والذل، أي خضوعًا بعد خضوع، من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي خاضع ذليل.
-
أنها تتضمن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللُّب، وهو الخالص، وتتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: إنها من الإلباب، وهو التقرب.
-
أنها جُعلت في الإحرام شعارًا لانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير في الصلاة، للانتقال من ركن إلى ركن، ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف، فيقطع التلبية، ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها، فالتلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك، فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: (لبيك اللهم لبيك)، كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن: (الله أكبر)، فإذا حلَّ من نسكه قطعها، كما يكون سلام المصلي قاطعا لتكبيره.
-
أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم عليه السلام، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها.
-
أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه، وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.
-
أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله، وأول من يدعى إلى الجنة أهله، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
-
أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها، ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك، وأنت موليها والمنعم بها.
-
أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده، فلا ملك على الحقيقة لغيره، وهذا مؤكدٌ بأنه مما لا يدخله ريبٌ ولا شك.
-
أنها متضمنة للإخبار عن اجتماع الملك والنعمة والحمد لله عز وجل، وهذا نوع آخر من الثناء عليه سبحانه وتعالى، غير الثناء بكل صفة على انفرادها.
-
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وقد اشتملت التلبية على هذه الكلمات بعينها، وتضمنت معانيها.
-
أن كلمات التلبية متضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله وتوحيده، فهو سبحانه محمود لذاته ولصفاته ولأفعاله، فمن جحد صفاته وأفعاله؛ فقد جحد حمده، ومن علم معنى كلمات التلبية وشهدها وأيقن بها؛ حصلت له النجاة من ضلالات جميع الطوائف المبطلة.
-
أنه لما عطف النعمة على الحمد، ولم يفصل بينهما بالخبر، كان فيه إشعار باقترانهما وتلازمهما، وعدم مفارقة أحدهما للآخر، فالإنعام والحمد قرينان.
وفي الختام: هذا ما تيسر ذكره من معاني التلبية العظيمة وفوائدها الجليلة، وفي الختام أسأل الله تعالى لي ولكم حجًا متقبلًا مبرورًا، وصلى والله وسلم وبارك، على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
محبكم: د. خالد حمد علي الزعابي.