سنن مهجورة (2)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد
إن التمسكَ بسنة رسول الله صلى الله عليـه وسلم؛ فيه الثبات والرسوخ في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة، ولهذا قال صلى الله عليـه وسلم لأصحابه يوماً: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي ، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ) رواه الحاكم في المستدرك وأصله في مسلم.
والعمل بسنة النبي صلى الله عليـه وسلم علامة على محبةِ الله تعالى، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله؛ وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله".
والصحابةُ والتابعونُ لهم بإحسانٍ تمسكوا بسنته صلى الله عليـه وسلم، وأغلظوا القول على من عارضها لرأيٍ ونحوه، ففي صحيح مسلم من حديث عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليـه وسلم يَقُولُ: (لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا) [أي: طلبوا الذهاب للمسجد]. قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ: فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَقَالَ: " أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليـه وسلم وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ ؟!!".
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليـه وسلم حديثٌ قط؛ إلا عملتُ به، ولو مرة. [السير 7/242].
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: من سار على طريق الرسول صلى الله عليـه وسلم وإن اقتصد؛ فإنه يسبق من سار على غير طريقه وإن اجتهد. [لطائف المعارف].
وقال الجُنيد رحمه الله تعالى: الطرقُ كلها مسدودةٌ على الخلف إلا على المقتفينَ آثار الرسول صلى الله عليـه وسلم والتابعين للسنة. [ابن الجوزي في تلبيس إبليس].
وعوداً على ما أردتُ تقريره في هذا المقال من بيان بعض السنن التي استهان بها الناس، وتساهلوا فيها، وصارت عند بعضهم من السنن المهجورة أذكر:
ثانياً: استعمال السواك.
السواك، سُنة حافظ عليها النبي صلى الله عليـه وسلم، خفيف المحمل، لا يكلف المرء جهداً ولا وقتاً ولا مالا.
وقد عرفه الفقهاء بقولهم: هو كل عُود منقِّ لا يتفتت ولا يضر، يُدلك في الفم ويحرك فيه ليطهره، ويُتخذ من أي شجر، وأجودُه ما كان من شجرة الأراك كما نص على ذلك غير واحد من الفقهاء.
ولعظيم فائدة السواك، وكثرة أجره، أمر الله به رسوله صلى الله عليـه وسلم فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليـه وسلم قال: (لقد أُمِرتُ بالسواك حتى ظننت أنه ينزل علي فيه قرآن أو وحي). رواه أبو يعلى وأحمد. وفي لفظ عند البزار: (أمرني جبريل بالسواك حتى ظننت أني سأَدْرَد)، أي ستسقط أسناني.
ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليـه وسلم أكثرَ على أصحابه من الحث والترغيب في فعله، ففي البخاري من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى الله عليـه وسلم قال:(أكثرتُ عليكم في السِّواكِ) وقد سئل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ السِّوَاكِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليـه وسلم يَأْمُرُ بِهِ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهِ [مصنف ابن أبي شيبة]. وهذا يدل على تأكد استحبابه.
وقد استجاب أصحاب رسول الله صلى الله عليـه وسلم لهذا الأمر، وتمسكوا بهذه السنة العظيمة، ففي مصنف ابن أبي شيبة أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليـه وسلم كَانُوا يَرُوحُونَ وَالسِّوَاكُ عَلَى آذَانِهِمْ. ومعنى يروحون: أي، يغدون للعمل أول النهار.
وقال أَبُو سَلَمَةَ: ..رَأَيْتُ زَيْدًا يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّ السِّوَاكَ مِنْ أُذُنِهِ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ، فَكُلَّمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اسْتَاكَ. رواه أبو داود.
وثبت في فضله أنه يجلب رِضى الله سبحانه وتعالى للعبد، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليـه وسلم قال: (السواكُ مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه النسائي وابن خزيمة.
وقال صلى الله عليـه وسلم: (طَيّبوا أفواهكم بالسواك فإنها طُرق القرآن). رواه ابن ماجه.
وبين عليه الصلاة والسلام أن استعمال السواك من سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما ثبت ذلك صريحاً في مسلم.
ويتأكد استعمال السواك عند الوضوء وعند الصلاة كما أخبر بذلك صلى الله عليـه وسلم. وقد سئلت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليـه وسلم إذا دخل بيته قالت: بالسواك. رواه مسلم.
وثبت من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليـه وسلم إذا قام من الليل يشُوص فاه بالسواك. متفق عليه. ومعنى "يشوص"، أي: يدلك أسنانه عرضاً. [النووي].
وكان من شدة حرصه صلى الله عليـه وسلم على استعمال السواك أنه: كان لا ينام إلا والسواك عنده، فإذا استيقظ بدأ بالسواك. رواه أحمد
وأكد النبي صلى الله عليـه وسلم على مشروعية السواك خاصة في يوم الجمعة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليـه وسلم: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل وإن كان عنده طيب فليمس منه وعليكم بالسواك). رواه ابن ماجه بإسناد حسن وفي رواية عند أحمد: (ثلاث حق على كل مسلم: الغسل يوم الجمعة والسواك والطيب).
والسواك من آخر السنن التي فعلها النبي صلى الله عليـه وسلم قبل موته فعن عائشة قالت: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى». ثَلاَثًا، ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي. رواه البخاري
قال ابن القيم: وفي السواك عدة منافع: يُطَيِّبُ الْفَمَ، وَيَشُدُّ اللِّثَةَ، وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ، وَيَجْلُو الْبَصَرَ، وَيَذْهَبُ بِالْحَفَرِ، وَيُصِحُّ الْمَعِدَةَ، وَيُصَفِّي الصَّوْتَ، وَيُعِينُ عَلَى هَضْمِ الطَّعَامِ، وَيُسَهِّلُ مَجَارِيَ الْكَلَامِ، وَيُنَشِّطُ لِلْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ، وَيُرْضِي الرَّبَّ، وَيُعْجِبُ الْمَلَائِكَةَ، وَيُكْثِرُ الْحَسَنَاتِ.
وَيُسْتَحَبُّ كُلَّ وَقْتٍ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ، وَالِانْتِبَاهِ مِنَ النَّوْمِ، وَتَغْيِيرِ رَائِحَةِ الْفَمِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُفْطِرِ وَالصَّائِمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ.
وفقني الله وإياكم لاتباع سنته صلى الله عليـه وسلم قولاً وعملاً وقصداً، وثبتنا على ذلك حتى الممات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.