سنن مهجورة (1)
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى، وعلى آله وصحبه أهل البر والهدى، ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم واقتفى،، وبعد
"إِنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الْحَصِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ. وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَاصِلِينَ، تَقُومُ بِأَهْلِهَا وَإِنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَيَسْعَى نُورُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا طُفِئَتْ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ أَنْوَارُهُمْ" (1).
حال الناس مع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوت تفاوتاً عظيماً فمنهم من تجده يحرص عليها حرصاً شديداً وقليل ما هم، ومنهم من يفرط فيها ويتهاون في أمرها ولا يكترث لها، ومنهم من يعرض عنها والله المستعان.
والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في إحياء السنة فقال:
(مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) رواه مسلم.
ولا شك أن من أحيى سنة من سننه صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل في هذا الحديث، فكل من علمَ علماً أو عبادةً أو أدباً ونحو ذلك فإنه يحصل له ذلك الأجر العظيم.
وفي مقابل ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مخالفة سنته فقال: (فمن رغبَ عن سنَّتي فليسَ مني) رواه مسلم.
وكان السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أشد الناس حرصاً وتمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمما أُثر عنهم في ذلك:
- قول أبو بكر رضي الله عنه: "لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم" رواه مسلم.
وقال الإمام ملك رحمه الله: السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ.
وسأذكر في هذا المقال بعض السنن التي رأيت أنها من السنن المتروكة أو المتساهل فيها راجياً من الله تعالى أن يوفقني في بيانها، وأن يلهمني التوفيق والسداد. فمن تلكم السنن:
أولاً: الاغتسال بالصاع والوضوء بالمُدّ (2):
ولا أعني في هذا الأمر أن يأتي كل واحد من المسلمين عند الاغتسال أو الوضوء بإناء فيه قَدْرَ الصاع أو قَدْرَ المُدّ من الماء ليتطهر به؛ وإنما المقصود هو بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الإقتصاد من الماء وعدم الإسراف فيه.
لقد ثبت في البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُجزئ من الوضوءِ المد، ومن الجنابةِ الصاع)
فقال رجل: ما يكفينا يا جابر.
فقال جابر: قد كفى من هو خيرٌ منك وأكثرُ شَعْراً. رواه أحمد وابن ماجه والحاكم في مستدركه وهذا لفظه.
ولما هجر الناس هذه السنة وقعوا في الإسراف والتبذير في استعمال الماء، وصار الناس عند الوضوء والاغتسال يهدرون الماء هدراً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ذلك من علامة قرب الساعة، فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قومٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعاءِ والطُّهورِ) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه.
ولا شك أن هدر الماء عند الاغتسال والوضوء هو من ذلك التعدي المذكور في الحديث.
والصحابة رضي الله عنهم امتثلوا هذه السنة أيما امتثال، فعَنْ عَطِيَّةَ ، قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ مِنْ كُوزٍ وَأَفْضَلَ فِيهِ ، قُلْتُ : يَكُونُ مُدًّا ؟ قَالَ : وَأَفْضَلَ. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ومعنى أفضلَ: أي، أبقى منه شيءً.
أخي القارئ - وفقك الله - ينبغي عليك أن تتسمك بهذه السنة، وتحييها في نفسك وتعلمها أهل بيتك ومن حولك، فإن الماء نعمة أنعم الله بها علينا، ومن أسباب كفرانها هدرها والإسراف فيها، فإذا كان الشارع الحكيم نهى عن الإسراف في استعمال الماء عند العبادة؛ فما بالك بالإسراف فيه في الأمور المباحة وغيرها.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجلع لأحد فيها شيئاً
________________________________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
(2) الصاع = 2 لتر تقريباً، والمد = نصف لتر تقريباً.