شرح حديث حذيفة في اعتزال الشر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 
القسم: 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛

 فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام وعلى نعمة الصحة والأمان، ونشكر القائم على مركز رياض الصالحين على جهودهم العلمية ومنها هذه المحاضرة، محاضرة اليوم بعنوان: (شرح حديث حذيفة رضي الله عنه في اعتزال الشر).

 وهذا الحديث سنشرحه باختصار من خلال هذه المحاضرة فيه بيان لأمور كثيرة تتعلق بعقيدة المسلم وبمنهج الإسلام في التعامل مع الفتن والاختلاف، وهذا الحديث وفي الصحيحين، قال حذيفة رضي الله عنه: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»([1])، فالله عز وجل قضى وقدر بأن يكون هناك فتن وابتلاء وامتحان ليتميز الصادق من المنافق، الله عز وجل يقول في كتابه: ﵟالٓمٓ ١ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ﵞ ﵝالعَنكَبُوت : ﵑ - ﵓﵜ، الفتنة هي الاختبار، فالإنسان لا يترك بدون اختبار لا يترك أن يقول آمنت أسلمت أنا مسلم أنا مؤمن، لابد أن يبتلى ويمتحن فإن صبر على إيمانه وثبت على إيمانه عند الفتن فإنه صادق في إيمانه، أما إن انحرف عن الطريق عند الفتن وانصرف عن دينه هذا كاذب في إيمانه، والله عز وجل يقول: ﵟمَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵙﵗﵑﵜ، فالله عز وجل لا يذر المؤمنين على إيمانهم حتى يميّز الخبيث من الطيب منهم، وهو سبحانه وتعالى يجري الابتلاء والامتحان على الناس على المؤمنين والمسلمين ليتميز الصادق من الكاذب ليتميز المؤمن الحقيقي من المنافق الكاذب ليتميز الطيب من الخبيث هذه حكمة الله عز وجل في خلقه، فالفتن تجري على الناس لهذه الحكمة ولغيرها ولو لم تكن هناك فتن لالتبس الحق بالباطل، التبس المؤمن بالمنافق لا يتميز كل منهما عن الآخر.

 في هذا الحديث حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ»، يسألون عن ما فيه خير من الأعمال الصالحة والاعتقادات والمعاملات، أما حذيفة رضي الله عنه فكان يسأله عن الشر مخافة أن يدركه فهذا فيه دليل على أنه لا يكفي أن تتعلم الخير فقط، لا بد أن تتعرف أيضا على الشر من أجل أن تتجنبه، تعرف العقيدة الصحيحة كما تعرف أيضا العقيدة الباطلة حتى تتجنبها، تعرف السنة لتتبعها كذلك تعرف البدعة لتجتنبها، وهكذا تعرف الخير وتعرف الشر فإن لم الشر يوشك أن تقع فيه كما قال الشاعر:

عرفت الشرّ لا للشرّ ولكن لتوقيه    ...     ومن لا يعرف الشرَّ من الخير يقع فيه

 إذًا لابد للمسلم أن يتعلم الحق وأدلته ويتعلم أيضا الباطل وشبهاته من أجل أن يسلم من الباطل من أجل أن يحذر الناس من الباطل، فإذا لم يعرف الباطل كيف يتجنبه كيف يحذر الناس منه، ومن هنا جاء القرآن لبيان الحق وبيان الباطل، بيان الإيمان وبيان الكفر، بيان التوحيد وبيان الشرك بيان الحلال وبيان الحرام، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم في سنته بين الخير والشر وبين الحق والباطل في جميع أمور الدين، والعلماء بينوا ذلك، وصنفوا المصنفات بينوا التوحيد وبينوا الشرك، بينوا الكفر وبينوا النفاق، بينوا عقيدة أهل السنة وبينوا عقائد الفرق المنحرفة، بينوا المعاملات المباحة  من المعاملات المحرمة وهكذا في جميع أمور الدين، بينوا الآداب الشرعية وما يخالفها من الآداب السيئة كل ذلك ليكون المسلم على بصيرة من أمره حتى يعرف الحق بدليله ويعرف الباطل أيضا بشبهاته فيتجنب الباطل ويجنب الناس أيضا هذا الباطل، فلابد من بيان الحق من الباطل، توضيح الهدى من الضلال هذا حديث حذيفة رضي الله عنه كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر لم يكتفي بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير فقط كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر ولذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه على أسئلته إلى الآخر لم يقل له يكفي أن تفهم الخير، بل أقره وبين له صلى الله عليه وسلم الشر الذي سيحدث حتى يحذر منه حذيفة ويحذر منه المسلمون، هذا هو السنة هذا منهج القرآن ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول حذيفة: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ»،  الجاهلية من الجهل عدم العلم ما كان قبل الإسلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، جاهلية كانوا على جهل وضلال في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي جميع شؤونهم، كانوا على جهل وضلال اندثرت آثار الرسالات انتشر الجهل والضلال صار الناس في عباداتهم يعبدون الأصنام والأشجار والجن والإنس، يعبدون الملائكة والأولياء والصالحين، كانوا متفرقين في عباداتهم كذلك في الحلال والحرام لا يميزون بين الطيب والخبيث، يتعاملون بالربا والميسر وغيرها من المحرمات، كانوا يكتسبون المال من الطرق المحرمة من النهب والسلب والسرقة أكل أموال الناس بالباطل جاهلية، هكذا في الأطعمة يستحلون الميتة والدم كانوا يأكلون الميتة يأكلون الدم يأكلون الخبائث، وهكذا كانوا متناحرين يتقاتلون على أدنى شيء لماذا لأنه ليس لهم إمام يجمعهم على كلمة واحدة، ليس لهم دولة لذلك هم في جاهلية، فبعث الله تعالى محمّدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، الهدى العلم النافع ودين الحق العمل الصالح، فالله عز وجل بعث نبيه محمّدا صلى الله عليه وسلم بالعلم النافع والعمل الصالح زالت الجاهلية إلى الأبد ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، جاء العلم والهدى والنور لكن قد تبقى بعض خصال الجاهلية في بعض الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» ([2])، هذه بعض خصال الجاهلية، أما الجاهلية العامة فقد زالت والحمد لله ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول حذيفة: «كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ »، هذا الشر الذي كانوا عليه من الشرك بالله وعبادة الأوثان وأكل الحرام وغير ذلك من الشرور قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الله عز وجل بهذا الخير، قال حذيفة: « فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ»، هذا اعتراف بفضل الله عز وجل أن الخير إنما جاء من الله وحده لا شريك له هو الذي هدانا لم نعرف الحق بعقولنا ومعارفنا لا، عرفناه من الله عز وجل هو الذي عرفنا سبحانه وتعالى بالحق وبالخير وما جاء به رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم، القرآن والسنة هذا هو الخير الذي أنعم الله عز وجل علينا، إذا الحق لا يعرف بالعقول ولا يعرف بالعادات والتقاليد إنما يعرف بالوحي بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا رد على الذين يحكمون عقولهم يقولون الناس أحرار بأفكارهم لا ليسوا أحرار، الناس عبيد لله عز وجل عقولهم قاصرة لا بد أن يرجعوا إلى الوحي إلى الكتاب والسنة لمعرفة الحق ورد الباطل، يقول حذيفة: جاءنا الله بهذا الخير، الإسلام فيه الهدى وفيه النور وفيه العلم وفيه إزالة الشبهات، إزالة الجاهليات التي كانت عند الناس، جاء الله عز وجل بهذا الخير العظيم، هذا فيه اعتراف بنعمة الله عز وجل، فالخير كله من الله عز وجل، قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﵟقُلۡ إِن ضَلَلۡتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفۡسِيۖ وَإِنِ ٱهۡتَدَيۡتُ فَبِمَا يُوحِيٓ إِلَيَّ رَبِّيٓۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٞ قَرِيبٞ ٥٠ﵞ ﵝسَبَإ : ﵐﵕﵜ، من الله عز وجل الهداية والخير والإسلام، أكبر نعمة على المخلوقات هو الإسلام هذا الخير العظيم، قال حذيفة: «فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟»،  هذا دليل على أن المسلم لا يأمن من الشر، لا يأمن من الفتنة ولو كان عنده علم ولو كان عنده عمل صالح ولو على عقيدة صحيحة لا يأمن، لا يأمن من دعاة الضلال والشر؛ لذلك سأل حذيفة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟»، إذًا هذا دليل على أنه يأتي شر بعد الخير ابتلاء امتحان من الله عز وجل لابد منه، فلا يأمن الإنسان من الفتن لا يأمن من الشبهات لا يأمن من الشر بأنواعه، فقوله رضي الله عنه: «فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟» قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ»، هذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون بعد الخير سيكون شر، هذا حصل في آخر عهد الصحابة رضي الله عنهم فيما حصل من الفتن وما حصل من الشرور التي حصلت بين المسلمين ما ذكره التاريخ، هذا من باب الابتلاء والامتحان وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حصلت فتنة وشرور، ظهرت الفرق الضالة من القدرية والرافضة والمرجئة والجهمية وغير ذلك، هذا في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإذا رجع الناس إلى القرآن والسنة اندحر هذا الشر، قال حذيفة: «هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ»،  هذا دليل على أن الشر لا يدوم، المسلم ينتظر الفرج من الله عز وجل، الله عز وجل يقول: ﵟفَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ٥ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا ٦ﵞ ﵝالشَّرۡح : ﵕ - ﵖﵜ، لا بد أن يأتي الفرج، ويقول صلى الله عليه وسلم: « وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»([3])، إذًا لا ييأس الإنسان عندما تكثر الفتن تكثر الشرور فإن المؤمن الصادق قوي الإيمان يطمئن ويُطمئنُ غيره عند حدوث الفتن، يقول الحمد لله نحن على هدى على دين واضح، الفرج قريب الشر يزول بإذن الله، هكذا ينبغي لأهل الخير والعلماء أن يطمئنوا الناس؛ لأن هذا شيء يزول بإذن الله عز وجل، يأتي بعده الفرج وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرا، لا بد أن يأتي الفرج ولو اشتدت الفتن وكثرت واشتد البلاء على المسلمين لا بد أن يأتي الفرج فهما تعاظم الشر والفتن والكفر والضلال فإن هذه تزول بإذن الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» ([4])، فالإسلام لا يزول ولله الحمد، الدين لا يزول، الحق موجود، فلا يكون عند الإنسان يأس أو قنوط أو يكون سببا ليأس الناس من رجوع الخير ومن انتصار الحق ومن دحر الباطل؛ لأن الله عز وجل وعد بذلك، والله عز وجل لا يخلف وعده؛ لذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله([5]) :

والحقُّ منصورٌ وممتحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنّة الرحمن

قال عز وجل: ﵟ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٠ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٤١ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵐﵔﵑ - ﵑﵔﵑﵜ، هذه الحكمة في إجراء الفتن والمحن تمحيص المؤمنين، تصبيرهم تثبيتهم على الحق تنبيههم على أخطائهم ليتوبوا إلى الله عز وجل، ولأجل أن يمحق الله عز وجل الكافرين، فهذه الفتن والشرور تمحيص للمؤمنين، ومحق للكافرين ولله الحمد والمنة.

 يقول حذيفة: «فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ»،  هذا دليل على الفرج وأن الإنسان لا يقنط من رحمة الله أنه يأتي بعد هذا الشر يأتي بعده الخير، على المسلم أن لا يقنط ولا ييأس أن ينتظر فرج الله عز وجل لكن مع عمل ما يستطيع من البيان والدعوة إلى الله ونشر العلم نشر اليقين في الناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»،  هذا الخير فيه تغيير فيه شيء من التغير هو خير لكن فيه شيء من التغير، هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يأتي خير ومعه شيء من التغير؛ لذلك قال حذيفة: «وَمَا دَخَنُهُ؟»  لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»،   هذا الخير، قال حذيفة: «وَمَا دَخَنُهُ؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي»، يعني عندهم تغييرات، مسلمون مؤمنون وفيهم خير لكن عندهم شيء من التغيير فيه نقص كبير، جاء في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اصْبرُوا فَإنَّهُ لاَ يَأتِي زَمَانٌ إِلاَّ والَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ حَتَّى تَلقَوا رَبَّكُمْ»([6])، فيكون عند المسلمين بعض المخالفات في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي»، يهتدون بغير هدي  النبي صلى الله عليه وسلم، يحدثون أشياء مخالفة للسنة، نوع مخالفة هذا تحذير من مخالفة السنة ولو كانت قليلة يسيرة، فيه تحذير من الاقتداء بغير سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك شيئا يسيرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك دخنا يعني فيه نقص وفيه ضرر، قال صلى الله عليه وسلم: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، هؤلاء الناس تعرف منهم، دليل على أنهم عندهم معروف عندهم خير وتنكر عندهم شيء من المنكر الذي هو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خير وفيهم شر؛ لذا قال حذيفة بعد ذلك: «فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟»، هذه المرة الثالثة قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ »، نعم بعده شر لكنه أعظم من الشر الأول، الأول عندهم خير عندهم شر لكن هؤلاء دعاة على أبواب جهنم يقولون للناس لا يقولون صراحة تعالوا إلى جهنم، يقولوا تعالوا إلى التقدم والحضارة والرقي ومسايرة الأمم، لا تبقوا متحجرين متزمتين ومعنى هذا كله: اتركوا دينكم تعالوا مع الناس هؤلاء هم الدعاة إلى أبواب جهنم، يدعون الناس إلى أن يتخلوا عن دينهم وأن يلحقوا بركب الكافرين، هذا هو الدعوة إلى جهنم لأن جهنم أعدها الله عز وجل للكافرين، فهم يدعون الناس إلى ما عليه أهل جهنم من الكفار والمشركين والملحدين، وما أكثر هؤلاء في أيامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله، علينا أن نحذر منهم غاية الحذر لماذا لأنهم يدعوننا إلى جهنم، والله عز وجل يقول في الكفار: ﵟأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵒﵒﵜ، هكذا الشيطان قال الله عز وجل عنه: ﵟإِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ٦ﵞ ﵝفَاطِر : ﵖﵜ ، إذًا هذا فرق بين دعاة الخير ودعاة الشر، دعاة الخير يدعون إلى الله عز وجل وإلى دينه يدعون إلى الجنة، أما دعاة الشر فيدعون إلى النار؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم: «مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، من انقاد لهم صدقهم ناصرهم قذفوه في النار، أما من لم يطعهم قاومهم استنكرا ما هم عليه من الضلال فإنهم لن يضروه، وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: ﵟوَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣ﵞ ﵝالأَنۡعَام : ﵓﵕﵑﵜ، وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا معتزلا وقال: «هَذَا سَبيلُ الله»، وخط خطوطا عن يمينه وشماله وقال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ([7]) ، هذا في تصوير لدعاة الضلال ومناهجهم فكل من خالف الصراط المستقيم فهو سبيل إلى الجحيم، ثم يقول حذيفة: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا»،  هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، يقول حذيفة: «يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا»، فقال صلى الله عليه وسلم: ن«نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، من جلدتنا عرب مثلنا بل يكون عندهم فصاحة وبلاغة إذا كتبوا وإذا خطبوا إذا القوا محاضرة أو غير ذلك يتكلمون بألسنتنا، والله عز وجل يقول في المنافقين: ﵟوَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡﵞ ﵝالمُنَافِقُون : ﵔﵜ عندهم فصاحة تأخذ السامع هذه الفصاحة يستمع إليهم ناس كثير لفصاحتهم، يتكلمون بألسنتنا وهذا فيه جذب للناس إليهم، هذا من تمام الفتنة لذلك يقول حذيفة رضي الله عنه: «يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، إذًا هذا هو الواجب على كل مسلم إذا حدثت الشرور هذه الفتن التي تدعو الناس إلى الانحراف والانحلال ومتابعة الكفار تزهيد في الإسلام وأحكام الإسلام، الواجب على المسلم ألا ينخدع بهم بل يكون مع جماعة المسلمين، يلزم جماعة المسلمين لا يشذ عنهم في رأي أو معتقد أو دعاية أو غير ذلك، لا ينخدع بالقول والبهرج بل ينظر ما عليه المسلمون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ» ([8])، ويقول: «عَلَيْكُم بالجمَاعَة فَإنَّ يَدَ اللَّهِ على الجَمَاعَةِ» ([9]) ، فعلى المسلم أن يكون مع جماعة المسلمين، ولا تكون للمسلمين جماعة إلا إذا كان لهم إمام يطيعونه لا جماعة إلا بإمام، ولا إمام إلا بسمع وطاعة، الله عز وجل يقول: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵙﵕﵜ فهذا طريق النجاة سبب النجاة من الفتن لزوم جماعة المسلمين وإمام المسلمين هذه النجاة من الفتن بإذن الله تعالى، أما من شذ من المسلمين تبع دعاة الضلال فإنه يهلك معهم، فلزوم جماعة المسلمين وطاعة ولي أمر المسلمين فيه ضمان من الفتن بإذن الله؛ ولذلك صلى الله عليه وسلم يقول: «عَليكُم بالجمَاعَة فإنّ يَد اللَّهِ على الجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّار»ِ([10])، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين المَهْدِيِيِّنَ»([11])، إذًا لزوم الجماعة جماعة المسلمين هذا فيه النجاة، قال حذيفة: « يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، هذا طريق النجاة، ثم يقول حذيفة رضي الله عنه: « فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا»،  لماذا؟ لأنها فرق ضلالة دعاة على أبواب جهنم، إن وجدت جماعة المسلمين كن معهم وإلا فاعتزل لوحدك، اثبت على الحق ولو كنت وحدك؛ لذلك جاء عن السلف: الجماعة من كان على الحق ولو كان واحدا هذا هو الجماعة، ليس الجماعة لكثرة الجماعة بمن كان على الحق، إذًا إذا لم يكن إمام ولا جماعة في بلد من البلاد وحصلت الفتن والشرور وكثر الدعاة على أبواب جهنم ما هو سبيل النجاة؟ قال: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا»، فرق الضلال قال: « وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»، دليل على أن الأعمال بالخواتيم، وأن من اعتزل الفتن وثبت على الحق وصبر على البلاء أدركه الموت وهو على ذلك وهو من أهل الجنة، وأن من جاءه الموت وهو قد غير وبدل وتبع الضالين فإنه يكون من أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 هذا حديث عظيم من رواية حذيفة رضي الله عنه في الصحيحين، فيه فوائد وفيه عبر أشرنا إلى كثير منها من خلال الشرح المختصر لهذا الحديث لعل فيما ذكرنا كفاية.

 فنسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نسأله عز وجل أن يحفظنا وإياكم ويحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شرّ ومن كل فتنة، كما نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ودعاء مستجابا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك علما نافعا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


 

([1]) رواه البخاري (7480)، ومسلم (1847)، واللفظ لمسلم.

([2]) رواه مسلم (934).

([3]) رواه أحمد (2803).

([4]) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1920).

([5]) النونية لابن القيم (ص17).

([6]) رواه البخاري (7068).

([7]) رواه أحمد (4142).

([8]) رواه ابن ماجه (3950).

([9]) رواه الترمذي (2167).

([10]) رواه الترمذي (2167)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2166).

([11]) رواه أحمد ( 17144)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676).