مقاطعة من نوع آخر
الحمْدُ للهِ ربِّ العالمين، وأشْهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشْهدُ أن محمداً عبْدهُ ورسوله ﷺ، أما بعد:
فإن مما يَسُرُّ قلبَ كُلِّ مؤمن ويُفْرح فُؤادَهُ أنْ يرى الغيْرةَ من المسْلمينَ على مقدّساتِهم وعلى شعائِرهم وعلى أوْطانِهم المسلمة إلى غير ذلك، وهذا أمرٌ مطلوبٌ شرْعًا -ولا شك-.
والحميّة للإسلام والغضب له والاعتزاز به والنخوةُ لأجله ممّا يُحمد عليهِ المسلم ويُشْكرُ له.
وإن من مظاهر الغيْرةِ على المقدسات الإسلامية والتي يسلُكها عامّةُ المسلمينَ من حينٍ لآخر لردةِ فعْلٍ ما من أعداءِ الله المقاطعةَ للمنتجاتِ الاقتصادية الغربية - ولستُ هُنا بصدد بيان الحُكمِ الشرعي لهذه المسألة - وإن كنتُ أعتقِدُ أن مقاطعة هذه المنتجات من صلاحِيّات ولي الأمر المسلم؛ فإنها هي المجْديةُ والنافعةُ والمؤثرةُ، أما المقاطعات الفردية فلا تُغْني شيئاً.
أعودُ فأقول: العجبُ لا ينقضي ممّن يقاطعُ بعض المنتجات الغربية وهو في الوقتِ نفسه واقِعٌ في معصية الله، بعيدٌ عن طاعة الله، يُمارِس المحرّمات، ويقتَحِم ما نهى الله عنه من الأعمال، ويثِبُ على ما حرمهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوالِ والأفعال.
ألَمْ يقُل نبيّنا صلى الله عليه وسلم: (الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)([1]) ؟!
وفي رواية:(الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ)([2]) .
وفي لفظٍ:(الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ)([3]) .
فأين هجران الذنوبِ ومقاطعة ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟!
أين مقاطعة شرب الدخان وتعاطي المخدرات، وأكل الربا وأخذ الرشوة، وغش المسلمين والسحر والعلاقات غير الشرعية ؟!
أين مقاطعة الغِيبةِ والنميمةِ، والكذبِ والفُحْشِ في القول من الكلام البذيء ونحوه ؟!
أين مقاطعة الغدر والخيانة والحسد، والحقد والنظر المحرم وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وشرب الخمور والكِبْر وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين والإسراف والتبرج والسفور والإضرار بالمسلمين ؟! إلى غير ذلك من صنوف المحرمات وكبائر الذنوب.
أليست هذه أولى بالمقاطعة وأحَقّ بالابتعاد وأجدر بالهجران؟!
بلى والله؛ فإن هجران الذنوبِ وترك المحرماتِ على اختلاف أنواعها من اعتقاداتٍ باطلة،
أو أقوالٍ سيئة، أو أفعالٍ مَشينة واجبٌ على كل مسلمٍ ومسلمة.
وكيف لا يهجر المسلم الذنوب ويترك المعاصي ويقاطع هذه المحرمات، وهي من أسبابِ حرمان العلم النافع، ومَنْع الرزق، وتعسير الأمور، وظلمة القلب والوجه، وضعف القلب، وحرمان الطاعة، وزوال اسْتقباح الذنوبِ عن القلب.
كيف لا يقاطع المسلم هذه المنهيات ويبتعد عنها وهي:
تورِثُ الذّل، وتفسد العقل، وتُدْخِلُ فاعلها تحت لعنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتُحدِث أنواعاً من الفساد في المياهِ والهواءِ والزروعِ والثمارِ والمساكن، وتُذهِب الحياء، وتُضْعِف تعظيم الرّبِّ في القلب!
كيف لا يقاطع المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذه المنكرات وهي تحلُّ النِّقم، وتُعمي البصيرة، وتجعل العاصي في أسرِ الشيطانِ وأسر النفس الأمّارة بالسوء، وتُقَرِّب إليه الشياطين، وتُبعِد عنه الملائكة؟!
إلى غير ذلك من شرور الدنيا والآخرة المتولدةِ عن المعاصي والذنوب والآثام.
وببيانِ مفاسد ارتكاب السوء وفعل الخطايا يتبينُ أن هجرها من أوجب الواجبات وأولى الأعمال في حقِّ كل مسلم.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رجلٌ يا رسول الله، أيّ الهجرة أفضل؟
قال: (أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ)([4]) .
فهذه هي المقاطعة الحقيقية التي يجب الاعتناء بها، والهجرة الكبرى التي ينبغي أن تكون محلّ اهتمام المسلم دائماً وأبداً.
وأسأل الله لي ولكل من يقرأ هذه المقالة الهدى والسداد وقبول الحق والعمل به.
والحمد لله رب العالمين.
([1]) رواه أحمد (6806)، والبخاري في الأدب المفرد (1144)،وأبوداود(2223)،والنسائي(4996) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (876).
([2]) رواه ابن حبان (196)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/277).
([3]) رواه أحمد (23958)،وابن ماجه (3934)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6658).
([4]) رواه أحمد في المسند(6487) والنسائي (4165)، وينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (551).