كيف كان يتعامل مع أمه؟


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 
القسم: 
القسم: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد؛

 يحتاج الإنسان إلى أن يتعلم ويمارس في تعاملاته الصواب، بحيث يحسن التعامل مع المواقف، ويجمّل ألفاظه مع من يتعامل معه، سيّما إذا كان من تتعامل معه له مكانة أو قرابة أو صداقة ونحو ذلك، فالإنسان صاحب المعدن الجميل في جميع مواقفه جميل، مهما قست الظروف، مهما صعبت الأمور، مهما كانت الأمور رخاء أو شقاء، راحة أو تعب، فهو يتعامل معهم بمعدنه الداخلي، يتعامل معهم معاملة لله، وخصوصًا -وهذا مهم جدا- مع أقرب الناس إليه وهم: الأب والأمُّ.

 سأذكر لكم قصة، ثم نقف وقفة مع هذه القصة المهمة جدًا، فأبو هريرة رضي الله تعالى عنه مرّ به موقف مع أمه، وتعامل معه معاملة جميلة جدًا،

 يقول رضي الله تعالى عنه -تأملوا الألفاظ-: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا -لاحظوا هناك ممارسة في دعوتها للإسلام- فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ -الأم سبّت النبي صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي حزنًا- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ، فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ -لاحظوا ردّة الفعل- فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ-مفتوح- فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ - وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحت الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أسلمت- فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، قَدْ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ خَيْرًا، فَقُلْتُ: -أبو هريرة-: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي([1]) .

أرجو أن نتأمل هذه القصة جيدا، أبو هريرة مع من؟ مع أمه وهي مشركة يعيش معها جلس معها مصاحب لها وهي على الشرك، ﵟ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵕﵑﵜ ، فأبو هريرة كان يصاحب أمَّه مصاحبة بالمعروف، ليس هذا فقط بل كان حريصًا على أن يوصل لها أعظم الخير وهو الإسلام، يدعوها مرة بعد مرة، وكان رضي الله تعالى عنه جميل الأسلوب، بارًّا جميل الأخلاق، فيدعوها بلطف فتأبى، لاحظ هذه الثانية، الثالثة أنه لما دعاها في ذلك اليوم سبّت النبي صلى الله عليه وسلم، لم تسبه هو بل سبت النبي! ومعلوم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة مقدمة على المال والولد والنفس والناس أجمعين، موقف صعب، الأم التي ربَّت وحملت وتعبت على الشرك، وتسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة الابن فما هو الحل؟

 فانفجر رضي الله تعالى عنه باكيًا حزينًا، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يستشيره ليرفع أمره إلى من هو أعلم، لكن قلبه مملوء رحمة ليس غضبًا ولا حقدًا على أمه؛ لذلك قال: ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، لاحظ هذا الحرص الشديد على الأمِّ من هذا الابن رضي الله تعالى عنه، فلما دعا رجع إلى أمه ولم يدخل مباشرة حتى  لبست درعها، فكان أفرح ما عنده أن شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فرجع مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فرحًا بعد أن كان يبكي حزنًا، ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يحبب الناس في أمه وفي نفسه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم.

 فهنا رسالة واضحة ومهمة لكل من عنده أب وأمُّ، اعرف قدرهما اعرف قدر أمك، وأحسن في برِّها، جمّل كلامك معها، اخفض جناحك لها، تعلم كيف هو البرِّ، حفظكم الله مهم جدًا أن يقف بعض الشباب وقفة مع نفسه، هناك بعض العقوق عند بعض الشباب والأبناء والبنات، ولا يتصورون أنه عقوق، كم نسمع من رفع الأصوات، كم نسمع من الجدال العقيم والسقيم من الأبناء مع الأمهات، وكأنه ينظر إلى أمه أو إلى أبيه على أنه إنسان جاهل ليس عنده شيء من المعرفة وهو ذاك الرجل الذي سبقه علمًا ومعرفة.

*  من صور ومظاهر العقوق.

 تأمل بعض المظاهر في العقوق مع هذه الهواتف مع الوالدين، يجلس الابن مع أبيه وأمه، وأمه تكلمه وهو في هاتفه مع الواتساب أو مع مواقع التواصل الاجتماعي، أو يلعب ألعابًا.

 انظر إلى بعض الشباب عندما يكون مع أصدقائه، فتتصل به أمه فمنهم قبل أن يرد يقول أفّ أمي !!، وإذا اتصل به صديقه أهلًا مرحبًا بصديقي، مظاهر غريبة في التعامل مع الوالدين.

 بعض الأبناء عنده همز ولمز وغيبة ونميمة في أمِّه، بعض الأبناء إذا جلسوا مع بعض ومرّ الأب أو مرت الأم مثلًا وأخطأت أو خرج منها تصرف غير صواب، يستهزئ بأمه وغير تلك من العبارات الهمز واللمز، ومن جلس مع إخوانه أو إخوته اغتاب أمَّه أو أباه بلا تقدير ولا احترام.

 كم من المظاهر الغريبة عند بعض الأبناء تجاهل كلام الأب والأم، الأم تنادي هو يلعب الأم تنادي وهو مع أصدقائه، تجاهل للكلام تسفيه للكلام، تلويح باليد عندما يكلم الابن الأب أو البنت الأم أو نحو ذلك، تجد الابن يلوح بيده وكأنه يتشاجر مع أمِّه وأبيه.

 وبعضهم ينظر إلى الأم نظرة اشمئزاز أو غضب، وإذا أتى وردّته الحاجة ويطلب من أمه أو من أبيه بعضهم يأتي بغلظة وفظاظة وسوء طلب، ويطلب المال وكأن هذا المال هو أحقّ به.

 لابد عند التعامل مع الوالدين ألا ننظر إليه كأنهما أصدقاء، ولا نتعامل معهما معاملة المقابلة، إن كان حسنًا فأنا حسن وإن كان طيبًا فأنا طيب.

 من دقيق الأدب وجميل الأدب بعض أهل العلم ما كان يرفع صوته، وكانت أمُّه صوتها عالٍ والله إنهم يقولون عنه أنه كان إذا كلم أمه كأنه يكلم أمير أوحاكم من الأدب وإنزال العين والطرف، وبعضهم إذا مشى مع أبيه لم يتقدمه، ولم يجلس قبله ولم يفتح الباب قبله، ولم يأكل قبله بل يقدم أمور الدنيا لأبيه وأمه.

*أسباب العقوق.

 لابد أن نعرف الأسباب التي أفرزت مثل هذه المظاهر هل هي التربية الخاطئة من الأبوين، سوء المعاملة في الصغر، عدم العدل في الأبناء، الخلافات الأسرية، الإدمان المخدرات، الصحبة السيئة، ملذات الدنيا، الجهل، المرض النفسي، هل أنت عاق في والديك، فأتاك أبناء عاقين.

 كل هذه الأسباب لابد أن تعرف وتدرس، ومهما كان من سبب فلا يحقُّ للابن أو للبنت أن يعقَّ أبويه، ولابد على كلِّ من كان عنده شيء من أنواع العقوق أن يتدارك نفسه.

*وعليك بأمرين مهمين هما أساس العلاج:

 أولا: عليه بالعلم يعرف أبواب الأدب والبر مع الأبوين، ويعمل بذلك ويصبر خصوصًا عند المواقف الصعبة، عند غضب الوالدين عند كبر الوالدين، عند حاجة الوالدين، كما حدث مع أبي هريرة، ليس البر على حسب المزاج، وإنما البر طاعة لله في كل الأوقات.

ثانيًا: لا بد أن يعرف الابن والبنت خطورة هذا العقوق من غضب الله وسخطه ولعنته، وتعجيل العقوبة في الدنيا، واستحقاق عذاب النار وعدم التوفيق في الدنيا وكراهية الناس لهذا الابن العاق، وأن الجزاء من جنس العمل، كما يفعل الأبناء بالآباء غدا يأتي للأبناء أبناء ويفعلون بآبائهم كما فعل الأبناء لآبائهم، وفي المقابل لابد أن يعرف الإنسان الأجر والثواب العظيم من برّ والديه، وأن يتفكر في حاله عند الصغر ضعيف لا يحسن الأكل ولا الشرب ولا النظافة، يتعب ويمرض ويسهر وهم في خدمته، يقول أمية ابن الصلت:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعا ... تعلّ بما أدني إليك وتنهل

إذا ليلةٌ نابتك بالشكو لم أبت ... بشكواك إلاّ ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل

تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت حتم مؤجل

فلمّا بلغت السنّ والغاية التي ... إليها رجاء كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً ... كأنك أنت المُنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل

فأوليتني حقّ الْجوار ولَم تكنعليّ بِمالي دونَ مالِكَ تبخل

حياتك همٌّ ثم موتك فجعة ...وخيرك مزويٌّ وشرّك ينزل

 لا يصل بك الحال يوم من الأيام أن تكون محل شكوى الأب أو الأم عليك، انتبه أن تصل إلى هذه الحال، الأب والأم لن يصلوا ويشتكوا عليك ويشتكوا منك إلا إذا وصل بهم الحد أقصاه، لكن احذر أن تصل إلى هذه الحالة، ووالله إن بعض الناس ليفجعونك بتصرفاتهم عندما تتصل الأم، وتشتكي من الابن أنه يسب أو يضرب، تتصل إلى رجل غريب لا تعرفه من قريب ولا من بعيد، تشتكي من أقرب الناس إليها ما الذي يوصلها إلى ذلك إلا هذه المعاملة السيئة، فاحذر كل الحذر من أن تصل إلى هذه المرحلة، ودائما ضع حديثا في قلبك: «رِضَا الله مِنْ رِضَا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ الله مِنْ سَخَطِ الوَالِدَين» ([2]).

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بارين بآبائنا وأمهاتنا، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ أمهاتنا وآبائنا، ويجعلهم قرة عين لنا، وألا يحرمنا رؤيتهم، وأسأله سبحانه وتعالى بمنّه وفضله وكرمه أن يحفظ بلادنا وقيادتنا، وصلى الله على نبينا محمّد.

 

 


 

([1]) رواه مسلم (2491).

([2]) رواه الترمذي (1899)، وابن حبان (429)، والبيهقي في شعب الإيمان (7830) واللفظ له.