المخرج من الاختلاف


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 لا يخفى على الناظر في تاريخ المسلمين، وعلى المهتَمِّ بأمرهم ما مرت به الأمة الإسلامية -ولا زالت- من الاختلاف المتتابع، والافتراق المتوالي، من حين وقوع السيف في آخر عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وإلى يومنا هذا، حيث تعددت بسبب ذلك الآراء، وتباينت المسالك، وظهرت المقالات، وبرزت الأهواء، وتشتت الأمّة إلى فرق وأحزاب.

 وقد جاءت النصوص مستفيضة بالإخبار عن ذلك، وفي الوقت نفسه تكاثرت ببيان الحلول المناسبة للعودة بالأمة إلى ائتلافها، وسبيل عزها، ومن بين هذه النصوص ما أخرجه أبو داود([1])  والترمذي([2])  وقال: حديث حسن صحيح، واللفظ لأبي داود عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

إن من يتأمل هذا النص الكريم يجد أنه قد حوى وصايا جامعة، وأصولاً عظيمة، بتحقيقها تتحقق السعادة، وبإهمالها والإعراض عنها تنتج الشقاوة، وبالأخذ بها تخرج الأمة من اختلافها، حيث جمعت بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه، وتضمنت ردّ كل مخالفة لشرعة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وهذه الأصول هي:

 الأصل الأول: الوصية بتقوى الله عز وجل.

 والأصل الثاني: السمع والطاعة لولاة الأمر.

 وهذان الأصلان يجمعان سعادة الدنيا والآخرة، وفضائلهما وآثارهما مبينة لمن تأمل في النصوص، ورغب في فهمها، فتقوى الله تعالى كفيلة بسعادة المرء في دنياه وآخرته إن عمل بموجبها، وسعى في تحقيقها، ولهذا جاءت النصوص متظاهرة في الوصية بها والحث عليها؛ بالترغيب فيها والترهيب من تركها.

 والسمع والطاعة لولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا، ذلك أن بها تجتمع الكلمة، ويتوَحَّد الصف، ويعمُّ الأمن، ويُدفَع الظلم، وتُدْرأُ الفتن، وتُضبطُ أحوال الناس، وتنتظم مصالح الناس في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم([3]) .

 قال ابن رجب رحمه الله: "وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية، قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع، فسمعتُه يقول: (يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا الله، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله)"، وصححه الألباني([4])  

والأصل الثالث: التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده خاصة عند نزول الاختلاف وحصول الفتن.

والأصل الرابع: التحذير من البدع، والحذر من محدثات الأمور في كافة أبواب الدين من العقائد أو العبادات أو المعاملات والأخلاق والسلوك.

 وهذان أمران متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر،  فالتمسك بالسنة يوجب الحذر من البدع والبعد عنها والتحذير منها، فإن أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده تضَمّن الأمر بمجانبة الاختلافات المباينة للحقّ والمناوئة له، لما في التمسك بسنته من الاتفاق والائتلاف، وهذا بخلاف البدع والمحدثات فإنها مظنة الفرقة والاختلاف، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة"([5]) .

 وبلزوم المسلم السنة واجتنابه لما يضاد ذلك ينجو من الاختلاف، ويلحق بالفرقة الناجية، ولهذا بوب الحافظ ابن حبان رحمه الله على هذا الحديث في صحيحه (1/178) بقوله:" ذكر وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم".

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا الحديث عند هذه المسألة: "فلولا أَن سنته وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تسع الْمُؤمن وَتَكْفيه عِنْد الاخْتِلاف الْكثير لم يجز الْأَمر بذلك" ([6]).

وقال رحمه الله: "فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، وكان السلف - كمالك وغيره يقولون: السنة كسفينة نوح، من رَكِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق"([7]) .

 وما أجمل ما قاله القرطبي رحمه الله: "فالهرب الهرب ، والنجاة النجاة، والتمسك بالطريق المستقيم والسَّنَن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح"([8]) .

 ولِمَا تَحمِلُه البدع من أخطار جسيمة خصَّها صلى الله عليه وسلم بالتحذير منها، ووصَفَهَا بوصف كُلّيٍّ يعم كل بدعة فقال: "فإن كل بدعة ضلالة".

 قال ابن رجب رحمه الله: "فكلُّ من أحدث شيئاً، ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه، فهو ضلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"([9]) .

 وهذا الحديث من أحاديث كثيرة يَبرُزُ فيها موقفه صلى الله عليه وسلم من البدع ويبين شأنه معها، وذلك في مجامعه المتعددة، وأحواله المختلفة، فعلى المسلم أن يأخذ نفسه بالحزم، وأن يُزمَّها بزمام الشرع في صغار الأمور وكبارها -حسب استطاعته- وأن يجتهد أن يكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وعمله وأخلاقه واعتقاده.

 وهذا الحديث الجليل فيه فوائد متنوعة، ومسائل متعددة، أعظمها كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم للأمّة، حيث أرسى لها قواعد النجاة عند نزول الاختلاف، ودلّها على أصول السلامة، عند حصول التنازع، فمن أخذ بها وحرص عليها وفَقِهَهَا نال السلامة، وفاز بالاستقامة، وربح الهداية.

 والله الموفق، وهو وحده الهادي إلى سواء السبيل.

 


 

([1]) برقم (4607).

([2]) برقم (2676).

([3]) جامع العلوم والحكم (2/110).

([4]) انظر: صحيح سنن الترمذي (2/258).

([5]) الاستقامة (1/42).

([6]) الاستقامة (1/4).

([7]) مجموع الفتاوى (11/623).

([8]) الجامع لأحكام القرآن (7/138).

([9]) جامع العلوم والحكم (3/119).