النظر آداب وأحكام
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛
أيها الإخوة والأخوات حديثي إليكم عن النظر وشيء من آدابه وأحكامه، فأقول وبالله التوفيق: بأي شيء يكون النظر؟ الجواب بالعين، إذًا العين نعمة من نعم الله تعالى على خلقه لهذا امتنَّ جل وعلا بهذه النعمة على الإنسان فقال: ﵟأَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ ٨ﵞ ﵝالبَلَد : ﵘﵜ ، هاتان العينان حبيبتان إلى صاحبهما هكذا أخبر صلى الله عليه وسلم، وذلك لضرورتهما وتوقف كثير من المصالح عليهما ولما يحصل بفقدهما من الأسف والحزن، ولهذا كان الابتلاء بفقدهما ليس له ثوابٌ إلا الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: « إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فَصَبرَ، عوضته منهما الجنة » ([1]) ، ولما عظمت هذه النعمة كانت موضع سؤال وحساب يوم القيامة، قال تعالى: ﵟوَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا ٣٦ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵖﵓﵜ إذا ثبت أيها الإخوة والأخوات أن العين نعمة وأن صاحبها يسأل عنها فعليه أن يراعي الآداب والأحكام الشرعية المتعلقة بها، وأن ينظر في حقوقها فيعمل بها لأن العين لها حق، ولهذا اتجهت همم العلماء إلى تصنيف مصنفات خاصة في أحكام النظر ككتاب النظر في أحكام النظر بحاسة البصر لابن القطان رحمه الله تعالى، العين لها حق وحقها حتى تُؤدى وظيفتها هو إراحتها، فالعين حتى تُؤدى وظيفتها لابد من إعطائها حقها من الراحة والنوم والسكن الذي يعيد لها نشاطها ويحقق الاستفادة منها، يقول صلى الله عليه وسلم: «وإن لعينك عليك حقًّا»([2]) .
من أحكام النظر أيها الإخوة أن يغض الإنسان بصره عما حرم الله، وأن يحبسه عن إطلاقه فيما نهى الله عنه من العورات، وعما يجلب الفتن والشر والفساد كالنظر إلى النساء أو المردان والصور الهابطة والأفلام والمسلسلات ونحو ذلك،
قال تعالى: ﵟقُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡﵞ ﵝالنُّور : ﵐﵓﵜ ، وقال تعالى: ﵟوَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّﵞ ﵝالنُّور : ﵑﵓﵜ ، تأمل أيها الأخ الكريم تأملي أيتها الأخت الكريمة كيف أن الله تعالى خص كلا الجنسين من الرجال والنساء بخطاب مستقل مع أن خطاب أحد الجنسين كاف في تقرير الحكم ممّا يدل على أهميته ولزوم العناية به.
قد يقول قائل ما الفائدة من غض البصر؟ جواب هذا في كلام الله تبارك وتعالى، قال تعالى: ﵟ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡ ﵞ أي أطهر لقلوبهم وأطيب لأعمالهم فلا تتدنس بما يبغضه الله، ولاحظ معي كيف أن الله قدم غض البصر على حفظ الفرج ممّا يعني أن إطلاق البصر طريقٌ إلى الوقوع في الفواحش، ومن غض بصره عما حرم الله تبارك وتعالى كان ثوابه الجنة قال صلى الله عليه وسلم: « ثَلَاثةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَعَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ » ([3]) ، وفي غض البصر امتثال أمر وطاعته، وغض البصر أيها الإخوة والأخوات يورث القلب شجاعة وقوة ويحفظ صاحبه من التشتت والانشغال فيما لا ينفع، ويجعل القلب قوياً فرحاً، ولضرورة حفظ النظر عن المحرمات وترتب كثير من الأمور عليه تكاثرت أيضا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان شيء من أحكامه، فمثلا الاستئذان لماذا شرع؟ يقول صلى الله عليه وسلم: « إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ » ([4]) قال ذلك متى؟ عندما اطلع رجل في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يعني حديدة يسوى بها شعر الرأس كالمشط مثلا قال: يحك بها رأسه، فقال: مع أنه الرؤوف عليه الصلاة والسلام بالناس قال: « لو أعلم أنّك تنظر، لطعنت به في عينك » ، وقال عليه الصلاة والسلام: « لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ » ([5])
وهنا مسألة أيها الإخوة إذا اجتهد المرء في حفظ بصره لكن وقع ذلك منه فجأة أي النظر إلى المحرم وقع منه فجأة، فهل يؤاخذ بذلك وماذا عليه في هذه الحالة؟ الجواب يقول جرير رضي الله عنه: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ » ([6]) ، وقال عليه الصلاة والسلام موصيًا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه والوصية له أي لعلي وصية لسائر أفراد الأمة أيضا قال: « يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ » ([7]) ، ومع هذا النهي المتوالي والتحذير المتتابع من إطلاق البصر جاءت النصوص أيضا بالأمر بالنظر لكن متى؟ إذا وجدت المصلحة الشرعية، إذا وجدت الحالة التي لا تندفع ضرورتها ألا بالنظر كالنظر إلى المخطوبة مثلا، يقول أنس رضي الله عنه: «إن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» ([8]) ، وهذا النظر طبعا له شروط، فلا يكون في خلوة ولا بشهوة ويكون بقدر الحاجة، وأن ينظر إلى ما يظهر غالبا، وأن لا تكون المرأة متجملة أو متطيبة إلى آخر تلك الشروط التي نصّ عليها الفقهاء، وهكذا أيضا إذا كان يتعامل مع امرأة في بيع وشراء أومراجعة في جهة حكومية إن وجدت الضرورة وأمنت الفتنة أبيح النظر وهكذا التداوي متى ما وجد سببه وغير ذلك.
هنا مسألة أخرى أيضا أختم بها وهي حدود النظر بين المرأة المسلمة والمرأة الكافرة يكثر خصوصا مع انتشار الخدم في البيوت عن هذه المسألة، والأقرب والعلم عند الله أن للمرأة الكافرة النظر إلى ما يظهر غالبا من المرأة المسلمة كالرأس وكالوجه الرقبة الكفان القدمان، أما سوى ذلك فالواجب على المرأة المسلمة التحفظ من إظهاره كالتساهل في الملابس الشفافة أو الضيقة، فليس من شأن المرأة المسلمة هذا، فإن رضا الله جل وعلا عندها مقدم على هوى نفسها ورغباتها.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظني وإياكم وأن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا وأن يصون أبصارنا عما حرم تبارك وتعالى إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) رواه البخاري (5653).
([2]) رواه البخاري (1975) ومسلم (1159).
([3]) رواه الطبراني (1003)، وهو في السلسلة الصحيحة (2673).
([4]) رواه البخاري (6241)، ومسلم (2156).
([5]) رواه مسلم (338).
([6]) رواه مسلم (2159).
([7]) رواه الترمذي (2777).
([8]) رواه ابن ماجه (1866).