تعلم القرآن وتعليمه


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد؛

فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، ونشكر القائمين على مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، محاضرة اليوم بعنوان: "تعلم القرآن وتعليمه".

لقد رغب الإسلام في تعلم العلم وتعليمه بعامة وحث على العلم، قال الله عز وجل:ﵟوَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤ﵞﵝطه: ﵔﵑﵑﵜ، ففي الآية دعوة إلى طلب العلم والحرص عليه، وقد جعل الله عز وجل العلم معيارًا للتفاضل بين الناس،  قال عز وجل:ﵟقُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ ٩ﵞ ﵝالزُّمَر: ﵙﵜ، بالعلم يُعبد الله تعالى، وبه يُعرف، وبه تستقيم الدنيا، لذا جعله ذلك من أفضل العبادات، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»إلى آخر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه([1]).

ثواب العلم يصل إلى الإنسان بعد موته ما دام يُنتفع به، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»([2])، يقول ابن القيم رحمه الله: «هذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته، فإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حيٌ لم ينقطع عمله مع ما له من حياة الذِكر والثناء، فجريان أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب أعمالهم حياةٌ ثانية» ([3]).

تتفاوت درجات العلم ومنازله بحسب الموضوع الذي تتناوله، ولا شك أن أشرف العلوم وأجلها هو العلم بكتاب الله تعالى، فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف وأشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه، وقد حرص سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على تعلم القرآن وتعليمه، وعُرف هذا الحرص في سلوك خيارهم، وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه القرآن.

ونتكلم بعد هذه المقدمة في فضائل تعلم القرآن وتعليمه، ثم نتكلم عن حكم تعلم القرآن وتعليمه، ثم نتطرق إلى ذِكر بعض ما جاء من همة السلف رضي الله عنهم في تعلم القرآن وتعليمه.

أما فضائل تعلم القرآن وتعليمه فمنها: أن معلم القرآن ومتعلمه متشبهان بالملائكة والرُسل، كفى معلم القرآن ومتعلمه شرفًا وفخرًا أنهم متشبهون بالملائكة والرسل الكرام، فقد بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ليُعلم النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل:ﵟ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ﵞﵝالنَّجۡم: ﵕﵜ. فها هو معلم الرسول صلى الله عليه وسلم الأول جبريل عليه السلام أفضل الملائكة الكرام، نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وشديد القوى: أي قويٌ على فعل ما أمره الله تعالى، قويٌ على إيصال الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه إياه ومنعه من اختلاس الشياطين له، وهذا من حفظ الله تعالى لوحيه من جهة، ومن عناية الله تعالى برسوله محمدٍ r من جهةٍ أخرى أن أرسل إليه معلمًا كريمًا قويًا أمينًا، إذًا معلم القرآن ومتعلمه متشبهان بالملائكة والرسل، وهذا يدل على فضل تعلم القرآن وتعليمه.

كذلك من فضائل تعلم القرآن وتعليمه أن تعلم القرآن والقيام بتعليمه وبيان معانيه وأحكامه للناس من أفضل الأعمال وأجل القرب، يحظى متعلمه ومعلمه بالخير والفضل في الدنيا والآخرة، وقد وردت أحاديث كثيرة تحثُ على تعلم القرآن وعلى تعليمه؛ لأنه كلام الله تعالى فكان خير الناس بعد الأنبياء من اشتغل به، ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»([4])، وفي حديث آخر: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه» ([5])، وقد سُئل الثوري سفيان رحمه الله الإمام سئل عن الجهاد وإقراء القرآن يعني تعليم القرآن للناس، فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث أن تعليم القرآن أفضل من الجهاد في سبيل الله، هذه شهادة حق لأهل القرآن بأنهم خير الناس وأفضلهم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، ولم يقل: خيركم أو أفضلكم أكثركم مالًا أو أولادًا، ولا أوسعكم عقارًا أو نحو ذلك من حطام الدنيا، قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» هذه صفات المؤمن الصادق المُتبع للرسول صلى الله عليه وسلم هو حريصٌ على تعلم القرآن وعلى تزكية نفسه بالقرآن، كما يحرص على تعليم الآخرين وإرشادهم والدعوة إليه، ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مُكملٌ لنفسه ولغيره جامعٌ بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وخير الناس وأفضلهم من تعلم القرآن حق تعلمه وعلمه حق تعليمه ولا يتمكن من هذا إلا بالإحاطة بالعلوم الشرعية وأصولها وفروعها، قال القرطبي رحمه الله: «تعليم القرآن أفضل الأعمال لأنه فيه إعانةً على الدين، فهو كتلقين الكافر الشهادة ليُسلم» ([6])، فما معنى التعلم والتعليم؟ ابن القيم رحمه الله أشار إلى هذا في كتابه مفتاح دار السعادة، قال: «تعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها، وتعلم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمي تعلمه وتعليمه، فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلةٌ إليه، فتعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها، وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل» ([7]).

إذًا من فضائل القرآن أن تعلم القرآن والقيام بتعليمه أفضل الأعمال وأجل القربات.

أيضًا من فضائل تعلم القرآن وتعليمه: أن تعلم القرآن وتعليمه خيرٌ من كنوز الدنيا، فـعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟»، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» ([8]).

إذًا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل بصورة معبرة في الحث على تعلم القرآن، والحث على قصد بيوت الله تعالى لتعلم القرآن لما في بيوت الله من السكينة والطمأنينة.

 والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أراد ترغيب هذه الأمة في الباقيات وتزهيدهم من الفانيات، فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، ولا شك أن أجر تعلم آيةٍ من كتاب الله عظيمٌ كبير إذا قسنا على ما جاء في الحديث من أن المسلم إذا حضر صلاة الجمعة في الساعة الأولى فكأنما تصدق ببدنة أي ناقة، وفي الحديث الذي ذكرناه وُصفت الناقة بأنها كوماء زهراء عظيمة السنام كثيرة اللحم مائلة إلى البياض من عِظم السمن وهي من خيار أموال العرب آنذاك، وهذا أفضل من التصدق بمجرد ناقة كما جاء في حديث التبكير إلى صلاة الجمعة، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم الخير وفي تعليمه للناس، وعده كأجر حاجٍ تامًا حجته في قوله صلى الله عليه وسلم: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان له كأجر حاجٍ تامًا حجته»([9])، ولا ريب أن تعلم القرآن وتعليمه يأتي في مقدمة الخير الذي يُعلم، أو يُتعلم.

وفي حديث آخر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن متعلم الخير ومعلمه بمنزلة المجاهد في سبيل الله لقوله: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله»([10])، إذًا جديرٌ بمتعلم القرآن ومعلمه أن يُنزل منزلة المجاهد في سبيل الله تعالى، وكان الصحابة وتابعوهم أحرص الناس على تعلم وتعليم كتاب الله، وأحث الناس وتشجيعهم على احتساب الأجر في ذلك، وقد جاءت آثارٌ عنهم فـ عن أبي عُبيدة، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يُقرئ القرآن فيمر بالآية فيقول للرجل: «خذها فوالله لهي خيرٌ مما على الأرض من شيء» ([11])، وعن الأعمش أيضًا قال: «مر أعرابيٌ بعبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، وهو يُقرئ قومًا القرآن، أو قال: وعنده قومٌ يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمدٍ صلى الله عليه وسلم» ([12]).

أيضًا من فضائل تعلم القرآن وتعليمه: أن من علم آيةً كان له ثوابها ما تُليت هذه الآية، لا شك أن تعليم الناس القرآن العظيم من النفع المتعدي وهو مما يلحق المعلم من عمله الصالح وحسناته بعد موته، فـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علمه ونشره، وولدًا صالح تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته»([13])، وكذلك فإن تعليم الناس القرآن داخلٌ في عموم الدلالة على الخير، والمشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله»([14]) .

قال الحافظ النووي رحمه الله: «فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات لا سيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بمثل أجر فاعله: أن له ثوابًا بذلك الفعل كما أن لفاعله ثوابًا لا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء» ([15]).

إذًا جاء أجر تعليم القرآن كذلك منصوصًا عليه صراحةً حتى ولو كانت آيةً واحدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من علم آيةً من كتاب الله كان له ثوابها ما تُليت»([16])، وهذا من الآثار الحسنة التي تُكتب في ميزان معلم القرآن، لأنه كان السبب المباشر في تعليمها، والله عز وجل قال:ﵟوَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ١٢ﵞﵝيس: ﵒﵑﵜ، ما قدموا ما عملوا من الأعمال قبل الموت، وأما الآثار فهي آثار الأعمال، مثل ما يتركون من خيرٍ، إذًا هذا من فضائل تعلم القرآن وتعليمه أن من علم آيةً كان له ثوابها ما تُليت.

أيضًا من فضائل تعلم القرآن وتعليمه: ثواب من يُعلم الصغار القرآن، أولى الناس بتعليم القرآن العظيم هم أولادنا الصغار، وهذه سُنةٌ متبعةٌ عند سلفنا الصالح، وهكذا نجد صغار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم وهم صغار يتعلمون كتاب الله ويحفظونه، فـعن سعيد بن جبير، رحمه الله، قال: «إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم، قال: وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم»([17])، يعني حفظ المحكم من كتاب الله U، وعن سعيد بن جبير رحمه الله،  قال: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم» ([18]).

أيضًا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «جمعت المحكم في عهد رسول الله r فقلت له: وما المحكم؟ قال ابن عباس: المفصل» ([19])، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «دلالةٌ على جواز تعليم القرآن في الصبا، وهو ظاهرٌ، بل قد يكون مستحبًا أو واجبًا، لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصِغر أولى من حفظه كبيرًا وأشد علوقًا بخاطره، وأرسخ وأثبت كما هو المعهود من حال الناس» ([20]).

إذًا من فضائل تعلم القرآن وتعليمه: أن من علم الصغار فله ثوابٌ عظيم، ثوابٌ عظيم وقد اقتدى بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

نأتي لمسألة حكم تعلم القرآن وتعليمه مما سبق ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه حرص على تعليم أصحابه القرآن إما بنفسه وإما بتوكيل بعض أصحابه للقيام بتعليم الناس القرآن، وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن، فإذا مر بسجود القرآن سجد وسجدنا معه»([21])، إذًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يعلمنا القرآن بنفسه صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضًا في حديث جابر أيضًا في صحيح البخاري، قال جابر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن»([22])، فكان بنفسه صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة وإذا طرأ ما يمنعه من مباشرة ذلك وكل بعض أصحابه للقيام بمهمة تعليم القرآن، ومن ذلك ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغل، فإذا قدم رجلٌ مهاجرٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجلٍ منا يعلمه القرآن»([23])، وهكذا يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس القرآن»([24])، وهكذا سلفنا الصالح بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم.

أما حكم تعلم القرآن وتعليمه فهو فرض كفايةٍ على المسلمين على الراجح، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين إلا ما تصح به الصلاة من القرآن بالإجماع، وهو الفاتحة، هذه فرض عين على كل مسلم لأنها ركن من أركان الصلاة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والصلاة واجبة ولا تتم إلا بقراءة الفاتحة، أما سورة الفاتحة فتعلمه فرض كفاية على الجميع ومستحبٌ بالإجماع، وقد مرت معنا الأدلة من حديث عثمان بن عفان  رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»([25])، وفي الحديث الآخر: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»([26])، وهكذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرن من أربعةٍ: من عبد الله بن مسعود، وسالمٍ، ومعاذٍ، وأُبي بن كعب»([27])، وما رواه أيضًا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد محادثةٍ جرت بينهما في التحذير من الفتن قال له: «يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه ثلاث مرات»([28])، وهكذا في حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «تعلموا القرآن فإنه شافعٌ يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين»([29])، قال النووي رحمه الله: «تعليم المتعلمين فرض كفاية فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعين عليه، وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين، وإن طُلب من أحدهم وامتنع فأظهروا الوجهين أنه لا يأثم، لكن يُكره ذلك إن لم يكن له عذر» ([30])، إذًا علمنا حكم تعلم القرآن وتعليمه أنه فرض كفايةٍ على المسلمين على القول الراجح.

ونأتي في آخر هذه المحاضرة بذكر بعض ما ورد وثبت من همة سلفنا الصالح في تعلم القرآن وتعليمه ليكونوا لنا قدوة وأسوة، فالذي يطلع على سير العلماء ينظر إلى فقه سلفنا الصالح أنهم فقهوا عن الله تعالى أمره وتدبروا حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، وجلسوا لتعليم الناس القرآن وتبيين معانيه وأحكامه وهذا احتاج منهم إلى تضحيات جِسام وإلى همةٍ عالية وتفريغ للأوقات وصبرٍ ومصابرة رغم ازدحام أوقاتهم بأعباء ومسئوليات كثيرة يحتاجون إليها، فقد كان تعليمهم القرآن شغلهم الشاغل، هذه بعض النماذج عن سلفنا الصالح تبين علو همتهم في تعلم كتاب الله وفي تعليمه، ومن ذلك أن بعضهم ترك الأوطان لأجل تعليم القرآن، وقد ذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: «جمع القرآن خمسةٌ: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبي، وأبو أيوب، فلما كان زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: أن أهل الشام قد كثروا وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم، فدعا عمر الخمسة فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني بثلاثةٍ منكم إن أحببتم، فقالوا: ما كنا لنتشاحن هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبي بن كعب، فخرج معاذ وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، فإذا رأيتم ذلك فوجوه إليه طائفةً من الناس، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين» ([31]).

هذا كلام عمر رضي الله عنه الخليفة،  قال: «فقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة بن الصامت في حمص، فخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين، فمات في طاعون عمواس معاذ في فلسطين، ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين وبها مات ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات» ([32])، رضي الله عنهم تركوا أوطانهم، تركوا المدينة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورحلوا لأجل تعليم القرآن وماتوا هناك رضي الله عنهم وأرضاهم، وهكذا أبو الدرداء  رضي الله عنه، وهو يعتبر ممن أسس حلقات تحفيظ القرآن وأشرف عليها بنفسه في بيوت الله عز وجل، فـعن سويد بن عبد العزيز رحمه الله قال: «كان أبو الدرداء رضي الله عنه، إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرةً عشرة، وعلى كل عشرةٍ عريفًا، ويقف وهو في المحراب يرمقهم ببصره وإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك» ([33])، فهذا مما يدل على حرص سلفنا الصالح على تعليم القرآن، وعن مسلم بن مشكم، رحمه الله، قال: قال لي أبو الدرداء: «اعدد من في مجلسنا؟ قال: فجاءوا ألفًا وستمائة ونيفًا، وكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح انفتل وقرأ جزءًا فيحدقون به يسمعون ألفاظه»([34]) ، هكذا يحضر مجلسهم ألف وستمائة ونيف ليتعلموا منهم القرآن، فهذا يدل على حرص سلفنا الصالح وعلى همتهم العالية، وهكذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أمير البصرة في عهد عمر لم تمنعه إمارة البصرة وكثرة مسؤولياته من تعليم الناس القرآن، فـعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بعثني الأشعري إلى عمر، فقال عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت: تركته يُعلم الناس، فقال عمر: إنه كيسٌ ولا تُسمعها إياه» ([35]) ، هكذا أيضًا سعد بن عبادة قال: «وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج» ([36])، يعني كان يُعلم الناس ويقرؤوهم، علم الناس القرآن في مسجد الكوفة أربعين سَنة .

أقرأ أبو عبد الرحمن -أبو عبد الرحمن هذا السلمي رحمه الله-، كان يُقرأ الناس ويُحفظهم ويُعلمهم القرآن أربعين سَنة في مسجد الكوفة، فقد بدأ يُعلم القرآن في خلافة عثمان بن عفان إلى أيام الحجاج، قال أبو عبد الرحمن السلمي: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا الحديث، يذكر الحديث حديث عثمان رضي الله عنه، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»([37]).

وهكذا أيضًا الإمام المقرئ نافع بن عبد الرحمن الإمام نافع المدني أحد القراء السبعة أقرأ الناس دهرًا طويلًا يزيد عن سبعين سَنة، لأنه ممن طال عمره، وقد ذكر الذهبي رحمه الله عددًا ممن أقرأهم نافع فقال: وأقرأ الناس دهرًا طويلًا، فقرأ عليه من القدماء مالكٌ، وذكر عد - عد كثيرًا من أئمة الإسلام من أئمة القراء أنهم قرؤوا على نافع، فعلم الناس القرآن أكثر من سبعين سَنة همة عالية عند سلفنا الصالح، وهكذا أيضًا ممن تفرغ في تعليم القرآن للعميان الإمام أبو منصور الخياط البغدادي تخرج على يديه عددٌ كبيرٌ من قراء القرآن، وقد وصفه الذهبي رحمه الله بقوله: جلس لتعليم كتاب الله دهرًا، وتلا عليه أمم، وقد لقن العميان دهرًا لله، وكان ينفق عليهم حتى بلغ عدد من أقرأهم من العميان سبعين نفسًا.

قال الذهبي: «ومن لقن القرآن لسبعين ضريرًا فقد عمل خيرًا كثيرًا» ([38]).

هذه همة سلفنا الصالح في تعلم القرآن وتعلمه، وهكذا سيرهم مليئة كانوا يرحلون من أجل تعلم القرآن كما مر معنا، وهكذا أيضًا نذكر أيضًا من هؤلاء الإمام مجاهد بن جبر، تلميذ ابن عباس، كان ملازمًا لعبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ملازمة شديدة، قال مجاهد: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أوقفه عند كل آيةٍ أسأله: فيمن نزلت؟ وكيف كانت» ([39])، قال عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة قال: «رأيت مجاهدًا سأل ابن عباسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله»([40])، فهذا نموذج أيضًا آخر في بيان همة سلفنا الصالح في تعلم القرآن، وتعليمه.

ونختم بأثرٍ عن ابن خزيمة رحمه الله قال: «استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولًا حتى آذن لك فاستظهرت القرآن»، استظهرت القرآن يعني احفظ القرآن قبل. فقال لي: «امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن ليّ، وخرجت إلى مرو وسمعت بمرو الروذ من محمد بن هشام صاحب هشام فنعي إلينا قتيبة» ([41])، وهذا من علو همة السلف.

هذه أمثلة فيها بيان علو همة سلفنا الصالح في تعلم القرآن وتعليمه هم أسوتنا رضي الله عنهم ورحمهم الله، هذا ما أردنا أن نذكره من خلال هذه المحاضرة بذكر فضائل تعلم القرآن وتعليمه وحكم تعلم القرآن وتعليمه، ونماذج أيضًا من همة سلفنا الصالح في تعلم القرآن وتعليمه.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يتعلم القرآن، ويُعلم القرآن لغيره، كما نسأله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، ونسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

 


 

(1) صحيح مسلم (2674).

(2) رواه مسلم (1631).

([3]) مفتاح دار السعادة (1/500).

(4) رَوَاهُ البُخَارِيّ  (5027) .

(5) رَوَاهُ البُخَارِيّ (5028) .

(6) التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي (ص144).

([7]) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/202).

([8]) رَوَاهُ  مسلم (803).

([9]) رواه الطبراني في الكبير (7473)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (86).

(10) رواه ابن ماجه (227) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (186).

([11])  فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص52).

([12]) فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص51).

([13]) رواه ابن ماجه (242).

([14]) رواه مسلم (1893).

([15]) شرح النووي على مسلم (13/39).

(16) رَوَاهُ  سهل القطان في حديثه عن شيوخه (4/ 243/ 2)، وينظر: السلسلة الصحيحة (1335).

(17) رواه البخاري (5035).

(18) رواه البخاري (5035).

([19]) رواه البخاري (5036). 

([20]) فضائل القرآن (ص 226) .

([21]) رَوَاهُ  أحمد -واللفظ له- (6461)، ومسلم بنحوه (٢٥٧٥).

([22]) رواه البخاري (6382).

([23]) رَوَاهُ أحمد (22766).

([24]) رَوَاهُ  أحمد (19544).

([25]) تقدم تخريجه.

([26]) تقدم تخريجه.

([27]) رواه البخاري (4999) ومسلم (2464(.

([28]) رواه أبو داود (4246).

([29]) رواه مسلم (804).

([30]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص56).

([31]) سير أعلام النبلاء (2/344).

([32]) سير أعلام النبلاء  (4/19).

([33]) معرفة القراء الكبار (1/41).

([34]) سير أعلام النبلاء (2/346).

(35) سير أعلام النبلاء (2/390).

([36]) رواه البخاري (1620).

([37]) تقدم تخريجه.

(38) سير أعلام النبلاء (19/222).

([39]) سير أعلام النبلاء (4/450).

(40) جامع البيان للطبري (1/90).

(41) سير أعلام النبلاء (14/371).