قواعد مهمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله،

 أما بعد فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، ونشكر القائمين على مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، وأسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياهم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل هذه المحاضرة وغيرها في موازين أعمالنا يوم القيامة، محاضرة اليوم بعنوان: "قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قواعد وضوابط مهمة دل عليها الدليل، ذكرها أهل العلم فيما يتعلق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول دين الإسلام، إن صلاح العباد متوقف على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، كما قال الله عز وجل: ﵟكُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵐﵑﵑﵜ، فجاءت خيرية هذه الأمة التي أخرجت للناس، خير أمة أخرج الناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهمية بالغة، ففيه تحقيق الولاية بين المؤمنين، كما قال الله عز وجل: ﵟ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵗﵜ ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ»([1]) .

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبرز صفات المؤمنين ومن أسباب قوتهم وفلاحهم، رتب الله عز وجل عليه الأجر الجزيل والثواب الكثير، كما قال الله عز وجل: ﵟ لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ١١٤ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵔﵑﵑﵜ، كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التهاون فيه يجرّ المفاسد الكثيرة والأضرار الخطيرة التي تعم جميع الأمة، مما لا يخفى على كل مؤمن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين، فيه صلاح الأمة ونجاتها، وتركه أو التهاون به فيه هلاكها، قال الله عز وجل: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵕﵐﵑﵜ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الآية: « يا أيها الناس إنّكم تقرءون هذه الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه» ([2]).

 إذًا كل مؤمن يدرك أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا تأتي هذه المحاضرة بإذن الله تعالى نذكر فيها قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونعرف المعروف ونعرف المنكر، ونذكر بعضا من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما قال أهل العلم، ثم نذكر القواعد المهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه القواعد في ثلاثة أمور: الأمر الأول قواعد تتعلق بالفعل نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني قواعد تتعلق بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الفاعل، والثالث قواعد تتعلق بالمأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر المفعول به.

 إذًا قواعد وضوابط نحتاجها جميعا، يحتاجها العالم وطالب العلم، يحتاجها الداعية إلى الله، يحتاجها المسلم لضبط مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 المعروف عرّفه ابن جرير الطبري رحمه الله، يقول: «كل ما كان معروفًا فعله، جميلا مستحسنًا،  غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفًا، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله» ([3])، هكذا ابن منظور رحمه الله أيضا في لسان العرب يقول: «المعروف ضد المنكر، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات» ([4]) ، إذًا خلاصة تعريف المعروف: ما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس؛ لذلك سمي المعروف معروفا لأن النفوس تألفه وتسكن إليه وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده هذا المعروف.

 أما المنكر وهو ضد المعروف، المنكر يطلق عليه القبيح ونكير الإنكار كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، وأيضا الإمام الطبري رحمه الله يقول: «أصل المنكر، ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلهُ، ولذلك سميت معصية الله منكرًا، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون رُكوبها» ([5])، وبعض أهل العلم قالوا: المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة.

 إذًا المنكر ما تنكره النفوس وتنبو عنه، تشمئز منه ولا تعرفه وهو ضد المعروف، إذًا هو اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحُه من معصية الله تعالى وظلم عباده.

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضله عظيم، شرعه الله عز وجل وأوجبه على المستطيع، وأوجبه على المسلمين كل حسب مسؤولياته، ولابد من هذه المقدمة التي ذكرناها، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب من أعظم واجبات الإسلام، وأهل العلم لهم أقوال كثيرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها» ([6]) ، ويقول الحافظ النووي رحمه الله: «قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي من الدين» ([7]) ، وهكذا يقول الحافظ ابن حزم رحمه الله: «اتّفقت الْأمة كلهَا على وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم» ([8]).

إذًا علماء الإسلام أجمعوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على ما جاء من الأدلة في الكتاب والسنة، هذه مقدمة لابد منها، ثم نذكر الآن قواعد مهمة وضوابط مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ثلاثة أقسام كما أشرنا سابقا.

 القسم الأول: قواعد تتعلق بالمعروف والمنكر، بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته، من القواعد توحيد الله والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله والبدع في الدين، ولذلك يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «وأصل المعروف توحيد الله، والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله، وعبادة غيره، وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله، الذي هو أعظم المعروف، وينهون الناس عن الشرك بالله، الذي هو أعظم المنكر» ([9])،هذه قاعدة لابد منها أصل المعروف توحيد الله والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله والبدع في الدين.

 قاعدة ثانية: لا بد أن تكون المصلحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر راجحة على المفسدة، هذه قاعدة مهمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة، هذا ضابط مهم قاعدة مهمة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي منكر وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد...فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: "أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم"، ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة» ([10])، ثم يقول بعدها رحمه الله: «ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبيّ وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم؛ وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه» ([11])، إذًا هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في المصدر السابق، فيه ذكر أنه لا بد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة.

 قاعدة ثالثة: درجات إنكار المنكر، بحسب المصالح والمفاسد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله مبينا درجات إنكار المنكر: «إنكار المنكر أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه - ينكر المنكر ثم نتيجة هذا الإنكار يأتي منكر أكبر منه- ؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان-يعني يزول المنكر ويخلفه ضده المعروف، والثانية أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته يقلل المنكر-، والثالثة موضع اجتهاد-أن يخلفه ما هو مثله هذا موضع اجتهاد أهل العلم- ، والرابعة محرمة» ([12]، إذًا هذه درجات إنكار المنكر بحسب المصالح والمفاسد، وهذا تفصيل جيد ضابط جيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 قاعدة أخرى أيضا: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مر معنا سابقا اتفق أهل السنة والجماعة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الحافظ النووي رحمه الله: «قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة» ([13])، إذًا هذه أربع قواعد.

 الخامسة من القواعد التي تتعلق بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مراتب بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه،"([14])، إذًا تنقسم مراتب إنكار المنكر إلى ثلاثة أقسام، ويبين ذلك ويشرحه الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله في كتابه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ([15]) يقول رحمه الله مبينًا مراتب إنكار المنكر: « الأولى: الإنكار مع القدرة بأن يكون له سلطة عامة أو خاصة، وذلك بإراقة أواني الخمر وكسر آلات اللهو، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك، كالسلطان ونحوهم من أهل  القدرة، وهكذا المؤمن يكون مع أهله وولده يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله باليد إذا لم ينفع الكلام، وهكذا من له ولاية من أمير أو محتسب أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر أو من جهة جماعته حيث ولوهم عليه -هذه المرتبة الأولى-.

 يقول: الثانية يأمرهم باللسان وينهاهم لمن ليس له سلطة، كأن يقول يا قومي اتقوا الله صلوا أدوا الزكاة اتركوا المنكر دعوا ما حرم الله، بروا والديكم صلوا أرحامكم إلى غير هذا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان، ويعظهم ويذكرهم ويتحرى الأشياء التي يفعلونها حتى ينبئهم ويعاملهم بالأسلوب الحسن مع الرفق، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق في الأمر كلّه»([16]).

 ثم يقول رحمه الله: المرتبة الثالثة: إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهى إلى القلب، يكره المنكر بقلبه ويبغضه، ولا يكون جليسا لأهله، وروي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له بعض الناس: هلكت إن لم أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال له رضي الله عنه: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر».

 قاعدة أيضا من القواعد فيما يتعلق بالقيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر: شروط إنكار المنكر، ذكر بعض أهل العلم شروطا لإنكار المنكر ينبغي مراعاتها حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساو أو أكبر منه، وهذه الشروط التي ذكرها أهل العلم:

 أن يكون المنكر موجودا في الحال، صاحب المنكر مباشر لهذا المنكر كلبس الحرير وإمساك العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤدي إلى معصية أفحش منه أو مثلها، وذلك للآحاد وللرعية.

 أيضا الشرط الثاني لإنكار المنكر: أن يكون المنكر ظاهرا من غير تجسس ما لم يكن مجاهرا، فلا يجوز للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتسور الجدران، أو يكسر الأبواب ليطلع على بيوت الناس، ويتجسس عليهم ما لم يظهر شيء من ذلك، وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» ([17])، هذا شرط ذكره أيضا أهل العلم.

 والشرط الثالث من شروط إنكار المنكر قالوا أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها، وهذا فيه تفصيل عند أهل العلم أن يكون منكرا معلوما بغير اجتهاد، قال أهل العلم فما كان فيه مجال للاجتهاد فلا حسبة فيه، قال النووي رحمه الله: «ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره، وإنما ينكرون ما خالف نصا وإجماعا أو قياسا جليا» ([18]) ، كلام الحافظ رحمه الله استدرك عليه بعض أهل العلم، قالوا ليس كل مجتهد مصيب للحق، الحق واحد لا يتعدد، فالمجتهد يصيب  ويخطئ، وإذا أصاب له أجران، وإذا أخطأ فله أجر على اجتهاده، والحق ما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه أهل العلم، فإذا صح الحديث ولا يوجد ما يعارضه فيجب العمل بالحديث، ومن خالف الحديث الصحيح الصريح ينكر عليه ولو في المسائل الاجتهادية والله أعلم.

 إذًا هذه قواعد تتعلق بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 نأتي للقسم الثاني: قواعد الأمر المعروف والنهي عن المنكر، إذًا المقصود من الأمر بالمعروف من تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قواعد يجب أن يعمل بها الآمر بمعروف والناهي عن المنكر، إذا هذه قواعد تتعلق بالآمر والناهي:

 أولا: الإسلام هذا شرط مهم؛ لأن الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه نوع ولاية، ولاية للكافر على المسلم؛ لأن الكافر لو قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يقبل منه، قال الله عز وجل: ﵟفَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ٢ﵞ ﵝالزُّمَر : ﵒﵜ، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يكون مخلصا بعيدا عن طلب الشهرة والرياء والسمعة والمال، فأمره ونهيه هو نصح لله تعالى ونصح لإخوانه المسلمين، وإنما الأعمال بالنيات.

 أيضا من القواعد: المتابعة، فيجب على الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون متابعا لم  جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 خامسا: أن يكون عنده العلم، العلم بما يأمر به أو ينهى عنه هذا شرط أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالما بما يأمر وبما ينهى؛ لذلك قال الله عز وجل: ﵟلَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵖﵘﵒﵜ ، فمن عجز عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده تعين لسانه، فإن عجز تعين الإنكار بالقلب، والإنكار بالقلب لا يسقط بحال من الأحوال، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان" وقال: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"» ([21]).

أيضا من الضوابط والقواعد التي تتعلق بالأمر والناهي الرفق، الرفق صفة يحبها الله تعالى لأن الإنسان بطبعه وبفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة، وجاءت أدلة الكتاب والسنة تأمر بالرفق واستعمال الحكمة مع الناس، قال عز وجل: ﵟٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵕﵒﵑﵜ ، وقال عز وجل مخاطبا موسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: ﵟ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗاﵞ ﵝطه : ﵔﵔﵜ ، وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عَائشة «إنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطي عَلَى الرِّفق، مَا لاَ يُعْطِي عَلَى العُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» ([22])، وجاء في الحديث الآخر: «إنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ في شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»([23])  ولذلك يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «الناس محتاجون إلى مداراة ورفق بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له» ([24])، إذًا يأمر بالرفق والخضوع، وإذا لم يسمعوا لا يغضب حتى لا يكون ممن يريد أن ينتصر لنفسه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر» ([25])، إذًا لا يجوز أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطيش، ولابد أن يكون الرفق استعمال الرفق.

 أيضا من القواعد: الصبر صفة لازمة لا بد أن يتصف بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الصبر، ومنزلة الصبر لا تخفى معلومة خصلة أول العزم من الرسل، كما قال عز وجل: ﵟ فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِﵞ ﵝالأَحۡقَاف : ﵕﵓﵜ، وقال عز وجل: ﵟوَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ ١٢٦ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵖﵒﵑﵜ ، يقول الرازي رحمه الله في تفسيره: «من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره  بِالصَّبْرِ» ([26]) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «أمر الله الرسل وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر» ([27])، فهذه صفات وقواعد وضوابط لابد منها.

 أيضا من الضوابط في الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العدالة قال بها بعض أهل العلم، تشترط العدالة في الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخالفهم بعض العلماء من المحققين من أهل العلم، قالوا بعدم اشتراط العدالة، وأن العصمة من المعاصي ليست من شروط الأمر والنهي بالإجماع، فلو اشترط هذا الشرط العدالة- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتعطل الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله بعد أن بين عدم اشتراط العدالة في الآمر والناهي: «ولكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فانه ليس من يعلم كمن لا يعلم ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك» ([28])، وقال الحافظ أبو بكر ابن العربي رحمه الله: «وليس من شرطه -يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أن يكون عدلا عند أهل السنة... فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق، والنهي عن المنكر عام في جميع الناس» ([29]).

إذًا أيضا العاشر من القواعد التي تتعلق بالآمر المعروف والناهي عن المنكر: التواضع، لابد أن يتصف بالتواضع عند أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، يكون متواضعا، والتواضع معرفة المرء قدر نفسه، تجنب الكبر، وهذا يتطلب من الإنسان أن يتجنب المباهاة بما فيه من الفضائل، يتجنب المفاخرة بالجاه والمال، يتحرز من الإعجاب والكبر، يتواضع مع أقرانه لا يستكبر عن صاحب المعصية،  فعلى الداعية إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون شديد الاحتراز من الوقوع في العجب وفي الكبر، فعليه أن يتواضع.

 وهذه قواعد أيضا من الصفات التي لابد أن يتصف بها الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال أهل العلم: حسن الهيئة أن يكون حسن الهيئة، إحسان المظهر في الملبس والشعر والطيب والنظافة، هذا أمر مهم للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، هو يريد رفعة الدين، تمثيل الإسلام إغاظة أعداء الله، حتى يكون مثابا أن يكون نظيف الثوب طيب الرائحة حسن الشعر، حسن المظهر حسن الخلق، والوسائل لها أحكام المقاصد، وهكذا هذه قاعدة مهمة وأمر مهم لابد أن يتصف به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.

كذلك أيضا من الضوابط والقواعد: لابد أن يتصف بصفة الوقار والسكينة، يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: « الوقار: هو هيئة يتصف بها العبد بحيث إذا رآه من رآه يحترمه ويعظمه، والسكينة هي عدم الحركة الكثيرة، وعدم الطيش بل يكون ساكنا في قلبه وفي جوارحه، وضد السكينة ضدها أن يكون الإنسان كثير الحركات كثير التلفت، لا يرى عليه أثر سكينة في قلبه ولا قوله ولا فعله» ([30])، إذًا صفة الوقار لابد أن يتصف بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وصفة الوقار تتلخص في هيئة الوجه أن يكون طلق الوجه في جميع الأحوال أن يبعد عن الثرثرة، أن لا يستغرق في الضحك أن يكون وقورا في مشيه وفي جلسته، يجلس بوقار يتواضع في جلسته أمام المدعوين، أمام من أراد أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن منكر، يصون يديه عن العبث وعينيه عن تفرق النظر، هذا أمر مهم، أيضا يهتم بهيئته في لباسه، يلبس لباسا حسنا يتجمل، والإسلام حث على التجمل، قال عز وجل: ﵟقُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖﵞ ﵝيُوسُف : ﵘﵐﵑﵜ .

يقول ابن عثيمين: «تأمل أيها الداعية لله  -الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قول الله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي على بصيرة في ثلاثة أمور: على بصيرة فيما يدعو إليه.

على بصيرة في حال الدعوة، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب»([31])  ليعرف حالهم ويستعد لهم، فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله؛ لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال، وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع»([32]) فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو» ([33])، انتهى كلام العثيمين رحمه الله في كتابه زاد الداعية، يبين فيه هذا الأمر المهم قاعدة مهمة العلم بالمدعوين بأحوالهم، ولذلك كان سلفنا الصالح يهتمون بالتعرف على حال المدعو عند جهله، فالآمر بالمعروف ينبغي له أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام، فمنهم الملحد ومنهم المشرك الوثني ومنهم اليهودي ومنهم النصراني ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي، ثم هم أيضا يختلفون في قدراتهم العقلية والعلمية والصحية، ومراكزهم الاجتماعية، فهذا مثقف وهذا أمي وهذا رئيس وهذا مرؤوس، هذا غني وهذا فقير هذا صحيح وهذا مريض هذا عربي وهذا أعجمي، ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كالطبيب الحكيم الذي يشخص المرض، يعرف الداء يحدده ثم يعطي الدواء المناسب على حسب المريض ومرضه، مراعيا في ذلك قوة المريض وضعفه وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية، هذا أمر مهم لابد منه، قال ابن تيمية رحمه الله: «لابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز ولابد من العلم بحال المأمور والمنهي» ([34])، المعرفة بحال المأمورين بالمعروف المنهيين عن المنكر أمر مهم.

 إذًا أيضا قاعدة أخرى نختم بها تتعلق أيضا بالمأمورين بالمعروف والمنهيين عن المنكر: مراعاة أحوال المأمورين والمنهيين واستخدام ما يناسب معهم من اللين والشدة، هذا أمر مهم جدا، استخدام ما يناسب معهم من اللين والشدة، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه أن يستخدم ما يتناسب معهم من اللين والشدة، هناك أناس لا تزيدهم شدة إلا بعدا لا تنتج القسوة معهم إلا نفورا، وهناك لا يزيدهم اللين إلا طغيانا، هناك من الناس لا يزيدهم اللين إلا طغيانا، لا يثمر الرفق معهم إلا عصيانا، فيجب على الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يراعي حال هؤلاء وأولئك يستخدم مع كل صنف من اللين أو الشدة ما يرجو بفضل الله تعالى من ورائه أن تكون دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن تكون أسرع وأقوى وأكثر تأثيرا.

 هذه قواعد جمعناها من بعض كتب أهل العلم، لعل فيها تلخيصا وفيها إنارة الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر الداعين إلى الله وجل.

 نسأل الله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر وفتنة، ونسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ودعاء مستجابا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 

([1]) رواه الترمذي (2169).

([2]) رواه أحمد (16).

([3]) جامع البيان (7/105).

([4]) لسان العرب (9/240).

([5]) جامع البيان (7/105).

([6]) الحسبة في الإسلام (ص81).

([7]) شرح صحيح مسلم (1/51).

([8]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/132).

([9]) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص8).

([10]) مجموع الفتاوى (28/126 وما بعدها).

([11]) مجموع الفتاوى (28/131).

([12]) إعلام الموقعين (3/16).

([13]) شرح صحيح مسلم (1/51).

([14]) رواه مسلم (49).

([15]) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص16 وما بعدها).

([16]) رواه البخاري (6024)، ومسلم (2165).

([17]) رواه أبو داود (4888).

([18]) شرح صحيح مسلم للنووي (2/23).

([19]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص28).

([20]) شرح صحيح مسلم للنووي (2/23).

([21]) مجموع الفتاوى (28/127).

([22]) رواه مسلم (2593).

([23]) رواه مسلم (2594).

([24]) ذكره الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص380).

([25]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص80).

([26]) مفاتيح الغيب (25/120).

([27]) مجموع الفتاوى (28/136).

([28]) تفسير ابن كثير (1/86).

([29]) أحكام القرآن لابن العربي (1/292).

([30]) شرح رياض الصالحين (7/95).

([31]) رواه البخاري (1496)، ومسلم (31).

([32]) رواه البخاري (2680)، ومسلم (1713).

([33]) زاد الداعية (ص13).

([34]) الحسبة في الإسلام (ص83).