قواعد في التعامل مع العلماء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد..
مقدمة:
قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)([1]).
فالعلماءُ هم ورثةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، القائمون في أمَّته بمهمَّة البلاغ والتعليم والتوجيه، وبيانِ حدود الحلال والحرام.
فإذا كانوا كذلك، فإنه يجبُ على الأمَّةِ طاعتهُم في طاعة الله، وموالاتُهم واحترامهُمُ، والسعيُ إليهم، والأخذ عنهم، وعلى هذا جرى سلفُنَا الصالحُ رضوانُ الله عليهم.
والناسُ في نظرتهم للعلماءِ على أصناف:
· قومٌ رأوا أن العلماءَ كسائرِ الناسِ، ليس لهم قدرٌ ولا منزلةٌ، فضلُّوا وأضلُّوا وفرَّقُوا دينهم شيعاً وأحـزاباً.
· وقومٌ قدَّسوا العلماءَ ورفعوهم فوق أقدارهم، فقلَّدوهم تقليداً مطلقاً، وردُّوا النصوص الشرعية.
· وقوٌم رأوا للعلماءِ منزلةً وقدراً، ولكنهم لم يعاملوهُم المعاملة الصحيحة التي كانَ عليها السلفُ الصالح.
· وقومٌ هم على الهدى والاستقامة، عَرَفوا منزلة العلماء وعاملوهم المعاملة الشرعية الصحيحة، وساروا على هدي سلفهم الصالح في التعامل مع العلماء كما سيأتي معنا.
فما هي المعاملةُ الصحيحةُ للعلماء ؟
لماذَا نتكلَّمُ في موضوعِ التَّعاملِ مع العلماءِ ؟
· لنعرف منزلةَ العلماءِ في الإسلام، وفضلهم على هذه الأمَّة.
· لنزدادَ حرصاً على طلبِ العلم، ونرتقي في مدارجِهِ لنكونَ منهم، وننال درجتَهُم العالية.
· لنجمع كلمة المسلمين، فإنَّ طريق الوحدة هو الاعتصام بالكتاب والسنَّة ولزوم جماعة المسلمين، والعلماءُ هم الأدِلاَّءُ على ذلك، فإذا أنزلناهم منازلَهُم، واعتبرنا أقوالَهُم تَوَحَّدَ الصفُّ، واجتمعت كلمةُ المسلمين.
· لنعرفَ طائفةً من أهلِ العلمِ، فيكونُ ذلك دافعاً لحبِّهم وموالاتِهِم والإكثارِ من ذكرهم.
· ولجهلِ كثيرٍ من المسلمين كيف يتعاملون مع علمائِهِم.
· وترغيباً في العلم.
فمَن هم العلماءُ الذين نعنيهم ؟
* العلماءُ هم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدىً وبصيرة.
* والعلماء هم فقهاءُ الإسلام، ومن دارت الفُتيَا على أقوالهم بين الأنام.
* والعلماءُ هم الفِرقةُ التي نفرت من هذه الأمَّةِ لتتفقه في دين الله ثم تقومُ بواجب الدعوة.
* والعلماءُ هم المعتبرون في الأمَّة، هم أهلُ السنّة والجماعة، أتباع السلف الصالح.
* أما أهلُ البدعةِ والضلاِلة ومن اتَّخذ العلمَ مهنةً وصَنْعَةً يتعيَّشُون بها، ويتشبهون بالعلماء في اللباسِ والهيئةِ وأساليبِ الكلام، فهؤلاء عوامٌّ متعالمون وليسوا بعلماء.
كيفَ يُعرَفُ العلماءُ من غيرِهم ؟
((الدلائلُ الدالَّةُ على عِلم العالم وفضلِه))
(1) أنَّ العلماء يُعرفون بعلمهمِ، وبرسوخِ أقدامهم في مواطن الشُّبَهِ حيثُ تزيغُ الإفهام.
قال ابنُ قيِّم الجوزية: (إنَّ الراسخ في العلم لو وَرَدَتْ عليهِ من الشُّبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينَهُ، لأنَّه قد رسخ في العلم؛ فلا تستفِزُّهُ الشبهاتُ، بل إذا وردت عليه ردَّها حرسُ العلم وجيشُه ...)([2]).
(2) أنَّ العلماء يُعرفون بجهادهم ودعوتهم إلى الله، وبذلِهِمُ الأوقات والجهود في سبيل الله.
(3) ويُعرفون بنُسُكِهِم وخشيتهم لله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28].
(4) ويُعرفون باستعلائِهم على الدنيا وحظوظهِا، بهذه الصفاتِ وغيرِها يعرفهم الناسُ.
(5) وممَّا يُعرفُ به العالمُ شهادةُ مشايخِه له بالعلم، وهكذا كان السلفُ ومن تبعهم بإحسان، كانوا لا يتصدَّروُن حتى يروا إقرارَ مشايخِهم لهم بالعلم وإذنِهِم لهم بالتصدُّرِ والإفتاءِ والتدريس.
قال الإمامُ مالكُ رحمه الله: (لَا يَنْبَغِي لرجل أَن يرى نَفسه أَهلا لشَيْء حَتَّى يسْأَل من كَانَ أعلم مِنْهُ وَمَا أَفْتيت حَتَّى سَأَلت ربيعَة وَيحيى بن سعيد فأمراني بذلك وَلَو نهياني انْتَهَيْت)([3]).
وقال أيضاً: (ليس كلُّ مَن أحبَّ أن يجلس في المسجد للتحديث والفُتيا جَلَس، حتى يشاور فيه أهلُ الصلاح والفضل، وما جلستُ حتى شَهِدَ لي سبعون شيخاً من أهلِ العلمِ أني موضِعٌ لذلك)([4]).
(6) وممَّا يدلُّ على علم العالمِ وفضلِهِ: دروسُهُ وفتاويه ومؤلفاته.
هذه بعضُ الدلائل الدالَّة على عِلْمِ العالِم وفضلِه، أمَّا المناصب ونحوها فهي ليست الدليل على العلم.
التفريقُ بين العلماءِ وبين مَن قَد يشتبهُ بهم:
( أ ) التفريقُ بين العلماءِ والقُّراءِ: في هذا العصر انتشرت القراءةُ وكثُرتِ الكتبُ والمطبوعاتُ، وأدَّى ذلك إلى وجودِ طائفةٍ همُ القُرَّاء.
والقُّراءُ هم الذين يجيدون القراءة ويقرؤون ما يكُتب لهم: وقد بيَّن النبيُ صلى الله عليه وسلَّم أنهم سيأتون في آخر الزمان، فقال في الحديث الصحيح: (سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ، يَكْثُرُ الْقُرَّاءُ، وَيَقِلُّ الْفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)([5]).
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: (وقد ظهر مصداقُ هذا الحديث في زماننا فقلَّ الفقهاءُ العارفون، وكثُر القُرَّاءُ من الكبار والصغار والرجالِ والنساء، بسبب كثرةِ المدارس وانتشارِها)([6]).
قال الإمام الذهبيُّ عنهم: (قومٌ انتموا إلى العلم في الظاهرِ، ولم يُتقنُوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ أوهَمُوا به أنهم علماء)([7]).
أمَّا العالِم: فهو ذو فهمٍ شموليٍّ عامٍ للإسلام، وإطِّلاعٍ على مُجْمَل الأحكام الشرعية، ودَرَسَ العلومَ الشرعية، فمرَّ على مسائل العلم، وأصبحت لديه ملكةُ فهم النصوص، وعَرَفَ مقاصِدَ الشريعةِ وأهدافها العامَّة).
(ب) التفريقُ بين العلماءِ والخطباءِ والوعَّاظِ: فليس كلُّ خطيب عالماً، فكم من واعظٍ يَسْلُبُ قلوبَ الناس بحُسْنِ حديثه، وحلاوةِ منطقِه، وليس له من العلم حظٌّ أو نصيبٌ، إذ ليس العلمُ بالقُدرة على الكلام.
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: (إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ: كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ: قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ)([8]).
مكانةُ العلماءِ ومنزلتهم:
جَعَلَت الشريعةُ للعلماءِ مقاماً رفيعاً، وأقاَمْتهُم أََدِلاَّءَ للناسِ على أحكامِ اللهِ، فأوجَبَت طاعَتُهُم تبعاً لطاعةِ الله ورسوله، الأدِّلةُ كثيرةٌ.
منها:
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59].
قال ابنُ كثير: (والظاهرُ واللهُ أعلمُ أنها عامَّةٌ في كلِّ أولي الأمر من الأمراءِ والعلماءِ)([9]).
2- قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الأنبياء:7].
3- قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون}[الزمر:9].
4- قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28].
5- أنَّ أهلَ العلمِ أبصرُ الناسِ بالشرِّ ومداخل الشرِّ.
6- أنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وهم المفَضَّلون بعد الأنبياء على سائر البشر.
7- أنّ الله أراد بهم الخيرَ، في الحديث: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)([10]).
فإذا كانَتَ للعلماءِ هذه المنزلة فلا بُدَّ من التنبيهِ على ملاحظات:
(أ) ليس معنى وجود هذه المنزلة للعلماء ، تقديسَ ذواتهم وأشخاصهم، فنصبحُ كبني إسرائيل (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وإنما أهلُ الحقّ وسطٌ: فقد حفظوا لأهل العلم أقدارهم، وأنهم غيرُ معصومين من الخطأ، وإنما طاعتهم تجب باعتبار أنهم طريقٌ لطاعةِ الله ورسوله، ولذلك ثبت عن أئمتنا أنَّهم صرَّحوا لأتباعهم أنه إذا ظهر أن أقوالهم بخلافِ الشريعة لم تكن لهم طاعة)([11]).
قال أبو حنيفة: (إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي)([12]).
وقال مالك: (إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأصيبُ، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنَّة فخذوه، وإلا فاتركوه)([13]).
وقال الشافعيُ: (ما من أحدٍ إلَّا وقد تذهبُ عليه سُنَّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما قلتُ من قولٍ أو أصَّلتُ من أصلٍ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافُ ما قلتُ، فالقولُ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي)([14]).
وقال أحمد بن حنبل: (رأيُ الأوزاعيِّ ورأيُ مالك، ورأيُ أبي حنيفة كلُّه رأيٌ، وهو عندي سواء، وإنما الحُجَّةُ في الآثار)([15]).
قال ابن القيمِّ: (أقوال المجتهدين لا يجب اتباعها، ولا يُكَفَّر ولا يُفَسَّقُ مَن خالفها، فإنَّ أصحابها لم يقولوا: هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا: اجتهدنا برأينا، فمن شاء قبِلَهُ ومن شاء لم يقبله..)([16]).
(ب) إنَّ الأَخذَ عن العلماء لا يقتصرُ على مجَّردِ العلم ومسائلَ العلم، بل يؤخذ عنهم الهدي الظاهرُ والسمتُ والتطبيق العمليّ، وهذا لا يكون إلا بملازمتهم والجلوسِ إليهم.
وبعد معرفة نظرةِ الناسِ للعلماء وأهمية هذا الموضوع، وبعد أن عرفنا من هُم العلماء الذين نعنيهم، وكيف نعرفُ العلماء من غيرهم وما هي مكانةُ العلماء ومنزلتُهُم، بقي أن نعرف القواعد في التعامل مع العلماء.
قواعدُ في التعامل مع العلماء:
(1) موالاةُ العلماءِ ومحبَّتهُم: فهُم أَولَى الناس بالموالاة وأحقَّهُمُ بالمحبة في الله بعد الأنبياء.
قال شيخ الإسلام: (يجبُ على المسلمين بعد موالاة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلًم، موالاةُ المؤمنين خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ...)([17]).
وليس معنى موالاة العلماء: أن يُجعلَ العالم مناط الموالاة والمعاداة، فينتصرُ الطالبُ لشيخهِ ويتعصبُ لأقواله ويجعلُها هي الحقُّ فيوالي على أساسها، ويعادي مَن عاداها، فإن هذا لا يكون إلَّا لرسول الله.
قال ابنُ تيمية: (من نصَّب شخصاً كائناً مَن كانَ، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرَّقوا دينَهُم وكانوا شيعا)([18]).
(2) احترامُ العلماءِ وتقديرُهم: في الحديث: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)([19]).
قال طاووس بن كيسان: (مِن السُنَّة أن يوقَّر أربعةٌ: العالمُ، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد)([20]).
وهذا ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما مع جلالته: يأخذُ بركاب زيد بن ثابت ويقول: (هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائِنا وكبرائِنا)([21]).
ولمَّا جاء الإمام مسلمٌ إلى الإمام البخاري وقبَّل بين عينيه وقال: (دعني حتى أُقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِهِ)([22]).
(3) الأخذُ عن العلماءِ والسعيُ إليهم:
قال عبدُ الرحمن بنُ مهدي: ( كانَ الرجلُ مِن أهل العلم إذا لقيَ مَنْ هو فوقَه في العلم، فهو يومُ غنيمتهِ سَأَلَهُ وتعلَّم مِنهُ، وإذا لقيَ من هو دونه في العلم علَّمَهُ وتواضع له، وإذا لقيَ مَنْ هو مثله في العلم ذاكره ودارسه)([23]).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (مَن فِقهِ الرجلِ ممشاهُ ومَدْخَلُهُ ومَخْرجُهُ مع أهل العلم)([24]).
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ، تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ)([25]).
قيل لأبي حنيفة رحمه الله: (في مسجد كذا حلقةٌ يتناظرون في الفقه، قال: أَلَهُم رأسٌ ؟ قالوا لا قال: لا يفقهون أبداً)([26]).
(4) رعايةُ مراتب العلماء: فالعلم مراتب، والعلماء درجات، فلا بُدَّ لطالبِ العلمِ أن يرعى للعلماء مراتبهم ومنازلهم.
قال ابنُ عقيل رحمه الله: (ومِن عجيب ما سمعتُه عن هؤلاء الأحداثِ الجُهَّال، أنهم يقولون: أحمدُ ليس بفقيهٍ لكنَّه محدّثٌ، وقال: وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفُه أكثرُهم، وربما زاد على كبارهم)([27]).
قال الذهبيَّ تعليقاً على هذا: (أحَسُبُهم يظنَونه كانَ محدثاً وبس، و والله لقد بلغ في الفقه خاصةً رتبةَ الليث، ومالك والشافعيٌَ .... ولكنَّ الجاهلَ لا يعلمُ رتبةَ نفسِه، فكيف يعرفُ رتبةَ غيره)([28]).
ومِن مراعاة مراتب العلماء: مراعاةُ التخصُّصِ، حيثُ يغلبُ على العالِم فنٌ من فنون العلم فيكون فيه من الاعتبار ما ليس لقول غيره.
قال الشافعيُ رحمه الله للإمام أحمد: (أنتمُ أعلمُ بالحديث منىِّ، فإذا صحَّ عندكم الحديثُ فقولوا لنا حتى آخذَ به)([29]).
ومن مراعاة مراتب العلماء: مراعاةُ السنِّ، فكلَّما امتد الزمان بالعالم ازداد علماً وتجارب.
ومن مراعاة مراتب العلماء: رعايةُ مرتبةِ الإمام العالم الذي دان له أهل زمانه أو بلده بالعلم، وصار مرجعاً ومفتياً للناس.
وليس من رعاية مراتب العلماء: الأخذُ عن بعض طلبة العلم الصغار ما يتعارض مع ما يراهُ العلماء الكبار.
وليس من رعاية مراتب العلماء: حفظُ حقوق بعض صغار أهل العلم ما لا يحفظ لغيرهم من الكبار.
(5) الحذرُ من القدح في العلماء: فإن الطعن في العلماء من سمات أهل البدع والضلال؛ لأنه طعنٌ في الدين والدعوةِ التي يحملونها، وهذا مرادُ الطاعنين في سلف الأمَّة وعلمائها التابعين لهم بإحسان.
قال أبو زرعة: (إذا رأيت الرجلَ ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق)([30]).
قال الإمام أحمد: (إذا رأيتَ الرجلَ يغمزُ حمَّادَ بن سلمةَ فاتهمه على الإسلام، فإنه كانَ شديداً على المبتدَعة)([31]).
قال عبد الله بن المبارك: (حقٌ على العاقل أن لا يستخفَّ بثلاثة: العلماء، والسلاطين، والإخوان، فإنه مَن استخفَّ بالعلماءِ ذهبت آخرتهُ، ومَن استخفَّ بالسلطان ذهبت دنياهُ، ومَن استخفَّ بالإخوان ذهبت مرؤتُه)([32]).
فاحذر يا أخي من الاستهزاء بالعلماء والطعنِ فيهم، احذر من غيبتهم، فإن غيبتهم أعظم من غيبة غيرهم.
قال ابن عساكر رحمه الله: (واعلم يا أخي أنَّ لحومَ العلماء مسمومة، وعادة اللهِ في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعةَّ فيهم بما هم منه براءٌ أمُرهُ عظيمٌ، والتناولَ لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيمٌ)([33]).
(6) الحذرُ من تخطئةِ العلماء: والعلماء بشرٌ يُخطئون.
ولكنَّ اتهامَهُم بالخطأ فيه مزلقان:
1- أن يكون اتهامُهم بالخطأ غير صحيح بسبب العَجَلَة في الاتهام، أو بسبب الجهل بحالهم.
2- أن يحكُم على العالمِ بالخطأِ غيرُ العالمِ، فيبني الشخصُ تخطئتَهُ للعالم على جهل.
فلا يُخطِّئُ العلماءَ إلا العلماءُ أمثالُهم، بل قد يشتبه الأمر على بعض العلماء فيخطىءُ عالماً آخر في مسألة وهو غيرُ مخطئ فيها.
(7) التماسُ العذر للعلماء: لابد من إحسان الظن بالعلماء، والتماس العذر لهم.
قال عمر بن الخطاب: (لا تظن بكلمة خَرَجَت مِن أخيك المسلم سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً)([34]).
وقال محمد بن سيرين: (إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد، فقُل: لعلَّ له عُذراً)([35]).
قال السبكيُّ رحمه الله: (فإذا كانَ الرجلُ ثقةً مشهوداً له بالإيمان والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمَل كلامُه على غير ما تُعِّودَ منه، بل ينبغي التأويل وحُسنُ الظنِّ الواجب به وبأمثاله)([36]).
(8) الرجوعُ إلى العلماء والصدوُر عن رأيهم، خصوصاً في الفتن:
عند الفتن تشتبه الأمور، ويكثرُ الخلطُ وتزيغ الأفهامُ والعقول، فالواجب على الناس حينئذٍ الأخذُ برأي العلماء والصدوُر عن قولهم، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83].
(9) ليس أحدٌ إلَّا وتُكلِّمَ فيه، فتثبِّتْ: لا يبُرز أحدٌ من هذه الأمَّة إلا ويتُكلَّم فيه، فطائفة تعظمه وتصوِّبه، وطائفة تُحقِّرُهُ وتخطِّئُه.
قال الذهبيُ في السُّير: (ما من إمامٍ كاملٍ في الخير إلَّا وثمَّ أناسٌ من جهلةِ المسلمين ومبتدعيهم يذمُّونه، وما مِن رأسٍ في التجهُّم والرَّفضِ إلا وله أناسٌ ينتصرون له ويذبُّون عنه)([37]).
إنَّ رضى الناس غايةٌ لا تدرك، ولا يسلم شخصٌ من الطعن والذم، فلابد من التثبُّت.
قال الشافعيُ رحمه الله: (ليس إلى السلامةِ من الناس سبيلٌ، فانظر الذى فيه صلاُحك فالزمه)([38])، فإن التثبت دليلُ تقوى الرجل وخوفه من الله.
(10) العلماءُ غيرُ معصومين من الخطأ، وأخطاؤهم قليلة بالنسبة لكثرة فضائلهم: فالعلماء في هذه الأمةِ هم خيارُها.
قال ابنُ تيمية: (كلُّ أمَّةٍ قبل مبعثِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءَهم خيارُهم، فإنَّهم خلفاءُ الرسول في أمته، والمحُُيُونَ لما مات من سنَّتهِ)([39]).
فإذا كانوا كذلك فإنه يجبُ أن يُغتفَرَ قليلُ خطئهم في كثير صوابهم.
قال سعيد بن المسيِّب: (ليس مِن عالمٍ ولا شريفٍ ولا ذي فضلٍ إلَّا وفيه عيبٌ، ولكن مَن كانَ فضلُه أكثر من نقصهِ، ذهَب نقصُه لفضله)([40]).
قال الذهبيُّ رحمه الله: (ونحبُّ السنَّة وأهلَهَا، ونحبُّ العالِم على ما فيه من الاتِّباع والصفات الحميدة، ولا نحبُّ ما ابتَدَع فيه بتأويلٍ سائغٍ، وإنما العبرةُ بكثرة المحاسن)([41]).
(11) الحذرُ من زلَّاتِ العلماءِ: العلماُء غيُر معصومين من الخطأ والزلَّات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)([42]).
قال شيخ الإسلام: (فأما الصديقون والشهداءُ والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحقَّقة، وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجرٌ على اجتهادهم، وخطؤهم مغفورٌ لهم)([43]).
فما هو الموقف من زلَّةِ العالِم ؟
أولاً: عدمُ الاعتماد على تلك الزلَّةِ، وعدمُ الأخذِ بها، لأنها جاءت على خلاف الشريعة.
قال الشاطبيُّ: (إنَّ زلَّةَ العالِم لا يصُحُّ اعتمادُها من جهةٍ، ولا الأخذُ بها تقليداً له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفةِ للشرع؛ ولذلك عُدَّت زلّةٌ، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة، ولا نُسبَ إلى صاحبها الزللُ فيها)([44]).
قال الأوزاعيُ رحمه الله: (مَن أَخَذَ بنوادرِ العلماءِ خَرَجَ مِن الإسلامِ)([45]).
ثانياً: العدلُ في الحكم على صاحبها: فلا ينسب إلى التقصير، ولا يشنَّعُ عليه من أجلها، ولا تُرَدُّ بقيَّةُ أقوالِه وآرائِهِ بسببها.
قال ابنُ القيم رحمه الله: (إنَّ الرجلَ الجليلَ الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثارٌ حسنهٌ، قد تكونُ منه الهفوةٌ والزلَّةُ هو فيها معذورٌ، بل ومأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوزُ أن يُتَّبعَ فيها، ولا يجوزُ أن تُهدَرَ مكانتُهُ ومنزلتُهُ في قلوب المسلمين)([46])، وإذا كانت زلَّةُ العالم هذه غيرَ ذاتِ أثرٍ على الناس، فالواجبُ ستُرها لَعَلَّهُ يرجعُ عنها.
(12) كلامُ الأقرانِ في بعضٍ يُطوَى ولا يُرْوى: أقوال العلماء بعضهِم في بعضٍ قد يحصل فيه نوعُ هوىً وعصبيةٍ.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: (استمعوا علم العلماء، ولا تصدِّقوا بعضَهُم على بعض)([47]).
قال الذهبيُّ: (كلامُ الأقران إذا تَبَرهَنَ أنَّه بهوى وعصبيةٍ، لا يُلتفتُ إليه، بل يطوى ولا يُروى)([48]).
وقال أيضاً: (وكلامُ الأقران بعضُهم في بعضٍ لا يُعبأُ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسدٍ، وما ينجو منه إلا مَن عصمه الله)([49]).
أما أسبابُ كلامِ العلماءِ بعضُهم في بعضٍ فمنها:
1- وجود منافسة في البلد أو التخصُّص العلمي. 2- الغضب الشديد.
3- الاختلاف المذهبي. 4- وجود الإِحَنِ والمخاصمات.
أما ثناءُ العلماء على بعضهم البعض فكثيرٌ، ممَّا يدُّل أنهم كانوا أهل عدلٍ وإنصاف ولو اختلفوا في بعض المسائل.
(13) العدلُ في الحكم على العلماء المجتهدين:
قواعد منها:
1- المجتهدُ مأجورٌ غيرُ مأزور: في الحديث: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)([50]).
قال ابنُ تيمية: (مذهب أهل السُّنةِ أنه لا إثم على مَن اجتهد، وإن أخطأ)([51]).
2- إن الاختلاف بين العلماء أمرٌ مقدورٌ لا يمكن تجاوزه:
قال ابنُ تيمية: (وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرةَ مشاورةٍ ومناصحةٍ، وربما اختلف قولُهُم في المسألة العلمية و العملية مع بقاء الأُلفةِ والعِصمةِ وأخوَّة الدين، نعم مَن خالف الكتابَ المستبين، والسَّنة المستفيضةَ أو ما أجمع عليه سلفُ الأمَّة خلافاً، لا يُعذَرُ فيه، فهذا يعاملُ به أهلُ البدع)([52]).
3- إنَّ اختلافَ المجتهدين في الأحكام له أسبابٌ معتبرةٌ، ولم يكن تعمُّداً أو لهوىً أو غيرِ ذلك.
4- أن الأصل الذي يُردُّ إليه الخلافُ ويُعرفُ به الحقُّ من الباطل هو الكتابُ والسنّة وإجماع السلف الصالح: وينبني على هذا الأصل أنَّه لا يُقبلُ اجتهادٌ فيما ثبت بدليلٍ قطعي الدلالة والثبوت.
5- أن العصمةَ لا تكونُ لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلَّم: وقولُ الإمامِ مالكِ مشهورٌ في ذلك، رواه الذهبي في السِّير([53]).
(14) تركُ المبادرةِ إلي الاعتراضِ على العلماء: على طالب العلم أن يتَّهمَ رأيهُ عند رأي الأَجِلَّةِ مِن أهل العلم، ولا يبادر بالاعتراض قبل التوثُّق.
قال ابن ُحجر في شرحه لأحاديث صلح الحديبية واعتراضِ بعض الصحابة على بنود الصلح: (التابعُ لا يليق به الاعتراضُ على المتبوع بمجرَّد ما يظهرُ في الحال، بل عليه التسليمُ؛ لأن المتبوع أعرفُ بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة)([54]).
ويعظمُ خطرُ الاعتراض على العلماء إذا كانَ المعترضُ يقصِدُ الوضعَ منهم وانتقاصهم، والمقصودُ بترك الاعتراض على العلماء في موضوع الاحتمال والاجتهاد، أو بدون تثُّبتٍ وتبيُّن.
(15) وضعُ الثقةِ في العلماء:
قد يترك العلماءُ بعضَ الأعمال بسبب نظرهم في مآلاتِ الأمور وعواقبِها، ومراعاة المصالح والمفاسد، وهل ترك رسول الله قتلَ عبد الله بن أُبيِّ بن أبي سلول إلا مراعاةً للمفاسد؟، وهل امتنع رسول الله عن بناء البيت على قواعد إبراهيم إلا خشية أن يكون فعلَه ذلك فتنةً لقومه الذين أسلموا حديثاً، فلابد من وضع الثقةِ في العلماء، ولنعلم أنهم لن يمتنعوا عن فعل خيرٍ إلَّا رجاء خيرٍ أعظم أو خشيةً من وقوعِ شرٍّ أعظم.
([1]) مسند أحمد برقم (21715)، وهو عند الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6292).
([2]) مفتاح دار السعادة (1/140).
([3]) صفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان (ص: 8).
([4]) ذكره ابنُ فرحون في الديباج (21).
([5]) المعجم الأوسط للطبراني برقم (3277)، وأخرجه الحاكم وصححه، وذكره الألباني في الضعيفة برقم (3712).
([6]) إتحاف الجماعة (1/418).
([7]) السِّيَر (7/153).
([8]) الأدب المفرد للبخاري برقم (789)، وقال الألبانيُّ: (موقوفٌ صحيح الإسناد) وصححه ابنُ حجر في الفتح.
([9]) تفسير ابن كثير (1/518).
([10]) متفق عليه: رواه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).
([11]) الشاطبيُّ في الاعتصام (2/862).
([12]) ابن عابدين في الحاشية (6/293).
([13]) ابن عبد البر (2/32).
([14]) أعلام الموقعين (2/363).
([15]) ابن عبد البر (2/149).
([16]) الروح (صـ276).
([17]) رفع الملام (صـ11)
([18]) الفتاوى (20/8).
([19]) سنن الترمذي برقم (1919)، ومسند أحمد، وله شواهد.
([20]) البغويُّ في شرح السُنَّة (13/43).
([21]) الحاكم، وابن عبد البر (1/228).
([22]) ذكره ابنُ كثير في البداية والنهاية (11/340).
([23]) رواه الرامهرمزي في المحدِّث الفاصل (صـ206).
([24]) ابنُ عبد البر في الجامع (1/127).
([25]) متفق عليه: رواه البخاري برقم (5002)، ومسلم برقم (2463).
([26]) ابن عبد البر(1/139).
([27]) ذكره الذهبيٌّ في السير(11/321).
([28]) المصدر السابق.
([29]) إعلام الموقعين (2/325).
([30]) ابنُ حجر في الاصابة (1/10).
([31]) الذهبيُّ في السير (7/450).
([32]) الذهبيُّ في السير(17/251).
([33]) تبيين كذب المفتري (صـ 28).
([34]) تفسير ابن كثير (4/213).
([35]) الأصبهاني (صـ97).
([36]) قاعدة الجرح والتعديل للسبكي (صـ93).
([37])الذهبيُ في السُّير: (14/344).
([38]) البيهقي في آداب الشافعي (صـ278 –279)، والذهبيُّ في السير(10/42) (10/89).
([39]) رفع الملام (صـ11- 12).
([40]) ابنُ عبد البرِّ في الجامع (2/48).
([41]) (السير (20/46).
([42]) سنن ابن ماجه برقم (4251)، والحاكم وصححه، وحسَّنه الألباني في المشكاة برقم (2341).
([43]) الفتاوى ( 35/69).
([44]) الموافقات (4/170).
([45]) الذهبيُّ في السير( 7/125).
([46]) إعلامُ الموقعين (3/295).
([47]) ابنُ عبد البر في الجامع (2/151).
([48]) السِّيَر (10/92-94).
([49]) ميزان الاعتدال (1/111).
([50]) متفق عليه: رواه البخاري برقم (7352) ومسلم برقم (1716).
([51]) الفتاوى (19/123).
([52]) الفتاوى (24/172).
([53]) السِّير (8/93).
([54]) الفتح (5/352).