تفسير آية الكرسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛
فبين يديك أيها القارئ الكريم، مادة علمية، أصلها محاضرة ألقيتها عبر أثير إذاعتي مركز رياض الصالحين الإسلامي بدبي، وشبكة بينونة للعلوم الشرعية بأبوظبي بارك الله في القائمين والمنظمين وأجزل لهم المثوبة.
أحبتي في الله؛ آية الكرسي آية عظيمة من آي القرآن الكريم، ولنا معها وقفات تدبرية نافعة إن شاء الله، وهذه الآية هي آية الكرسي، يقول الله عز وجل فيها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﵟٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ ٢٥٥ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵕﵒﵜ.
هذه الآية الكريمة أحبتي في الله أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، ففي صحيح الإمام مسلم عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ سأله: (أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ"؟) قال: الله ورسولُه أعلم. فردّدها مرارًا ثم قال أُبيّ: آية الكرسي. قال ﷺ: (لِيَهْنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ) ([1]).
وقد كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردًا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وفي أدبار الصلوات المكتوبات، ومما ثبت في كونها حفظ وحرز من الشيطان ما رواه الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وَكَّلَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَام، فَأخَذْتُهُ فقُلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: دَعْنِي إنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَليَّ عِيَالٌ، وَبِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأصْبَحْتُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا هُريرة، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رسول الله، شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا، فَرحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فَقَالَ: «أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَعَرَفْتُ أنَّهُ سَيَعُودُ، لقولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَصَدْتُهُ، فَجاء يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَقُلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: دَعْنِي فَإنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ لاَ أعُودُ، فَرحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فَأصْبَحْتُ فَقَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا هُريرة، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رسول الله، شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا، فَرحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فَقَالَ: «إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَرَصَدْتُهُ الثَّالثَة، فَجاء يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا آخِرُ ثلاثِ مَرَّاتٍ أنَّكَ تَزْعُمُ أنَّكَ لاَ تَعُودُ ثم تعود! فَقَالَ: دَعْنِي فَإنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، فَإنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ الله حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأصْبَحْتُ، فَقَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رسول الله، زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ؟» قُلْتُ: قَالَ لي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَة الكُرْسِيِّ مِنْ أوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآية، وقال لِي: لاَ يَزَالُ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَنْ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ-وكانوا أحرص شيء على الخير-، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «أمَا إنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قُلْتُ: لاَ. قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ»([2]). إذن فهذه الآية العظيمة سيدة آي القرآن لها هذا الفضل العظيم أنها حرز من الشيطان.
وهذه الآية العظيمة مشتملة على عشر جمل، كل جملة لها معنى عظيم، بيانها في الآتي:
يقول الله عز وجل في أولها: ﵟٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﵞ
هذه الجملة الأولى: ﵟٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﵞ والاسم الكريم هنا الله مبتدأ وجملة لا إلا هو خبر وما بعده إما أخبار ثانية وإما معطوفة، وإله بمعنى مألوه، والمألوه بمعنى المعبود حبا وتعظيما، الإله بمعنى المألوه والمألوه بمعنى المعبود حبا وتعظيما، ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى، والآلهة المعبودة في الأرض أو المعبودة وهي في السماء كالملائكة كلها لا تستحق العبادة وإن كانت تسمى آلهة لكنها لا تستحق ذلك بل الذي يستحق العبادة هو رب العالمين، كما قال تعالى في آية أخرى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵒﵜ ، وقال سبحانه ﵟذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ ﵞ ﵝالحَج : ﵒﵖﵜ ﵟٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﵞ
و {إله} اسمُ {لا} النافية للجنس؛ وهي تدل على النفي المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم، وقوله تعالى: {إلا هو} بدل من خبر {لا} المحذوف؛ لأن التقدير: لا إله حق إلا هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود بالحكم، فيكون المعنى من الجملة العظيمة هذه نفي الألوهية الحق نفيًا عامًا قاطعًا وإثباتها لله تعالى وحده.
والمعنى إذن: لا معبود بحقٍ سواه، فهو الإلهُ الحقُّ الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتألُّه له سبحانه وتعالى، وهذه الألوهية التي استحقها الله عزّ وجلّ لكماله وكمال صفاته وعظيم نِعمه، ولكون العبد مستحقًا أن يكون عبدًا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبًا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، لهذا قال سبحانه: ﵟذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ ﵞ ﵝالحَج : ﵒﵖﵜ ، والله هو الإله الحق؛ فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقًا ناقصًا فقيرًا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئًا من أنواع العبادة.
قوله تعالى: ﵟٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ ﵞ
هذه الجملة الثانية، والحي القيوم اسمان من أسمائه سبحانه وتعالى، وهذان الاسمان جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في قوله:ﵟ ٱلۡحَيُّ ﵞ وكمال الأفعال في قوله: ﵟٱلۡقَيُّومُۚ ﵞ لأن معنى الحي ذو الحياة الكاملة ويدل على ذلك (ال) المفيدة للاستغراق، وكمال حياته سبحانه وتعالى من حيث الوجود والعدم ومن حيث الكمال والنقص، فحياته من حيث الوجود والعدم أزلية أبدية، لم يزل ولا يزال حيًا سبحانه وتعالى ومن حيث الكمال والنقص كاملة من جميع أوصاف الكمال، فعلمه كامل وقدرته كاملة وسمعه وبصره وسائر صفاته كاملة.
ﵟٱلۡقَيُّومُۚ ﵞ أصلها من القيام؛ ووزن «قيوم» فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه، فالاسمان هذان يدلان على سائر الأسماء الحسنى، دلالةَ مطابقةٍ وتضمنًا ولزومًا، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بشئون وحاجة غيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخَلق والرَّزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن {لا تأخذه سنة ولا نوم}.
وهذه الجملة الثالثة قال سبحانه: ﵟ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ ﵞ النوم معروف، والنعاس مقدمة النوم، والمعنى من قوله تعالى: ﵟ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ ﵞ أي: لا يعتريه نعاس ولا نوم إذن هذا من تمام حياته وقيوميته سبحانه وتعالى.
ثم قال عز وجل: ﵟ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ ﵞ
وهذه الجملة الرابعة أي: له وحده ما في السماوات وما في الأرض، ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ، ما في السموات وما في الأرض له سبحانه، فالله عز وجل قال: ﵟلَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ ﵞ والسموات جمعت والأرض أفردت لكنها بمعنى الجمع لأن المراد بها الجنس، فالله هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبَّر، لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فلهذا قال: ﵟمَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ ﵞ .
وهذه الجملة الخامسة، فقول الله عز وجل: ﵟمَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ ﵞ دليل على أنه سبحانه وتعالى له ما في السموات وما في الأرض حتى الشفاعة لا تتم إلا بإذنه سبحانه وتعالى، (من) اسم استفهام مبتدأ، و(ذا) ملغاة إعرابًا، ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين اللفظ، والذي اسم موصول خبر (من) والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده حيث قال سبحانه وتعالى: ﵟ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ ﵞ.
والشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعا، وفي الاصطلاح المقصود بالشفاعة: التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعد ما يلحقهم من الهم والغم ما لا يطيقون: شفاعة لدفع مضرة. وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة شفاعة في جلب منفعة، هذان مثالان على معنى الشفاعة التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، وقوله تعالى:ﵟ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ ﵞ أي إذنه الكوني يعني إلا إذا أذن في هذه الشفاعة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جاهًا عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه جل وعلا وهيبته،.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﵟ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ ﵞ وهذه الجملة السادسة، فالله عز وجل يعلم الأشياء علمًا تامًا شاملًا لها جملة، وتفصيلًا؛ وعلمه هذا ليس كعلم العباد، ولذلك قال تعالى: ﵟ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ ﵞ أي: المستقبل ﵟ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ ﵞ أي: الماضي، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم الله تعالى، ولهذا قال: ﵟ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ ﵞ.
وقوله سبحانه: ﵟ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ ﵞ
هذه الجملة السابعة، ولها معنيان: ﵟ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ ﵞ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه أي: لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما شاء أن يعلمهم إياه فيعلمونه.
المعنى الثاني الذي دلت عليه: ولا يحيطون بشيء من معلومه أي مما يعلمه في السماوات والأرض إلا بما شاء أن يعلمهم إياه فيعلمونه.
ثم قال عز وجل: ﵟ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ ﵞ هذه الجملة الثامنة: ﵟ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ ﵞ أي: شمل وأحاط كما يقول القائل وسعني المكان أي: شملني وأحاط بي، والكرسي هو موضع قدمي الله عز وجل، وهو بين يدي العرش كالمقدمة له، كما صح ذلك عن ابن عباس موقوفا قال: (والكرسي موضع القدمين)، ومثل هذا له حكم الرفع لأنه لا مجال للاجتهاد فيه، فمن أين يأتي ابن عباس رضي الله عنه هذا العلم، فدل على أنه له حكم الرفع، فأهل السنة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل، وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم وأئمة التحقيق، وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»([3]) ، وهذا يدل على سعة وعظمة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب الذي يجب علينا أن نؤمن به: قال عليه الصلاة والسلام: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي-هذا الذي هو موضع القدمين- إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» يعني انظروا أحبتي في الله كم سيكون حجم هذه الحلقة بالنسبة لهذه الفلاة من الأرض، الأرض الواسعة مد البصر يعني ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض يعني ما أعظم هذا الكرسي الذي هو موضع القدمين بالنسبة للسموات السبع والأرضين، وإن فضل العرش العرش الذي هو أعظم من هذا الكرسي، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة، فكم هو حجم هذه الحلقة بالنسبة للفلاة فكذلك الفرق والعظمة بين العرش والكرسي، فما أعظم الله عز وجل بعظم هذه المخلوقات التي يجب علينا أن نؤمن بها.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﵟ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ ﵞ وهذه الجملة التاسعة قال تعالى: وَلَا يَـُٔودُهُۥ ﵞ أي: لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السماوات والأرض، ثم قال سبحانه وتعالى: ﵟ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ ٢٥٥ﵞ هذه الجملة العاشرة: ﵟ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ ٢٥٥ﵞ مثل هذه الجملة التي طرفها معرفتان تفيد الحصر العلي العظيم، فهو وحده العلي أي: ذو العلو المطلق وهو الارتفاع فوق كل شيء، والعظيم أي: ذو العظمة في ذاته وسلطانه وصفاته، فالله العلي بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته، والعظيم الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة، والقهر والغلبة لكل شيء.
إذًا -أحبتي في الله- هذه الآية العظيمة آية الكرسي بمعانيها العظيمة والجليلة، قد اشتملت على الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى إحاطة ملك الله عز وجل وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التالين لهذه الآية المستحضرين لمعانيها، والمحافظين عليها في مواضعها دبر الصلوات وفي أذكار الصباح والمساء وعند النوم، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.