تفسير سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
فبين يديك أيها القارئ الكريم، مادة علمية، أصلها محاضرة ألقيتها مساء السبت في 15 من محرم لعام 1444ه الموافق 13 من أغسطس لعام 2022م عبر أثير إذاعتي مركز رياض الصالحين الإسلامي بدبي، وشبكة بينونة للعلوم الشرعية بأبوظبي بارك الله في القائمين والمنظمين وأجزل لهم المثوبة.
أخي القارئ، أختي القارئة!
وقفتنا مع سورة الفاتحة، فاتحة الكتاب، وكما جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: يُقال لَهَا الْفَاتِحَةُ أَيْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ؛ لأَنها أعظمُ سُورِ القرآن، ولِأَنَّهَا تُفْتَتَحُ بِهَا الْقِرَاءَةُ في الصَّلاة، وَافْتَتَحَتِ الصَّحَابَةُ بِهَا كِتَابَةَ الْمُصْحَفِ، وَيُقَالُ لَهَا (الْحَمْدُ) وَيُقَالُ لَهَا (الصَّلَاةُ) لقوله ﷺ عَنْ رَبِّهِ: (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي..، الْحَدِيثَ). فَسُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ صَلَاةً لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا وَيُقَالُ لَهَا (الشِّفَاءُ) و(الرُّقْيَةُ) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحِ حِينَ رَقَى بِهَا الرَّجُلَ السَّلِيمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟).
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ أي نزلت في مكّة، وَقِيلَ إنها مَدَنِيَّةٌ، وَيُقَالُ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ، ورجح ابن كثير أنها مكية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى في سورة الحِجر: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي﴾ [الحجر:87] وسورة الحِجر مكيّة. قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "المشهور أنها مكية وسماها الله سبعًا من المثاني والقرآن العظيم كما جاء في الحديث الصحيح أنها الفاتحة، ولا مانع من كون نزولها مرة أخرى في المدينة من باب التأكيد وتعظيم شأنها فتكون نزلت بمكة والمدينة مرتين".
وقد ورد في فضلها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلَّى: (لأُعلمنّك أَعظَمَ سُورةٍ في القرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ)، والحديث عن البخاري وغيره.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ له: «أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ».
وعند البخاري فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ – أي: لديغ - وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرَأ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا. فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كنت ترقي؟
فقال: لَا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ. قُلْنَا: لَا تُحَدِّثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: (وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ).
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخدري هُوَ الَّذِي رَقَى ذَلِكَ السَّلِيمَ - يَعْنِي اللَّدِيغَ، يسمونه بذلك تفاؤلا -.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بأُمَّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ -ثَلَاثًا- غَيْرُ تَمَامٍ. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعبد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الله: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.
ووقفة يسيرة مع هذا الحديث، وكون الفاتحة من السّبع المثاني كما جاء في الحديث، قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله:
"من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي الآية التي قال الله فيها: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"؛ لأن {الحمد لله رب العالمين}: واحدة؛ {الرحمن الرحيم}: الثانية؛ {مالك يوم الدين}: الثالثة؛ وكلها حق لله عزّ وجلّ {إياك نعبد وإياك نستعين}: الرابعة. يعني الوسَط؛ وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ {اهدنا الصراط المستقيم} للعبد؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} للعبد؛ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} للعبد.
فتكون ثلاث آيات لله عزّ وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد. وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربِّه. وهي الرابعة الوسطى".
إذن، ما مر معنا من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدلنا على فضل سورة الفاتحة العظيم، وأنها أعظم سورة في كتاب الله.
قال الإمام بان باز رحمه الله: "ومن تأملها وجد ذلك فإن فيها الثناء على الله وبيان صفاته العظيمة التي ترجع إليها جميع الصفات وبيان حقه على عباده وهو العبادة وإلى هذا ترجع جميع الآيات فإنها ترجع إلى الأوامر والنواهي وبيان حق الله وكله داخل في ﴿إِيَّاكَ نَعبد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] ثم إرشاده سبحانه لعباده أن يطلبوه الهداية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] وهذا أيضاً شأنه عظيم؛ لأن طلبهم الهداية من ربهم عز وجل سبب لقيامهم بحقه الذي خلقهم من أجله وهو عبادته سبحانه وتعالى، فهذه السورة هي أم القرآن وهي القرآن العظيم، وهي السبع المثاني وهي الشفاء والرقية فينبغي للمؤمن أن يتدبرها كثيرًا ومن رحمة الله أن شرعها لنا في اليوم والليلة سبعة عشرة مرة فرضًا في الفرائض الخمس مع ما يحصل من قراءتها في النوافل وفي غير ذلك، تذكيرًا لمعناها العظيم، وهكذا الالتزام بما دلت عليه من أن العبادة لله والاستعانة بالله وطلبه الهداية مع الثناء عليه والإيمان بأنه الرحمن الرحيم، وبأنه الإله الحق، وبأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، فاجتمع فيها كل شيء".
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
اختلف المفسرون في البسملة، هل هي آية مستقلةٌ من أولّها أو هي من الفاتحة. ولعل الصواب أنها آية مستقلة، أنزلها الله فصلاً بين السور وليست من الفاتحة، وأن أول الفاتحة قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صلَّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر؛ فكانوا لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة، ولا في آخرها": والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها.
{بِسْمِ اللَّهِ} أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ {اسم} مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء [الحسنى]. {اللَّهِ} هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة.
فالرحمن والرحيم؛ اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنِّعم كلها، أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم [به] كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء.
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها الكتاب والسنّة من إثبات الرحمة لله. وهو كثير جداً؛ وأما دليل العقل، فإن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عزّ وجلّ، فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عزّ وجلّ؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها. كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك. يدل على رحمة الله.
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [هو] الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه.
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب، هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم. قال العلماء: كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَمٌ على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورَزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
ومن فوائد الآية:
1- إثبات الحمد الكامل لله عزّ وجلّ، وذلك من "أل" في قوله تعالى: {الحمد}؛ دالة على الاستغراق.
2- أن الله تعالى مستحِقٌ مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه ما يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: "الحمد لله على كل حال".
3- ومن فوائد الآية عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى: (العالمين..).
قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾:
المالك: هو من اتصف بصفة المُلك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، - وهو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها وشرها - لأن في ذلك اليوم، يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق. حتى إنه يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وفي قوله تعالى: {مالك} قراءة سبعية: {مَلِك}، و "المَلِك" أخص من "المالك". وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن ملكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكاً، ولا يكون ملكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عزّ وجلّ مالكٌ ملِك.
من فوائد الآية:
1- إثبات ملك الله عزّ وجلّ، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك.
2- ومن فوائد الآية: إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى: (مالك يوم الدين).
3- ومنها: حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون.
قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:
{إياك}: مفعول به مقدم؛ وعامله: {نعبد}؛ وتقديم المعمول (إياك) على عامله (نعبد) لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك، أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، فتقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
و{نعبد} أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم – جباههم - في موطئ الأقدام حال السجود ذلاً لله عزّ وجلّ: يسجدون على التراب؛ تمتلئ جبهتهم من التراب. كل هذا ذلاً لله.
و{العبادة} اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و {الاستعانة} هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
وقدم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر {الاستعانة} بعد {العبادة} مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.
من فوائد الآية:
1- إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {إياك نعبد}؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول على العامل الذي يفيد الحصر، أي: لا نعبد إلا إياك.
2- ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {وإياك نستعين}، حيث قدم المفعول هنا أيضًا.
قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾:
ثم قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وقد حُذف حرف الجر من {اهدنا}؛ لأجل أن تتضمن طلب الهداية بنوعيها: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأُولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس} [البقرة: 185]؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين} [البقرة: 2] وهذه قد يُحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]: {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.
فالمراد بـ "الهداية" هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، أي: دُلَّنا وأرشدنا، ووفّقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح المُوصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعملَ به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملاً. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك.
وقوله تعالى: {الصراط} فيه قراءتان: بالسين: {السراط}، وبالصاد الخالصة: {الصراط}.
من فوائد الآية:
1- لجوء الإنسان إلى الله عزّ وجلّ بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إياك نعبد}؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وإياك نستعين}؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}؛ لأن {الصراط المستقيم} هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]؛ وما كان مخالفاً له فهو معوج.
قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾:
قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} عطف بيان لقوله تعالى: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. فهذا الصراط المستقيم هو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء: 69). {غَيْرِ} صراط {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط {الضَّالِّينَ} الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
من فوائد الآيتين:
1- من فوائد الآيتين: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}: وهذا مجمل؛ (صراط الذين أنعمت عليهم): وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.
2- ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله.
3- ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون. وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم. وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق. وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة. أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً. كلهم مغضوب عليهم.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: {اللَّهِ} ومن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ {الْحَمْدُ} كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر، وأن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأخيرًا أقول ما قاله الإمام ابن عثيمين رحمه الله: "وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ولا يمكن لا لي، ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة؛ لكن هذا قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مراجع المادة:
تفسير القرآن العظيم لابن كثير، فتح القدير للشوكاني، شروحات الإمامين: ابن باز وابن عثيمين، رحم الله الجميع.