شرح خواتيم سورة البقرة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛

 أحبتي في الله حديثنا الليلة حول تفسير آيات عظيمة من آيات القرآن الكريم، ألا وهي خواتيم سورة البقرة والتي يقول الله عز وجل فيها: ﵟلِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٢٨٤ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٨٦ ﵝالبَقَرَةِ : ﵔﵘﵒ - ﵖﵘﵒﵜ، يقول الله عز وجل في أول هذه الآيات: ﵟلِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ ﵞ والمعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك لله؛ لأنه سبحانه وتعالى الموجد لها والمخترع لا رب غيره، وقوله تعالى:ﵟوَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖﵞ هنا المعنى أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم بل يعلمه ويحاسب عليه سبحانه وتعالى، وقوله: أي ما تقرر في النفس واعتقدته واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على التجوز، وفي الحقيقة هنا اختلف المفسرون في الآية، ففسرت بأنها نزلت في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، وأن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب، وفسرت بأعم من ذلك وأنها نزلت فيما يجول في النفوس والخواطر حتى إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم: أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚﵞ ([1]) ، فكشف الله عز وجل عنهم الكربة، ونسخ الله بهذه الآية تلك، وقد جاء عن ابن عباس نحو هذا التفسير وأن الآية التالية نسختها، فنسخت الوسوسة يعني ما يجول في الخواطر وثبت أن المؤاخذة بالقول والفعل فقط، والذي يظهر كما قال ابن جرير الطبري رحمه الله وغيره أن الآية محكمة غير منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه ما يشبه هذا المعنى، قال المفسر ابن عطية رحمه الله([2]): وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: "وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ" معناه: مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه "لا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" ،-كما في الآية التي ستأتي-.

 والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.  

وقوله تعالى: ﵟفَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗﵞ يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد، فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ممن ينزع عنه ويترك هذه الأمور الوساوس والمعاصي على عمومها، ويعذب من يشاء ممن يصر عليها ويقيم عليها، وعن سفيان الثوري قال: يغفر لمن يشاء الشيء العظيم، ويعذب من يشاء على الصغير، يغفر لمن يشاء أي الشيء العظيم، ويعذب من يشاء على الصغير، وهذا من باب أن الإنسان قد يستصغر الصغيرة، فيؤاخذه الله عز وجل عليها، والعكس يستعظم ويهول الأمر العظيم الذي يقع فيه حتى يؤدي ذلك إلى الندم، فيغفره الله عز وجل له ذلك، هذا معنى قول سفيان: يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير، ولما ذكر سبحانه وتعالى المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، فقال سبحانه: ﵟوَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌﵞ إذ ما ذكر في الآية من قدرته سبحانه وتعالى وإحاطته بما في السرائر جزء من هذه القدرة الشاملة لله عز وجل.

 من فوائد الآية:

 إثبات أن العبد يحاسب على ما في نفسه وظاهره العموم لقوله تعالى: ﵟوَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ ﵞ ولكن جاءت النصوص الأخرى بالتفصيل في ذلك على النحو التالي كما ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله([3]):

الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر؛ بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيماناً ويقيناً حاول أن يفسد ذلك عليه؛ ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذاك صريح الإيمان»([4]) ؛ وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»([5]) ، هذا إذا كان ما يطرأ على النفس مجرد وساوس لا قرار لها،أما إذا كانت مما يهمّ بالشيء المحرم أو يعزم عليه ثم يتركه هذا أنواع:

النوع الأول: أن يتركه لله؛ فيثاب على ذلك، كما جاءت به السنة فيمن همّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى: «لأنه تركها من جرّائي»([6]) ، أي من أجلي.

النوع الثاني: أن يهمّ بها، ثم يتركها عزوفاً عنها؛ فهذا لا له، ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئ ما نوى»([7]) ، فهنا لم يتركها لله عز وجل وان لعدم رغبته في هذه المعصية.

النوع الثالث: أن يتمناها، ويحرص عليها؛ ولكن لا يعمل الأسباب التي يتحصِّلها بها؛ فهذا يعاقب على نيته دون العقاب الكامل، كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو بنيته؛ فهما في الوزر سواء»([8]) .  

النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها؛ ولكن يعجز عنها؛ فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»([9]) . والمعنى واضح.

 ومن فوائد الآية أيضا:

 إثبات محاسبة العبد لقوله تعالى: ﵟيُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ ﵞ ولهذا يروى عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» ([10]) ، فينبغي للإنسان أن يكون كيسا فطنا يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ثم قال عز وجل في الآية التالية: ﵟءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ﵞ سبب هذه الآية انه لما نزلت: ﵟوَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ ﵞ الآية وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ثم تقرر الأمر على أن قالوا سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء لماذا؟ لأنهم قالوا: سمعنا وعصينا، فهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذانا الله من نقمه، وقوله: ﵟءَامَنَﵞ معناه صدق، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه من ربه هو القرآن وسائر ما أوحي إليه من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الآية قال: ويحق له أن يؤمن ﵟءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ﵞقال: ويحق له أن يؤمن، يعني ولم لا؟ وﵟكُلٌّﵞ لفظة وردت هنا بعد قوله: ﵟوَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ ﵞ دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر ﵟكُلٌّ ءَامَنَ ﵞ والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته، ورفض الأصنام وكل معبود سواه والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم من كونهم بنات الله وغير ذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي: ﵟكُتُبِهِۦ ﵞ قراءتان بالجمع وهي هذه القراءة، وبالإفراد وكتابه وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن جمع أراد جمع كتاب ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى، ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فهم يؤمنون بكل ما جاء من عند الله عز وجل، وقوله تعالى ﵟوَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ ﵞمدح يقتضي الحضّ على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها دائما وأبدا، والطاعة هنا قبول الأوامر، وقوله: ﵟغُفۡرَانَكَ مصدر كالكفران والخسران ونصبه على جهة نصب المصادر  (غفرانَك) والعامل فيه فعل مقدر تقديره: اغفر غفرانك أو نطلب ونسأل غفرانك، وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ﵞ إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى، هذه الآية أيها الأحبة من فوائدها:

 أن من صفات المؤمنين السمع والطاعة لقوله تعالى وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ ﵞ ، وهذه كقوله تعالى: ﵟإِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخۡشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقۡهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٥٢ ﵞ ﵝالنُّور : ﵑﵕ - ﵒﵕﵜ ، وكقوله تعالى: ﵟوَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵖﵓﵜ ، والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام مثل ما ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله([11]) :

القسم الأول: من لا يسمع، ولا يطيع؛ بل هو معرض؛ لم يرفع لأمر الله، ورسوله رأساً.

القسم الثاني: من يسمع، ولا يطيع؛ بل هو مستكبر؛ اتخذ آيات الله هزواً، كقوله تعالى: ﵟوَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسۡتَكۡبِرٗا كَأَن لَّمۡ يَسۡمَعۡهَا كَأَنَّ فِيٓ أُذُنَيۡهِ وَقۡرٗاۖ فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵗﵜ ، وكقوله تعالى: ﵟقَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَاﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵙﵜ وهذا أعظم جرما من الأول لأنه سمع ولم يطع.

 القسم الثالث: من يسمع، ويطيع؛ وهؤلاء هم المؤمنون الذين قالوا سمعنا وأطعنا، وقال الله سبحانه وتعالى فيهم: ﵟوَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١ﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵑﵗﵜ

ومن فوائد الآية أيها الأحبة: أن كل أحد إلى مغفرة الله عز وجل هذا في قوله سبحانه: ﵟغُفۡرَانَكَ أي: نطلب غفرانك، فكل إنسان محتاج إلى مغفرة الله عز وجل حتى النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إلى هذه المغفرة، ولهذا لما قال عليه الصلاة والسلام: «لن يُدخل الجنة أحداً عملُه قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة»([12])  ، ثم قال الله عز وجل: ﵟ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ﵞ إلى آخر الآية، قوله تعالى: ﵟلَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ ﵞ خبر جزم نص على أن الله لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر في الآية التي قبلها، وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى: ﵟيُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵘﵑﵜ ، وقوله تعالى: ﵟوَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖﵞ ﵝالحَج : ﵘﵗﵜ وقوله تعالى: ﵟفَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵖﵑﵜ ، وقوله: لَا يُكَلِّفُﵞ التكليف هنا هذه اللفظة يكلفه يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره عبادة أو شيئا، يعني لا يكلف نفسا إلا وسعها من العبادات أو من الأشياء، وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتۡ ﵞ يريد من الحسنات ﵟوَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗﵞ  أي: من السيئات، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان وجاءت العبارة في الحسنات بلها لها ما اكتسبت من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت السيئات بعليها وعليها ما اكتسبت من حيث أن السيئات أوزار وأثقال  ومتحملات بصعوبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلي دين، وقوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآﵞ معناه: قولوا في دعائكم ﵟرَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ ﵞ، واختلف الناس في معنى قوله إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚﵞ فذهب الطبري وغير إلى أنه النسيان بمعنى الترك أي إن تركنا شيئا من طاعتك وأنه الخطأ المقصود قال: وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضوع عن المرء فليس بمأمور في الدعاء بان لا يؤاخذ به هذا رأي، ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية هذا الرأي الآخر إنما هو في النسيان الغالب الخطأ غير المقصود وهذا هو الأصوب أنه يشمل هذا وهذا، فيعم المقصود وغير المقصود، ثم قال سبحانه: ﵟرَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاﵞ الإصر: الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وقيل الإصر العهد والميثاق الغليظ، وقيل الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه، وقال مالك رحمه الله([13]) : الإصر الأمر الغليظ الصعب، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد بهم اليهود و قيل أيضا النصارى، وأما عبارات المفسرين في قوله: ﵟرَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ قال قتادة: أي لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا، وقال الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقال ابن جريج: لا تمسخنا قردة وخنازير وعن السدي أنه قال: قال هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: وَٱعۡفُ عَنَّاﵞ أي فيما واقعناه وانكشف ﵟوَٱغۡفِرۡ لَنَا ﵞأي: استر علينا ما علمت منا وَٱرۡحَمۡنَآۚ ﵞأي: تفضل مبتدأ برحمة منك لنا أَنتَ مَوۡلَىٰنَا ﵞ مدح في ضمنه تقرب إليه سبحانه وشكر على نعمه، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات، وروي أن  جبريل عليه السلام أتى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ ﵞفقالها فقال: جبريل قد فعل فقال: قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل قد فعل إلى آخر السورة([14]) .

وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث مثل ما قال ابن عطية المفسر، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين، مما يؤكد أن ما جاء في هذه الآية الأخيرة هي دعاء يدعو به المؤمنون ربهم.

 من فوائد الآية: بيان رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده حيث لا يكلفهم إلا ما استطاعوه ولو شاء أن يكلفهم ما لم يستطيعوا لفعل سبحانه وتعالى.

 من فوائد الآية: إثبات القاعدة المشهورة عند أهل العلم وهي: لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة، لكن إن كان الواجب المعجوز عنه له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن لم يكن له بدل سقط وإن عجز عن بدله سقط مثال ذلك: إذا عجز الإنسان عن الطهارة بالماء لعذر سقط عنه وجوب التطهر بالماء، لكن ينتقل إلى التيمم لأن التيمم هو بدل الطهارة بالماء فإن عجز أيضا سقط التيمم أيضا، مثال ذلك: شخص محبوس مكبل لا يستطيع أن يتوضأ ولا أن يتيمم فإنه يصلي بلا وضوء ولا تيمم لأن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ومثال سقوط التحريم مع الضرورة: رجل اضطر إلى أكل الميتة بحيث لا يجد ما يسد رمقه سوى هذه الميتة لو لم يأكلها لمات فإنه يحل له أكلها، هذا مثال سقوط التحريم مع الضرورة.

 ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يحمل وزر غيره لقوله تعالى: وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ ﵞ ومن فوائدها أيضا: أن الأعمال الصالحة كسب وأن الأعمال السيئة غرم، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: لها في الحسنات، ومن قوله تعالى: عليها السيئات، فإن على ظاهرة في أنها غرم، واللام في لها ظاهرة في أنها كسب.

 ومن فوائد الآيات أيها الأحبة: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق حيث علمهم دعاء يدعونه به واستجاب لهم إياه في قوله تعالى: ﵟرَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ ﵞ .

هذه الآيات أيها الأحبة لا سيما الآيتين الأخيرتين لها فضائل منها: ما جاء في حديث أبي مسعود عقبة ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»([15]) يعني: كفتاه من قيام الليل، وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما([16]) ، من فضائلها أيضا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأعطيت هذه الآيات من آخر البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي»([17]) .

 نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يوفقنا لتدبر آياته، وأن نعمل بها، ونسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


 

([1]) رواه مسلم (125).

([2]) المحرر الوجيز (1/389).

([3]) ينظر: تفسير سورة الفاتحة والبقرة (3/437-439).

([4]) رواه مسلم (340).

([5]) رواه أحمد (2097)، وأبو داود  (5112).

([6]) رواه مسلم (336).

([7]) رواه البخاري (1)، ومسلم (4927).

([8]) رواه أحمد ( 18187)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228).

([9]) رواه البخاري (31)، ومسلم (7252).

([10]) نقله الترمذي في سياق حديث (2459).

([11]) ينظر: تفسير سورة الفاتحة والبقرة (3/449).

([12]) رواه مسلم (7122).

([13]) نقله الطبري في جامع البيان (6/138).

([14]) رواه مسلم (330 ).

([15]) رواه البخاري (4008)، ومسلم (808).

([16]) الدر المنثور (2/138).

([17]) رواه أحمد (23251).