قدرة الله في خلق الإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، ونسأل الله عز وجل أن يرزق الجميع الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم القيامة.
محاضرة اليوم بعنوان: قدرة الله في خلق الإنسان
التفكير في مخلوقات الله أمره عظيم، قد رغب الله عز وجل فيه، فقال عز وجل: ﵟ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٦٩ﵞ ﵝالنَّحل : ﵙﵖﵜ ، وقد عاب سبحانه وتعالى على قومٍ لم يُعملوا فكرهم، ولم يتدبروا في آياته، ولم يعتبروا بمخلوقاته، فأخبر عنهم سبحانه وتعالى في معرض الذم فقال: ﵟ وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ ١٠٥ﵞ ﵝيُوسُف : ﵕﵐﵑﵜ ، ويقول الله عز وجل: ﵟإِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ﵞ ﵝآل عِمرَان : ﵐﵙﵑ - ﵑﵙﵑﵜ.
يتفكرون في ارتفاع السماء واتساعها، وانخفاض الأرض واتضاعها وما فيها من الآيات العظيمة، من كواكب، سيارات وثوابت وبحار، وجبال، وقفار، وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن، وغير ذلك، كل هذا يجلو النفس ويشرح الصدر ويزيل الهم، فيشعر الإنسان بأنه أصبح خفيفاً طليقاً.
يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: " إِنِّي لأخرجُ مِنْ مَنْزِلِي، فَمَا يَقَعُ بَصَرِي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا رَأَيْتُ لِلَّهِ عَلَي فِيهِ نِعْمَة "([1]) ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب مفتاح دار السعادة، وهكذا ذكر قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: " الْكَلَامُ بِذِكْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حَسَن، وَالْفِكْرَةُ فِي نِعَمِ اللَّهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ "([2])
إذاً التفكر في مخلوقات الله عز وجل يزيد المؤمن إيماناً ويردع العاصي ويذكر الغافل، ويوقظ النائم، ويحرك كوامن النفس للرجوع إلى الله، أما الملحد الكافر فالله عز وجل يقول: ﵟ سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ ٥٣ﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵓﵕﵜ ، سنريهم يعني المستقبل، سنري كل جيلٍ ما لم يره الجيل الذي سبقه، أين؟ في الآفاق وفي أنفسهم.
انظر إلى نفسك أيها الإنسان الله عز وجل يقول: ﵟ فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ ٥ﵞ ﵝالطَّارِق : ﵕﵜ ، إن الله عز وجل ينبهك ويذكرك بشيء هام حتى لا تظن نفسك سيداً وقد أخذك الغرور، تملكك الكبر، بارزت الله بالمعاصي قف قليلاً انظر تأمل، فكر، لتعرف مقدار نفسك، وانظر مما خُلقت هنا يأتيك الجواب من الله عز وجل، ﵟ أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٢٠ﵞ ﵝالمُرسَلَات : ﵐﵒﵜ ، نقطة ماءٍ مهينة حقيرة مستقذرة لو تركت لحظة لنتنت وتعفنت، ولو سقطت على ثوبك ما هدأ لك بال حتى تنظفها وتزيلها.
ألا ترى أيها الإنسان أن الأرض تدور، والشمس والقمر يجريان، والليل والنهار يتعاقبان بنظامٍ بالغ الدقة لا حيلة لك، ولا يد فيه، ألا ترى رئتيك تتنفس وقلبك ينبض، وجهازك الهضمي يعمل في يقظتك وفي منامك بأمرٍ لا حيلة ولا يد لك فيه أيضاً، الكل يسير بتسخير الله عز وجل وقدرته.
لذلك الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره ذكر بأن هناك شبهاً كبيراً في الإنسان والكون، عند تفسير قول الله عز وجل: ﵟ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٢١ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵑﵒﵜ ، الآية الواحد والعشرون من سورة الذاريات، يقول القرطبي رحمه الله: " فَحَوَاسُّ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي إِدْرَاكِ الْمُدْرَكَاتِ بِهَا، وَأَعْضَاؤُهُ تَصِيرُ عِنْدَ الْبِلَى تُرَابًا مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَفِيهِ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ الْعَرَقُ وَسَائِرُ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَمِنْ جِنْسِ الْهَوَاءِ فِيهِ الرُّوحُ وَالنَّفَسُ، وَمِنْ جِنْسِ النَّارِ فِيهِ الْمِرَّةُ الصَّفْرَاءُ. وَعُرُوقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْهَارِ فِي الْأَرْضِ، وَكَبِدُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُيُونِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْأَنْهَارِ، لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَسْتَمِدُّ مِنَ الْكَبِدِ. "([3]) وهكذا وصف شيئاً من الإنسان في تفسيره رحمه الله.
دعوةٌ من خلال هذه المحاضرة للتفكر في قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان، من خلال ما نذكره لكم من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله، في كتابه مفتاح دار السعادة، ننقل من هذا الكتاب شيئا ًمن كلامه رحمه الله عن قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان، لترى أيها الإنسان بديع خلق الله عز وجل، لترى حكمة الله عز وجل لتقف بنفسك على أسرار قدرة الله عز وجل في خلقك.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذكره لبعض دلائل قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان، في الجزء الأول من كتابه مفتاح دار السعادة، يقول: "ندب الله سبحانه إلى التفكر في خلق الإنسان بغير موضعٍ من كتابه، فقال: {فلينظر الإنسان مما خلق}، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وقال تعالى: ﵟ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ ٥ﵞﵝالحَج : ﵕﵜ ، ويقول الله عز وجل: { {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 36 - 40] }، بلى سبحانه وتعالى، ويقول الله عز وجل: { {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 20 - 23] }، وهكذا آيات كثيرة الله عز وجل رغب بالتفكر في خلق الإنسان، والآيات كثيرة والله عز وجل يدعو العبد إلى النظر والفكر في بدء خلقه ووسطه وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيءٍ إلى الإنسان نفسه، وفيهم العجائب الدالة على عظمة الله، ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضها، وهو غافل عنه، معرضٌ عن التفكير فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره، فقال الله عز وجل: { {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17 - 22] }."
ثم يقول ابن القيم رحمه الله يذكر دلائل قدرة الله عز وجل في النطفة، فيقول رحمه الله: "انظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذرٍ لو مرت بها ساعة من الزمان لفسدت وأنتنت كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، كيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة والاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، كيف قدر اجتماع الماءين مع بعد كلٌ منهما عن صاحبه، ساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضعٍ واحد، جعل لهما قراراً مكيناً، فلا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تغرب إلى السواد ثم جعلها مضغة لحمٍ مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعل لها عظاماً مجردة لا كسوة عليها، مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها، وملمسها ولونها، وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين، بعد ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعضٍ بأقوى رباطٍ وأشده وأبعده عن الانحلال، كيف كساها لحماً ركبه عليها، وجعلها وعاءً لها وغشاءً وحافظاً وجعلها حاملة له" ([4])
كلامٌ طويل له رحمه الله يذكر فيه قدرة الله عز وجل في هذه النطفة، التي خُلق منها الإنسان، ثم يقول: "فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما سارت إليه ثانياً وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً بل عظماً واحداً من أصغر عظامها، بل عرقاً من أدق عروقها، بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك، فذلك كله آثار صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ من قطرة من ماءٍ مهين"([5])
كلامٌ قيم من هذا الإمام، فيه تقوية للإيمان، وفيه دعوة للتفكر كما أمرنا الله عز وجل في كتابه: ﵟ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٢١ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵑﵒﵜ ، فالمؤمن ليرتقي في إيمانه ويزداد إيمان ويتفكر، ونعمة التفكر وعبادة التفكر من نعم الله عز وجل علينا.
ثم يذكر رحمه الله بعد كلامه الطويل عن النطفة يذكر الفوائد في كثرة بكاء الطفل بعد ولادته، ما هي الحكمة في كثرة بكاء الطفل؟ يقول رحمه الله: "ثم تأمل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال وما فيه من المنفعة فإن الأطباء شهدوا منفعة ذلك وحكمته، قالوا في أدمغة الطفل رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لأحدثت إحداثاً عظيماً، فالبكاء يسيل ذلك ويحدره من أدمغتهم تقوى أدمغتهم وتصح أيضاً فالبكاء يوسع عليهم مجاري النفس، ويفتح العروق ويصابها، ويقوي الأعصاب، فكم للطفل من منفعة ومصلحة فيما تسمعه من بكائه وصراخه، فإذا كانت هذه الحكمة في البكاء الذي سببه ورود الألم المؤذي وأنت لا تعرفها، ولا تكاد تخطر ببالك، وهكذا إيلام الأطفال فيه وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد خفي على أكثر الناس" ([6])رحم الله ابن القيم رحمه الله.
ثم يذكر دلائل قدرة الله عز وجل في خلق البصر، العين، يقول: "وجعل حاسة البصر ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، ركب كل عينٍ من سبع طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص، ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة، فلو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع، أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار"([7]) كلام طويل، ثم قال: "وانظر كيف حسن شكل العينين وهيأتهما ومقدارهما، ثم جملهما بالأجفان غطاءً لهما، وستراً وحفظًا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار، ويكفانها من البارد المؤذي والحار المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالاً وزينة، ولمنافع أُخر وراء الجمال والزينة"
ثم أيضاً يذكر رحمه الله دلائل قدرة الله عز وجل في خلق الأذن، وبقية أعضاء البدن، يقول: "خلق الأذن أحسن خلقة وأبلغه في حصول المقصود منها، جعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصمخ وليحس بدبيب الحيوان فيها، ويبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غصوناً أو غضوناً وتجاويف واعوجاجات تُمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته، ثم تؤديه إلى الصمخ ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل إلى الصمخ، هذا الحيوان الذي يدخل في أذن الإنسان يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل إلى الصمخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضاً حكمٌ غير ذلك"
ثم يذكر الحكمة في أن ماء الأذن مراً، وماء العين مالحاً، وماء الفم عذباً، فيقول رحمه الله: "اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مراً في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلاً إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه، وجعل ماء العين مالحاً ليحفظهما، فإن شحمتها قابلة للفساد، فكان ملوح مائها صيانة لها وحفظاً وجعل ماء الفم عذباً حلواً ليدرك به طعم الأشياء على ما هي عليه؛ إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن من عُرض بفمه المرارة استمر طعم الأشياء التي ليست بمرةٍ كما قال الشاعر: ومن يك ذا فمٍ مر مريضٍ يجد فيه مراً به الماء الزلال"
ثم يذكر رحمه الله دلائل قدرة الله عز وجل في الأنف، فيقول: "نصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيئته وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجزٍ وأودع فيهما حاسة الشم التي ندرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب فيتروح به، يتغذى به، ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جُعل في الأذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها، جعله سبحانه مصداً تنحدر إليه فضلات الدماغ، تجتمع فيه ثم تخرج منه، واقتضت حكمته سبحانه أن جعل أعلاه أدق من أسفله، لأن أسفله إذا كان واسعاً اجتمعت فيه تلك الفضلات" انتهى كلامه عن قدرة الله عز وجل في الأنف.
ثم يذكر أيضاً قدرة الله عز وجل في الفم وما يحتويه الفم من اللسان والأسنان والشفتين، فيقول ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة يقول: "شق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع، وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يُبهر العقول عجائبه، فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجماناً لملك الأعضاء، مبيناً مؤدياً عنه، كما جعل الأذن رسولاً مؤدياً مبلغاً إليه، فهي رسوله وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد، واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصوناً محفوظاً مستوراً غير بارزاً مكشوفاً كالأذن والعين والأنف" هي مكشوفة غير اللسان.
ثم يقول: "لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جُعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا ًمنه إلى الخارج جُعل له ستراً مصوناً لعدم الفائدة في إبرازه، لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضاً لأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضُرب عليه سرادق تستره، وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر" كل هذا الكلام عن اللسان وقدرة الله عز وجل في خلق هذا اللسان.
ثم يقول ابن القيم: "ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له، وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه وجعل بعضها للطحن وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها وحدد رؤوسها وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضاً، وصفاءً وحسنًا، وأحاط سبحانه على ذلك حائطين وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما وهما الشفتان، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما، الله عز وجل هيأهما وجعلهما إتماماً لمخارج حروف الكلام ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطاً، ولهذا كان أكثر العمل فيها له هو الواسطة، واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحماً صرفاً لا عظم فيه، ولا عصب، ليتمكن بهما من مص الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما، وخص الفك الأسفل للتحريك، لأن تحريك الأخف أحسن ولأن الفك العلوي يجتمع الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة"
كلام ابن القيم يذكر في قدرة الله عز وجل، نأخذ منه مما يقوي إيماننا، ويحثنا على التفكر في خلق الإنسان، ثم يتكلم رحمه الله عن قدرة الله عز وجل في خلق اليدين، ويذكر هذه القدرة قدرة الله عز وجل في خلق اليدين ويقول رحمه الله: "وخلق سبحانه اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه، ورأس ماله في معاشه، فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط، قسم فيه الأصابع الخمس وقسم كل إصبع بثلاث أنامل والإبهام باثنتين ووضع الأصابع الأربع في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الجميع، فجاءت على أحسن وضعٍ صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعاً آخر للأصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا، فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقاً واحدا ًكالصفيحة، فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحه، وأنواع تصرفاته، ودقيق الصنائع، والخط وغير ذلك، فإن بسط أصابعه كانت طبقاً يضع عليها ما يريد، وإن ضمها وقبضها كانت دبوساً وآلة للضرب، وإن جعلها بين الضم والبسط كانت له مغرفة يتناول بها ويمسك فيها ما يتناوله، وركب الأظفار على رؤوسها زينة لها، وعماداً ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع، جعلها سلاحاً لغيره من الحيوان والطير وآلة لمعاشه، وليحك الإنسان بها بدنه عند الحاجة"
ثم قال رحمه الله: "ثم انظر إلى الحكمة في سلب الإحساس والشعور من الأظافر لأنها قد تطول وتمتد وتدعو الحاجة إلى أخذها وتخفيفها، فلو أعطاها الحس لآلمته وشق عليه أخذ ما شاء منها، ولو كانت تحس لوقع الإنسان منها في إحدى البليتين إما تركها حتى تطول وتفحش وتثقل عليه وإما مقاسات الآلام والوجع عند أخذها"([8]) انتهى كلامه رحمه الله في كلامه عن قدرة الله عز وجل في خلق اليدين، وما فيهما من الأصابع والأظافر.
ثم يذكر رحمه الله قدرة الله عز وجل في العظام والمفاصل والأعصاب وهكذا يتكلم عن قدرة الله عز وجل في خلق القلب، وهنا نتوقف عند كلامه رحمه الله يقول: "هو الملك المستعمل لجميع آلات البدن" يقول عن القلب وعن قدرة الله عز وجل في خلق القلب يقول: "هو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها، فهو محفوف بها محشورٌ مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة والكرم والصبر والاحتمال والحب والإرادة والرضا والغضب وسائر صفات الكمال، فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جندٌ من أجناده، فإن العين طليعته ورائدته، الذي يكشف له المرئيات فإن رأت شيئاً أدته إليه، ولشدة الارتباط التي بينها وبينه إذا استقر فيه شيءٌ ظهر فيها، فهي مرآته المتردمة للناظر ما فيه، كما أن اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه، ولهذا كثيراً ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاثة، فيقول: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }، ويقول: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة}، وكذلك يقرن بين القلب والبصر، {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}".
ثم يقول رحمه الله: "وكذلك الأذن فهي رسوله المؤدي إليه، كذلك اللسان ترجمانه، وبالجملة فسائر الأعضاء خدمه وجنوده، وقد قال النبي r: «ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب»"، والحديث متفق عليه.
ثم يذكر ابن القيم رحمه الله في هذا الكتاب الذي أنصح بقراءة كتاب مفتاح دار السعادة يذكر دلائل قدرة الله عز وجل في مخ الإنسان، يقول: "ثم لو رأيت الدماغ وكُشف لك عن تركيبه وخلقه لرأت العجب العجاب، يكشف لك عن تركيبه ما يحار فيه العقل وقد لُف بحجب وأغشية بعضها فوق بعض لتصونه عن الأعراض، وتحفظه من الاضطراب، ثم أطبقت عليه الجمجمة بمنزلة الخوذة وبيضة الحديد لتقيه حد الصدمة والسقطة والضربة التي تصل إليه، فتتلقاها تلك البيضة عنه بمنزلة الخوذة التي على رأس المحارب، ثم جللت تلك الجمجمة بالجلد الذي هو فروة الرأس، يستر العظم من البروز للمؤذيات ثم كسيت تلك الفروة حلة من الشعر الوافر، وقاية لها وستراً من الحر والبرد والأذى وجمالاً وزينة، فتبارك الله أحسن الخالقين"
ثم يقول رحمه الله بعد أن ذكر عجائب من قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان يقول: "والمقصود من ذكر هذا هو التنبيه فقط على وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان، لكن الأمر حقيقة أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجري فيه المقال"
ثم يذكر رحمه الله قدرة الله عز وجل في خلق المعدة، وما فيها من العجائب هذه المعدة يقول: "وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب، كيف جُعلت له آلة يتناول بها ثم بابٌ يدخل منه، ثم آلة تقطعه صغاراً ثم طحوناً يطحنه ثم أعين بماءٍ يعجنه ثم جُعل له مجرىً وطريقاً إلى جانب النفس، ينزل هذا ويصعد هذا فلا يلتقيان مع غاية القرب، ثم جُعل له حوايا وطرقاً توصله إلى المعدة، فهي خزانته وموضع اجتماعه ولها بابان، باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه تفله، والباب الأعلى أوسع من الأسفل؛ إذ الأعلى مدخل للحاصل والأسفل مسرف للضار منه، والأسفل منطبقٌ دائماً ليستقر الطعام في موضعه، فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع ويسمى البواب لذلك، والأعلى يسمى فم المعدة، والطعام ينزل إلى المعدة، فإذا استقر فيها انماع وذاب، ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به.
ولذلك يذيب ما هو متحجرٌ مستحجرٌ كالحصى وغيره، حتى يتركه مائعاً فإذا ذابته علا صفوه إلى فوق ورسا كدره إلى أسفل ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضوٍ وقوامه بحسب استعداده وقبوله"([9])
كلام طويل للإمام ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في بيان قدرة الله عز وجل في المعدة، وهكذا يذكر رحمه الله دلائل قدرة الله عز وجل في خلق آلات الجماع في الإنسان، ثم يذكر في آخر كلامه أيضاً فصلاً مهماً يذكر فيه غرائب وعجائب في تكريم خلقة الإنسان على جميع المخلوقات وخلق كل شيءٍ من أجله، ويقول الله عز وجل: ﵟ ۞ وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ﵞ ﵝالإِسرَاء : ﵐﵗﵜ.
كلام طويل يكفي ما أشرنا إليه من بيان قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان ونعيد ما ذكره ابن القيم رحمه الله عندما قال: المقصود من ذكر هذا، يعني المقصود من ذكر شيءٍ من قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان، يقول: "المقصود من ذكر هذا هو التنبيه فقط على وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان، لكن الأمر حقيقة أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال أو يجري فيه المقال"
نكتفي بما ذكرنا من خلال هذه المحاضرة في بيان قدرة الله عز وجل في خلق الإنسان، وأحث على الرجوع إلى كتاب ابن القيم رحمه الله مفتاح دار السعادة ففيه الغرائب والعجائب للمخلوقات، وفيه أيضاً عبادة التفكر في المخلوقات، والتفكر في قدرة الله عز وجل في خلق المخلوقات، نسأل الله عز وجل أن يقوي إيماننا وأن يثبتنا على الإيمان والسنة، كما أسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقه البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.