فقتله
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة أما بعد؛
سبق في النسائم الإيمانية بيان عن خطر الشرك وضرره وأثره، وبيان خطر الزنا وما يترتب عليه من آثار جسيمة، اليوم أنا معكم في بيان خطر ذنب عظيم، ومعصية ضررها كبير على المجتمع وعلى الإنسان ألا وهي القتل بغير حقِّ، وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين هذه المعاصي الثلاث: الشرك والزنا والقتل، فقال الله سبحانه وتعالى: ﵟوَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا ٦٨ يُضَٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَيَخۡلُدۡ فِيهِۦ مُهَانًا ٦٩ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٧٠ﵞ ﵝالفُرۡقَان : ﵘﵖ - ﵐﵗﵜ ، فجمع الله سبحانه وتعالى بين هذه الذنوب الثلاثة لخطرها وشدة أثرها، وأصل الشرك وأساسه التعلق بغير الله، وأصل الزنا أساسه الشهوة، وأصل القتل وأساسه الغضب([1])، فمن أراد منع الوصول إلى هذه المعاصي الكبار فعليه أن يقطع هذه المادة حتى لا يصل إلى تلك المعاصي والذنوب.
وفي هذه النسمة الإيمانية أخصص الكلام على خطر القتل وأول قتل حدث على وجه الأرض ما سببه وما هي حيثياته ومن الذي قتل من ومن المقتول؟
قصّ الله سبحانه وتعالى علينا قصة عظيمة في هذا الباب فقال: ﵟوَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّﵞ قابيل وهابيل ماذا حدث معهم؟ ﵟإِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗاﵞ قرب أحدهما قربانًا غنمةً ثمينة وكان صاحب غنم، وقرب الآخر بعض زرعه وكان صاحب زرع ﵟ فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَاﵞ وهو صاحب الغنم فنزلت نار فأكلت الغنمة دليلًا على قبولها ﵟ وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِﵞ وهو صاحب الزرع حيث لم تأكل النار قربانه فغضب ودخله الحسد وبلغ به غايته ﵟقَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖﵞ جاء في بعض الروايات عن ابن عباس قال: كيف تمشي بين الناس وقد علم الناس أنه تقبل منك ولم يتقبل مني، فسأقتلك حتى لا يفشو ذلك بين الناس، فقال له صاحبه رادًّا عليه: أنا ليس لي ذنب ﵟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٧ﵞ ثم وعظه موعظة بليغة، فقال له: ﵟلَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَﵞ فلن أقابلك بنفس المعصية التي تريد أن تقابلني بها والسبب ﵟإِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٨ﵞ فخوفه من الله منعه من أن يبادله بنفس القتل، ولابد عليك أن تخاف من الله سبحانه وتعالى فخوَّفه أولًا بربِّه ثم قال: ﵟإِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَﵞ يعني إذا قتلتني فتبوء بإثمي وهو القتل وإثمك الذي عليك من قبل، فستجمع بين إثمين وهذا يرديك في الآخرة ﵟفَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِﵞ فخوَّفه النار ﵟوَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ ٢٩ﵞ فلا تكن منهم، فلاحظ تخويفه من الله وتخويفه من عاقبة عقاب الله وهي النار لكنه مع ذلك لم ينته ولم ينزجر لماذا؟ لأن الحسد والغضب ملأ قلبه ﵟفَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِﵞ فأتى عامل ثاني وهو أن النفس الأمارة بالسوء حسَّنت له صنيعه وفعله بأن هذا القتل هو الصواب، وأن هذه المعصية مع عظمها هي الطريق السليم والصحيح لعلاج تلك المشكلة التي وقع فيها فقتله!! قتل من؟ قتل أخاه قتل ابن أمِّه وأبيه يعني أنه بسبب غضبه وحسده ونفسه الأمارة بالسوء لم يعد يرى أن ذلك ذنبًا ولم ير لأخيه فضلًا، فلما قتله أصبح من الخاسرين نعم؛ لأن هذه الجريمة خسارة في الدنيا والآخرة، وأيُّ خسارة أعظم من هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُقتل نفس ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل»([2]) فكل من يقتل إثمه ووزره يرجع لابن آدم الأول، فأرسل الله وبعث الله سبحانه وتعالى غرابًا ﵟفَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِﵞ يحثو في الأرض على غراب ميت يدفنه ﵟلِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِﵞ حتى يتعلم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه الذي قتله قال القاتل بعد أن أعلاه النَّدم ﵟقَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِﵞ أيصل بي الحال والحدُّ والمستوى أن أكون مثل هذا الغراب، ولاحظ التمثيل بالغراب لا بهدهد ولا بطير شريف بل بالغراب الذي هو من أبغض الحيوانات عند الإنسان تحقيرًا لذلك الفعل وتشبيها له بأن حالك أصبح كحال هذا الغراب ﵟفَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ ٣١ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵑﵓﵜ ندم بعد خسارة، فجمع بين ألمين.
* وفي هذه القصة فيها فوائد وعبر كثيرة منها:
الفائدة الأولى: خطر جريمة القتل بغير حقٍّ وأنه من الجرائم النَّكراء التي اتفقت الأديان على تحريمها لكن من العجب أن يتحول هذا الذنب إلى أمر سهل في آخر الزمان عند الناس، وذلك مصداق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»([3]) ، فأصبحت القتل سهل حتى بلغ ببعض الناس أن يقتل أباه وذاك يقتل أمه بسبب دراهم معدودة، وبسبب دنيا فانية، وأخطر من هؤلاء من أصبح يقتل الآمنين والمؤمنين باسم الدين كأفكار الدواعش والخوارج ونحو ذلك، وأصبح هذا القتل عندهم -والعياذ بالله- أسهل من قتل الدجاج، وأسهل من قتل الخرفان وهذا أيضًا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال عن الخوارج: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» ([4]) ، ونسو أن زوال هذه الدنيا كلها أهون عند الله سبحانه وتعالى من قتل نفس مسلمة، ونسوا أيضًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة»([5]) .
الفائدة الثانية: خطر الحسد، الحسد -حفظكم الله- إذا دبَّ في القلب عمي القلب، فأصبح لا يرى أمامه ولو كان من كان أمامه محسنًا صالحًا أخًا وابنًا فالحسد يعميه، فلا يرى من أمامه إلا عدوًّا، ولم يكن إخراج إبليس من الجنة إلا بسبب الحسد، ولم تكن عداوة إخوة يوسف ليوسف إلا وأصلها هذا الحسد، فالإنسان ينبغي له أن يرى النعم التي عند الآخرين أنها منة من الله وأنه ما حرم وأعطي الآخر إلا لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى لكن هذا الحسد مضر على نفسه يقتل صاحبه قبل أن يقتل غيره.
الفائدة الثالثة: أن النفس أمارة بالسوء، قد تزين السيئات لتصبح حسنات والباطل يصبح حقًّا، والشر يصبح خيرًا بسبب هذه النفس الأمارة بالسوء، كما قال في امرأة العزيز : ﵟإِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِﵞ ﵝيُوسُف : ﵓﵕﵜ ، فعلى الإنسان أن يضع هذه النفس الأمارة في ميزان الحق وميزان الشرع، ولا يثبت لها العنان فترمي به في واد سحيق.
الفائدة الرابعة: ثمرة الخوف من الله سبحانه وتعالى: ﵟإِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٨ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵘﵒﵜ الإنسان الذي يخاف من الله سبحانه وتعالى ويخاف من عقاب الله جل في علاه لن تجده إلا على طاعة الله، لن تجده إلا نافعًا لخلق الله، لن تجده إلا دافعًا للشر مانعًا للشر فاعلًا للخير لكن الإنسان الذي لا يجعل الله في قلبه ولا يخافه ولا يتذكر عقاب الله سبحانه وتعالى لا يبالي بأي معصية هلك.
الفائدة الخامسة: أن الإنسان إذا قوبل بالإساءة فلا يقابل الإساءة بالإساءة، قال عمر رضي الله تعالى عنه كلمة جميلة: "من عصى الله فيك فلا تعص الله فيه"([6])، أحد أبناء آدم أراد قتل أخاه فقال لا لو أردت قتلي فأنا لن أمد يدي عليك ولن أقتلك، فلا يقابل الإنسان المعصية بالمعصية ولكن: ﵟٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ ٣٤ﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵔﵓﵜ .
الفائدة السادسة: ثمرة التقوى وأن الله سبحانه وتعالى يتقبل من المتقين الطائعين الممتثلين لطاعة الله مخلصين في قربانهم لله ومتبعين لذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وعد الله سبحانه وتعالى المتقين في هذه الدنيا بأشياء كثيرة منها تفريج الكرب وتيسير الأمور وإزالة الهموم والإحزان، وفي الآخرة الجنة والقرب من الله سبحانه وتعالى ﵟإِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَرٖ ٥٤ فِي مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِۭ ٥٥ﵞ ﵝالقَمَر : ﵔﵕ - ﵕﵕﵜ .
الفائدة السابعة: أن الإنسان في بعض الأحيان يقدم على شيء ثم يندم ندمًا لكن هذا الندم بعد فوات الأوان، قتل أحد أبناء آدم الآخر فلما قتله وزهقت روحه ونزف دمه ندم لكن بعد فوات الأوان ، كذلك بعض الناس يقدم على شيء لغفلة لتسلط الشيطان لتسلط الهوى عليه لتسويل النفس له بسبب الحسد الذي توغل في قلبه أو الغضب، ثم بعد ذلك يندم على فعلته، كالذي يضرب زوجته بسبب الغضب فيكسر أنفها أو كالذي انعطف بسيارته على السيارة فصدمه بسبب الغضب أو إنسان اغتاب إنسانًا أو كذب على إنسان فظلمه فخرج بسببه من العمل وغير ذلك من القضايا المجتمعية التي بعد ذلك يتألم القلب على فواتها، ولا يستطيع علاجها، فالعلاج حفظكم الله الحقيقي والسعادة الحقيقية في أن يكون الإنسان ممتثلًا لطاعة الله سبحانه وتعالى، سائرًا على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك الخير كله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلادنا ويوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يرفع الوباء عنا.
وصلى الله وسلم نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
([1]) ينظر الفوائد لابن القيم ().
([2]) رواه البخاري (3335)، ومسلم (1677).
([3]) رواه البخاري (121)، ومسلم (118).
([4]) رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).
([5]) رواه البخاري (3166).