لا ينال العلم براحة الجسد


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار بسيرهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين أما بعد؛

 هذا اللقاء بعنوان: «لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ»([1])  وهو أثرٌ مروي عن يحيى ابن أبي كثير رحمه الله وهو من رواة الصحيحين، روى هذا الأثر الإمام مسلم لكن من عجائب الأمور أنه رحمه الله لم يروه في مقدمة صحيحه، وإنما رواه بعدما ذكر جملة من طرق أحاديث مواقيت الصلاة، فكأن الإمام مسلم رحمه الله رحمة واسعة لما ذكر هذه الجملة من الطرق أراد أن يبين أن العلم يحتاج إلى جد واجتهاد، ولذلك كأنه استحضر أثر يحيى ابن أبي كثير فذكره في هذا الموضع، وقبل أن نتكلم عن أثر يحيى ابن أبي كثير لسنا بحاجة إلى أن نذكر فضائل العلم فإنها متكررة ومعلومة لدى الكثير من طلاب العلم الحريصين على تحصيله، ولكن أتذكر هنا حديثاً روته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح حين يسلم يقول: « اللهم إني أسألك علما نافعا، وعملا متقبلا، ورزقا طيبا» ([2]) ، لك أن تتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ يومه بسؤال ربه جل وعلا هذا الأمر العظيم: اللهم إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا، وفي رواية: ورزقا طيبا وعملا متقبلا، يدل على عظم المطلوب وأهميته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو نبي الأمة والمبعوث رحمة من رب العالمين جل وعلا يسأل ربه هذه الفضيلة العظيمة في أول ما يصبح في يومه، فهذا يدلنا على أن بلوغ هذه المرتبة وهو تحصيل العلم النافع هي مرتبة عالية.

 لما جاء الحافظ النووي رحمه الله في شرحه على مسلم([3]) وفي تعليقه على أثر يحيى ابن أبي كثير قال رحمه الله: «عن يحيى بن أبي كثير قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم، جرت عادة الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن يحيى مع أنه لا يذكر في كتابه إلا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم محضة مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة  -يعني أثر يحيى ابن أبي كثير ليس أمر الصلاة هو أمر خارج- فكيف أدخلها بينها، وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن بعض الأئمة أنه قال سببه -أي أن إيراد الإمام مسلم لهذا الأثر- أن مسلما رحمه الله تعالى أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمرو، وكثرة فوائدها وتلخيص مقاصدها وما اشتملت عليه من الفوائد في الأحكام وغيرها ولا نعلم أحدا شاركه فيها -يعني شاركه في جمع هذه الطرق- فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا فقال: طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم»، أراد أن يبين أن من يريد أن يبلغ المراتب العالية لا بد أن يبذل أكثر.

 ذكر السيوطي أيضا في الديباج في شرحه على مسلم قال: «وقد أخرجه بن عدي في الكامل-يعني أثر يحيى ابن أبي كثير-  ولفظه سمعت أبي يقول: كان يقال العلم خير من ميراث الذهب والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ، ولا يستطاع العلم براحة الجسم» ([4]).

 ممن قال هذه العبارة ورويت عنه أيضا الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم رحمه الله، فقد جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي([5])  وفي غيره أنه قال: «كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل النسخ والمقابلة، -معنى ذلك أنهم في النهار يتنقلون في سماع الحديث وفي الليل ينسخون هذه الأحاديث ويضعونها على الأوراق- قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي إلى شيخنا فقالوا: هو عليل مريض قال: فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها، قال: فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس آخر، قال: فلم يمكنا إصلاحه ومضينا إلى المجلس -تركنا السمكة وذهبنا إلى المجلس-، قال: فلم نزل حتى أتت عليه ثلاثة أيام -يعني لم نستطيع و لم نجد وقتا نطبخ فيه هذه السمكة- قال: وكاد أن يتغير فأكلناه نيئا، -ما في وقت أكلناه نيئا- ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

إذًا ما مقتضى هذه العبارة؟ مقتضى هذه العبارة أن بقدر بذلك للجهد يكون تحصيلك للفائدة، وبقدر ضعفك يكون قلة النفع، وقد يغتر طالب العلم أحيانا بمسألة يفهمها أو مسألتين أو بكتاب قرأه أو بكتابين، ويظن أنه قد بلغ في ذلك الغاية أو حصل ما يُكتفى بتحصيله، ولا شك أن من حصل منه ذلك فقد اغتر وقطع على نفسه طريق الانتفاع، تأمل عبارة ابن القيم رحمه الله إذ يقول: «فالمكارم منوطة بالمكارة والسعادة لَا يعبر إليها إلا على جسر الْمَشَقَّة فَلَا تقطع مسافتها إلا فِي سفينة الْجد وَالِاجْتِهَاد قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَالَ يحيى بن أبي كثير: لاينال الْعلم براحة الْجِسْم وَقد قيل: من طلب الرَّاحَة ترك الرَّاحَة([6])، وقال في موضع آخر: «وَلَا ينَال دَرَجَة وراثة النُّبُوَّة مَعَ ذَلِك وَلَا ينَال الْعلم إلا بهجر اللَّذَّات وتطليق الرَّاحَة، قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه: قَالَ يحيى بن أبي كثير: لَا ينَال الْعلم براحة الْجِسْم وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: أجْمَعْ عقلاء كل أمة أن النَّعيم لَا يدْرك بِالنعيم، وَمن آثر الرَّاحَة فَاتَتْهُ الرَّاحَة فَمَا لصَاحب اللَّذَّات وَمَا لدرجة وراثة الأنبياء» ([7])  يعني لا صلة له بهذه الدرجة الذي ينشغل باللذات، ولا يتحصل للإنسان أمران: أن يأخذ من الدنيا مع هجره للعلم وأن يأخذ في نفس الوقت من فوائد العلم، معنى ذلك أن أحدهما لا بد وأن يطغى على الآخر ولكن يوفق العبد فيما يستطيع بين معايشه وبين تحصيل العلم، وليس معنى ذلك أن يترك الإنسان معايشه في الدنيا وظيفته و عمله لا، ليس هذا المقصود ولكن المقصود ألا يشغله ذلك عن طلب العلم فيتوسع في فضل المكاسب ويترك الاجتهاد والجد في طلب العلم، ثم يقول ابن القيم رحمه الله بعد ذلك: « فإنَّ العلمَ صناعةُ القلب وشُغْلُه؛ فما لم يتفرَّغ لصناعته وشغله لم يَنلْها، وله وِجْهَةٌ واحدة؛ فإذا وُجِّهَت وِجْهَته إلى اللذَّات والشهوات انصرفَت عن العلم، ومن لم تغلِبْ  لذَّةُ إدراكه للعلم وشهوتُه على لذَّة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجةَ العلم أبدًا، فإذا صارت شهوتُه في العلم ولذَّتُه في إدراكه رُجِيَ له أن يكون من جملة أهله» ([8])  أي: من جملة أهل العلم، إذا كانت الأمور العظام لا تنال إلا بالجهود العظيمة فإن من أعظم الأمور طلب العلم الشرعي ومن أجلها ومن أنفعها للعبد، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «تأملت عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللّذات والراحة» ([9]) ، ويقول في موطن آخر: «فأما من أنفق عصر الشباب في العلم؛ فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدارك المطلوب» ([10])، لك أن تتأمل الإنسان الذي أمضى شبابه في طلب العلم وفي تحصيله كيف تكون راحته في شيخوخته، العلم في صدره مسائل الحلال والحرام وأصول المسائل وأدلتها، وهو كلما ازداد سنه مع ازدياد علمه كلما ازداد تعبده لله سبحانه وتعالى وكلما ابتعد عن معاصي الله وعن مساخطه، فهذه ثمرة التحصيل في الشباب ولك أن تتصور العكس من ذلك من انشغل في شبابه بالملذات والشهوات والرغبات وتحقيق الأماني الدنيوية فإذا ضعفت قوته وضعف إدراكه ماذا يبقى عنده من أمر التحصيل، وماذا يبقى عنده من فقه العبادة، وماذا يبقى عنده من فهم المسائل، ولذلك كان شرط التحصيل الاستمرار و عدم الانقطاع، جاء عن سعيد ابن المسيب رحمه الله أنه قال: «إن كنت لأَسيرُ في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام» ([11])  ، ولما سئل الشعبي وهو عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله من أئمة أهل العلم والإيمان من سلف هذه الأمة، قالوا: كيف حصلت العلم؟ ولا يكاد يخلو كتابٌ كتب السنة عن اسم الشعبي رحمه الله فهو من الأئمة الثقات الذين رووا الأحاديث رووا له أصحاب الجماعة رحمه الله، قالوا له كيف حصلت العلم؟ قال: «بنفي الاعتماد -أي على النفس- والسير في البلاد وصبر كصبر الجماد وبكور كبكور الغراب» ([12])، أعتمد على الله جل وعلا وحده وأجتهد في السير في البلاد لطلب العلم وأصبر كصبر الجماد، الجماد هل له صبر جعل له صبرا وكأنه يقول: أن هذا الجماد لا يتحرك وهكذا طالب العلم يصبر يثبت يتحمل لا يتملل لا ينتقل من كتاب إلى كتاب من درس إلى درس من مشروع إلى آخر من حفظ إلى حفظ آخر، يبدأ بحفظ القرآن من موطن وإذ به بعد أيام ينتقل إلى موطن آخر، يبدأ بحفظ شيء من السنة ينتقل إلى كتاب آخر، يرى زملاءه يحضرون درسا يترك الدرس الذي هو فيه ويحضر درسهم، يقترح عليه أحدهم كتابا فيترك الذي بين يديه وينتقل إلى آخر، فهو دائم التنقل كثير التملل قليل الفائدة، بل إن التشتت أقرب إليه من الثبات، ولذلك عندما نتكلم عن أثر يحيى ابن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسد لابد أن نعرف كيف يستطيع الإنسان أن يعلي همته، وقد حاولت أن أذكر أسبابا عشرة في ذلك لعلها تشير إلى غيرها مما لم يذكر، ومن الله جل وعلا العون والسداد:

 أما الأمر الأول: فهو معرفة النافع من العلوم، سواء من حيث العلوم جميعها فإن أعلى العلوم نفعا وأكثر العلوم فائدة وأرفعها أثرا وأعظمها أجرا هو العلم الشرعي، ما قاله الله جل وعلا وقاله النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد في الآثار وما قيده العلماء.

العلم قال الله قال رسوله       قال الصحابة هم أولو العرفان

هذا أعظم العلوم وكل فضيلة جاءت في النصوص في بيان فضل العلم فهو ابتداء في العلم الشرعي، ثم إن طالب العلم كلما زاد اجتهاده وبذل مهجته في العلم كلما زاد أجره، وكلما كثر انتفاعه، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «العلم النافع هو فهم الأصول، ومعرفة المعبود وعظمته، وما يستحقه، والنظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم، هو العلم النافع» ([13])، أعظم ما يحصله الإنسان، قد يرغب إنسان بتحصيل بعض العلوم غير الشرعية هل له أجر في ذلك؟ نعم له أجر في ذلك إذا قصد نفع الناس لكن تبقى الفضائل المذكورة في كلام ربنا وفي كلام نبينا صلى الله عليه وسلم وما ورد من الآثار هو أصالة في العلم الشرعي، يقول ابن رجب رحمه الله: «العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد...فمن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه» ([14])  يعني ربه جل وعلا.

 الأمر الثاني: حرص طالب العلم على أن يختار من الأوقات أحسنها لطلب العلم، ومن الأماكن أفضلها لتحصيل المأثور، إذًا لا يجعل فضل الأوقات لطلب العلم ما بقي من الوقت بعد أن ينتهي من أموره الدنيوية وما يتعلق بملذاته ورغباته، يقول الآن سأحصل العلم لا ينال العلم براحة الجسد، لا بد أن تعطي للعلم أفضل أوقاتك أنفس ساعاتك، تلك الساعات التي تكون فيها في أعظم انشراح للصدر لابد أن يكون في تحصيل العلم؛ لأن الإنسان إذا جاء متمللا ضائقا منشغل الفكر فإن قراءته كعدمها وتحصيله كلا شيء، لكن عليه أن يهيئ من الأوقات ما يكون للقراءة، يهيئ من الأوقات ما يكون للدراسة يهيئ من الأوقات ما يكون للحفظ، يقول ابن جماعة الشافعي رحمه الله: «من آداب المتعلم في نفسه أن يقسم أوقات ليله ونهار ويغتنم ما بقي من عمره»،-هو يذكر لك من ناحية خبرته وقد يختلف الناس باختلاف أحوالهم وعاداتهم وانشغالهم- ، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وقت السحر وعلى هذا كان جماعة من السلف رحمهم الله قبل الفجر من أنفع الأوقات لماذا؟ لأنه في صفاء ذهن ليس هناك ما يعكر مزاجه ولا ما يشغله، لكن الإنسان الذي يريد أن يحفظ في قمة مشاغله لن يحفظ شيئا متشتت إلى جانب أن ذاك الوقت لا يوجد من يشغله

 قال: وللبحث الإبكار. بعد صلاة الفجر وفي الحديث: «بورك لأمتي في بكورها([15]) ، وكانت السلف يا إخوة لا ينامون بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ذكر ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين([16])  عن السلف قال: كانوا إذا ما سروا في الليل وصلوا الفجر لا ينامون حتى تطلع الشمس، هذا وقت مبارك وقت تنزل الأرزاق، وبعض الناس إن وفق للقيام لصلاة الفجر أسرع إلى فراشه، وكأنه يغلق يومه هذا الوقت وقت الذكر وقت القراءة وقت المراجعة، فقال: وللكتابة وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل هكذا قسم لك الأوقات كم أربعة فقال: للحفظ الأسحار وللبحث الأبكار وللكتابة وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل، قبل نومك، وعلى هذا يا إخوة من الأخطاء التي يفعلها بعض طلاب العلم أنه ينشغل بإعداد الجدول الذي يأخذ منه عمرا ووقتا كبيرا، وهو يقسم الأوقات تقسيما دقيقا، ثم لا يبدأ به، يسأل هذا ويسأل هذا ويسأل هذا ويلوّن يضع جدول ملون أيضا يكفي أن تعرف هذا الجدول بعمومه متى يناسبك وقت الحفظ، لكن إياك أن تتنازل عن هذا الوقت ولا تكن سريع التخاذل عنه، يعني جاء وقت حفظك صار عادة لك وفي الحديث: «الخير عادة([17]) ، إذًا صار هذا الوقت للحفظ اعتدت عليه فلو جاء شخص قال لك تعال نريد أن نخرج نريد أن نطلع عندي موضوع قل له والله هذا وقت أنا لا أستطيع قد اعتدت على ذلك، صار جزءا من حياتك لكن عندك جدول ثم تدخل جميع هذه المشاغل الضرورية وغير الضرورية، فتزاحم أوقات العلم متى تحصل العلم؟، إذا كان كل شيء يلهيك زيارة تلهيك طلعة تلهيك فسحة تلهيك رحلة تشغلك قال:

إذا كان يلهيك حر المصيف             وكرب الخريف وبرد الشتاء

ويلهيك حسن زمان الربيع                     فأخذك للعلم قل لي متى

 إذًا لابد من الحرص على الأماكن وعلى الأوقات، ولذلك يقول الخطيب البغدادي رحمه الله([18]): وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها، وأجود أماكن الحفظ الغرف،- فكانت عندهم الشيء الذي لا يلهيك لا يشغلك يعني هل يصح أن الإنسان يأخذ كرسيا في وسط السوق ويحفظ، دعك من هذا هل يصح أن يجلس في صالة البيت والناس مجتمعون هذا يذهب وهذا يرجع وهو يريد أن يحفظ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه إذًا لا بد أن تختار المكان المناسب- قال: وكل موضع بعيد عن الملهيات وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطريق وضجيج الأصوات، هذه الأماكن لا تناسب للحفظ أبدا بعضهم يقول: نريد الماء والخضرة والوجه الحسن يعني يريد مكان يعني حديقة أنت تذهب إلى ما يشغلك احفظ في مكان يبعدك عن الملهيات حتى تحصل، ولذلك يا إخوة حتى من قواعد الحفظ التي يبحثها بعض التربويين ما يسمى بالتركيز، التركيز معناه أن تذهب عن المشغلات وهذا نراه حتى في بعض الطلاب في أيام الامتحانات تجده يقرأ المذكرة الواحدة ربما عشرين مرة، وآخر شيء يخطئ في جملة من الأسئلة لماذا؛ لأنه اعتمد على قضية النظر والقراءة دون الفهم والتركيز ولو أنه كان يقظا منتبها بعيدا عن الملهيات عارفا بما يقرأ متفهما لما نظر إليه ما احتاج إلى كثير من الوقت، وبعض الناس يكفيه قراءة مرة واحدة حتى قال لنا بعض مشايخنا قال: كان معنا زميل في الدراسة كنا نجتمع في أيام الشتاء على النار فهو إذا يحفظ فكلما حفظ صفحة أحرقها من كثرة ما يحفظ لا يعود إليها، طبعا هذه هبات لكن المقصود بذلك أن الإنسان يكون متيقظا مهتما أما أن تقرأ وأنت في مكان مزحوم أو تتكلم مع زميلك، وتقرأ قليلا هذا لا ينفع، فقال هذه الأمور كلها ليس بمحمود الحفظ فيها.

 أيضا من أسباب التحصيل ورفع الهمة: أن يشعر طالب العلم في نفسه الانتفاع، إذا وجد أنه انتفع بفوائد فإن هذا يحمسه إلى الانتقال إلى غيرها، ولا يكون هذا إلا بمداومة النظر والتكرار، جاء عن برهان الدين الحلبي فيما ذكره السخاوي([19])  أن برهان الدين قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة، وقرأ صحيح مسلم نحوا من عشرين مرة تكرار، وهذا الأمر لا  يستغني عنه طالب العلم وقد قيل: ما تكرر تقرر، والذي يقرأ مرة واحدة ويكتفي بذلك لن تدوم معه المعلومة في ذاكرته وحفظه، بل هي من أسهل الأمور ذهابا عنه لأن العلم يحتاج إلى تكرار إلى مداومة إلى استمرار.

 الأمر الثالث: حسن اختيار الكتاب: لماذا هذا الأمر يا إخوة؟ بعض الكتب اختيارها سبب لانصراف طالب العلم عن العلم، لا أتحدث عن كتب الضلال والمحدثات لا، أتكلم عن بعض كتب أهل العلم، إذا أخذ طالب العلم كتابا لا يناسب مستواه ربما أدى به ذلك إلى  النفور من العلم، يستصعب المسائل ويجد أنه لا يفهم وأنه لا يصلح لطلب العلم فيؤدي به ذلك إلى النفور عن العلم؛ لأنه ترك أمرا مهما وهو أن يتدرج في تحصيل العلم سواء في القراءة أو في السماع أو في الحضور في الثلاثة الأمور، لا ينفع أن طالب العلم يتجاوز أمر التدرج فيها، إذا كان يسمع لدروس أهل العلم أو كان يحضر أو كان يقرأ في كتبهم لا بد أن ينظر فيما يناسبه هو، فيختار من الكتب أو من الصوتيات ما يناسب حاله ويناسب مستواه.

 وهنا مسألة: لا يقلد طلاب العلم بعضهم بعضا، ما يصلح لزميلك لا يصلح لك، وما يحفظه لا ينفع أن تحفظه أنت، والكتاب الذي يقرأه صديقك لا يصلح لك أن تقرأ فيه، إذًا النظر إلى ما ينفعك أنت وليس إلى القياس على أحوال الآخرين، ربما زميلك قد سبقك في العلم ووصل إلى مرحلة أنت لم تصل إليها، أو عنده برنامج سار عليه وانتفع به لا ينفعك أنت، طيب ماذا أصنع؟ الذي تصنعه أن تستشير في حالك أنت، وتأخذ التوجيه الذي يناسبك أنت، لا أن تجتهد اجتهادا شخصيا فتمر عليك السنون تأتي بعد ذلك، وتقول الحقيقة لا أجد أني حصلت شيء، فبدلا من أن تمضي عليك هذه الأعمار ينبغي عليك أن تبدأ بداية صحيحة حتى تصل وصولا صحيحا، إذًا انظر ما يناسبك أنت و استشر في أمرك أنت، اسأل في حالك في مستواك، فما ينفعك قد لا يكون لغيرك وما ينفع غيرك قد لا ينفعك أنت، إذًا اختيار الكتب التي يقرأها طالب العلم أمر مهم، والسلف كانوا يحرصون على اقتناء الكتب وعلى شرائها وعلى القراءة بما يناسب حال طالب العلم، ولذلك يا إخوة تجد أن العلماء حتى في الفن الواحد يؤلفون بدرجات، بعض طلاب العلم لو قيل له هناك درس في عمدة الطالب لابن قدامة، وهناك درس في المغني يقول: لا المغني، المغني هذا خمسة عشر مجلد، فوائد كثيرة وهو لم يضبط حتى أصول أبواب الطهارة، يغتر لو قيل له هناك شرح الأربعين النووية وهناك قراءة في فتح الباري لابن حجر، وهو بعد لم يضبط حتى أو لم يفهم حتى مختصرات شروح الأحاديث مثل شرح الأربعين أو غيره، فيذهب إلى هذا الدرس الذي لا يناسب مستواه فإما أن يعارك ويعاند نفسه ويصبّر نفسه على ما لا يليق أن يصبر عليه فلا يحصل إلا نتفا من العلم فائدة هنا عبارة هنا وكثير مما قيل لا يدركه ولا يفهمه لكنه يستمر، أو أن ينصرف عن العلم ويرى أن العلم لا يصلح له وهو لا يصلح للعلم، وأن هذا العلم يحتاج له وقت، ويحتاج له عمر ويحتاج له عقل وهو لا يقدر على هذا، هو يريد سندوتشات يريد شيء سريع يشبعه، ما يتحمل الصبر والمعاناة، لا ينال العلم براحة الجسد.

 

 أيضا حسن اختيار الدرس: الانتفاع يا إخوة في الدروس يكون بحسن الاختيار، فإياك وبريق العناوين، أو تنافس الطلاب على درس معين، فيغرك ذلك وأنت ربما لا تعرف الدرس ولا تعرف عنوانه لكن غرك الثناء، وقد يكون الدرس نافعا والمدرس مأمونا لكن هذا الدرس لا يصلح لك، إذًا حسن اختيار الدرس أمر مهم بما يناسب مستواك فتنتفع بذلك.

 أيضا من الأمور التي تعلي الهمة بعون الله سبحانه وتعالى: اختيار الصديق ذي الهمة العالية، إياك وصاحب الهمة الضعيفة، هذا إذا أردت أن تحضر درسا قال نستمع بعدين تريد أن تحضر في حلقة حفظ قال بعدين أنا أسمع لك، يصرفك ما يريدك أن تكون في هذا الخير، هو في نفسه رجلٌ طيب وصالح لكن لا يصلح للمجالسة ولا للمصاحبة، إياك وإياه هذا يصرفك عن الفضائل، ولذلك احرص على أن تصحب من هو معك في طلب العلم يعينك وتعينه أو من هو أعلى منك ممن ينشطك على العلم، وتجتهد معه على التحصيل، وأمر المصاحب حقيقة من الركائز المهمة جدا في باب الهمة في طلب العلم؛ لأن غالب حال الإنسان أنه لا يستطيع أن يسير لوحده لا بد أن يكون له رفيق لكن أحسن اختيار الرفيق، فالرفيق الذي يصلح لمجالس القهوة قد لا يصلح لمجالس العلم، والرفيق الذي يصلح لرحلة قد لا يصلح لمجالس التحصيل، فلا بد أن تمايز بينهما؛ لذلك جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: «اعْتَبِرُوا الرَّجُلَ بِمَنْ يُصَاحِبُ  وَإِنَّمَا يُصَاحِبُ الرَّجُلُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ» ([20]) ، وإياك هنا يا أخي الكريم إياك وتوافق الطباع، فإن هذه من مزالق المصاحبة، توافق الطباع يعني تتوافق أنت وهو في طبع معين مثل ما يجتمع أصحاب هواة الطوابع وهواة العملات وهواة السيارات،  فبعض طلاب العلم يجتمع مع من يؤالفه، من يحب السهر من يحب الرحلة من يحب البحر من يحب المطاعم، قل هذا أفضل رفيق هذا يعرف كل المطاعم، هذا لا تفوت المجالسة معه، فهذه إشكالية توافق الطباع إياك أن تجعلها هي المصاحبة في طلب العلم، المصاحبة في طلب العلم يا من ينشطك في طلب العلم من يكرمك بجميل النصيحة والاهتمام والعناية، وهذا نادر فإن وجدته تشبث به، لا تفرط فيه أبدا احرص عليه ولذلك قال:

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم        ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

 وعلى هذا فيجب الإقلال من مصاحبة ضعيفي الهمة، ضعيف الهمة لا بد أن يحرص عليك إن كنت قوي الهمة، هو الذي يحرص عليك حتى يرفع همته، وبعض الناس يقول أنا أجالس ضعيف الهمة حتى أرفع همته، فما تمر عليها الأيام إلا وهما يريدان من يرفع لهما الهمة، قد ضعفت همته بسبب المجالسة، وهذا الذي يدعوك إلى ضعف الهمة يسانده الشيطان فيعطيك من الصوارف ومن ما يدعوك إلى ترك مجالس العلم وترك التحصيل.

 أيضا من الأمور المهمة: الحرص على ديمومة الطلب، قد نبهنا عليه لكن نفرده هنا لأهميته إياك وكثرة التنقل، يقول ابن القيم رحمه الله([21]) : «العمل بالعلم من أعظم أسباب حفظه وثباته، وَترك الْعَمَل بِهِ إضاعة لَهُ»، وما علاقة هذا بالاستمرار في العلم؟ يا إخوة الذي يستمر في العلم يستمر في العمل، والذي لا يستمر في العلم كم يفوته من أبواب العمل، ولذلك كل عمل يقوم على علم فهو مبني على علم تم تحصيله، هل من الممكن أن الإنسان يطبق سنة لم يعرفها؟ لا يمكن، إذًا عرفت السنة فطبقتها كنت تطبق في دعاء الاستفتاح حديثا واحدا، فعلمت في ذلك خمسة أحاديث، فازداد عملك، كما أن العلم سبب للعمل فالعمل سبب لبقاء العلم واستمراره، لذلك قالوا  هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، كما جاء عن علي رضي الله عنه وأرضاه.

 أيضا من الأمور المهمة التي يحصل بها العلم: البعد عن المخالفات والمعاصي، ونحن في زمن يسهل فيه الوصول إلى المعصية وكثرة الملهيات، والعلم نور يقذفه الله جل وعلا في القلب والمعصية ظلمة، وكلما ازدادت ظلمة المعاصي كلما قل نور العلم، وكلما ازداد نور العلم كلما طغى على هذه الظلمة فذهبت، إذًا أنت طبيب نفسك وأنت أعرف بحالك وفيما بينك وبين ربك جل وعلا لكن لابد أن نعلم أن أمر الذنوب ماحق لبركة العلم، ولذلك جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله» ([22])، يقول علي بن خشرم الله: رأيت وكيعا وما رأيت بيده كتابا قط إنما هو يحفظ، ما كان يحمل الكتاب لأن العلم في الحقيقة ما حوى الصدر ليس العلم ما حوى القمطر، ما العلم إلا ما حواه الصدر، العلم ليس الذي إذا قال لك قائل ما حكم هذه المسألة قلت لحظة تبحث عنها أو تقول لحظة أنظر كتابي، قال: إن كنت في البيت كان العلم في البيت أو كنت في السوق كان العلم في السوق، العلم لا يفارقك هذا هو العلم الذي معك فيقول علي ابن خشرم يقول: رأيت وكيعا وما بيده كتاب قال فسألته عن دواء الحفظ كيف تحفظ؟ قال: «ترك المعاصي ما جربت مثله للحفظ» ([23]) ، يقول بشر ابن الحارث: إذا أردت أن تلقن العلم فلا تعص، ومشهورة الأبيات الواردة عن الإمام الشافعي في قوله:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي        فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم نور        ونور الله لا يؤتاه عاصي

 من أسباب التحصيل ورفع الهمة: النظر في سير العلماء السابقين، يا إخوة النظر في سير العلماء يفتق الذهن ويشحذ الهمة ويوضح الطريق ويسعد الخاطر ويؤنس المهموم ويفرح الراغب ويذهب الوحشة، حين تعلم أن هذا الطريق الذي أنت تسير عليه سار عليه أئمة، سؤال كم في اليوم الواحد يذكر الشافعي رحمه الله في مجالس العلم في الجامعات في المؤلفات؟ كم يذكر أحمد كم يذكر سفيان كم يذكر مالك، نعم ماتوا دفنوا لكن بقيت هذه العلوم، وهل تظنون أن هذه العلوم الوفيرة جاءت من غير اجتهاد أو تحصيل أبدا، فحصلوا العلم يقول سعيد ابن جبير من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أسير مع ابن عباس رضي الله عنهما في طريق مكة ليلا وكان يحدثني بالحديث في الليل قال: فأكتبه في واسطة الرحل على راحلته قال: حتى أصبح فأكتبه يعني على الأوراق.

 ولما تتأمل في حال السلف ما الذي كان يوجع أحدهم ما الذي كان يؤلمه ذكروا لشعبة ابن الحجاج أبو بسطام أمير المؤمنين في الحديث ذكروا له حديثا لم يسمعه، فكان يقول: واحزناه واحزناه متألم، ولذلك جاء عنه أنه قال: إني لأذكر الحديث يفوتني فأمرض، حديث يفوتني أمرض يا إخوة مرضه لماذا؟ ليس لفوات محبوبه ولا لفوات مطلوبه من مأكل أو مشرب لا لفوات العلم يمرض، وصلوا إلى هذه المرحلة العظيمة من محبة العلم ومحبة تحصيله، ولذلك بذلوا الغالي والنفيس، يقول أبو حاتم الرازي([24]) : بقيت بالبصرة ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة -لكن النفقة انتهت- قال: فانقطعت نفقتي، وهو ذهب يطلب الحديث قال: فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء، يبيع الثياب الذي معه شيئا بعد شيء حتى يبقى ويحصل الحديث الذي خرج لأجله، هذه همة عالية وهي تدل على أنهم آثروا ما عند الله جل وعلا وعلموا منزلة العلم، هل كان هناك تجار في أيام شعبة وفي أيام أبي حاتم الرازي وفي أيام سفيان ولا ما كان فيه تجار يا إخوة؟ كان فيه تجار وهل كان هؤلاء الأئمة لا يرون حال التجار ولا يرون انتفاعهم بالمال لا، كانوا يرون ذلك لكن هل كانوا يغرهم ذلك لا، الواحد منهم يحصل العلم خمسين سنة ستين سنة ما يتغير ما يضعف لماذا؟ لأنه علم أن تحصيل العلم أعظم بكثير من تحصيل الدنيا وأمر الدنيا، وكان أحدهم يأخذ من دنياه ما يكفيه وما يعينه على أمر الآخرة.

 ولذلك أيضا من الأمور المهمة التي نحصل بها العلم ونرفع بها الهمة: أن نجتنب المعوقات، كل معوق لا بد أن تجتنبه، ومن أعظم المعوقات عدم تحقق الإخلاص الرياء أو السمعة أو طلب المحمدة من الناس حتى يقال طالب علم يقال هذا ما شاء الله يحضر كذا هذا يحفظ كذا اجعل لك خبيئة من عملك، ليس بالضروري أن يعرف الناس أما حضور المجالس فأمر لا بد منه تستعن بالله سبحانه وتعالى على حضور مجالس العلم، والإنسان إذا حضر مع طلاب العلم خفّ عليه موضوع الرياء أو السمعة أو أنه قصد كذا أو كذا مثل الصائم الذي يصومه في رمضان لا يفكر في قضية أنه صائم لأنه من جملة الصائمين، كذلك طالب العلم إذا حضر مجالس العلم لماذا؟ لأن طالب العلم قد يحصل من العلم وهو لا يريد وجه الله سبحانه وتعالى فيرد ذلك عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» ([25]) ، يعني لا يكون طلبك العلم غاية ما فيه النصب والتعب ليس لك في ذلك أجر بل عليك الإثم في ذلك، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه قال: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء، ويجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم» ([26]) .

 كذلك من المعوقات التي يجتنبها طالب العلم: أن يحرص على العمل بالعلم، وإياه وأن يكون غايته من العلم حفظ المسائل دون العمل بها، فهذا دليل على قبح النية، إذ كيف ما هو المقصود من العلم؟ العمل به ولذلك قد ينصرف بعض طلاب العلم، وهذه مسألة مهمة يا إخوة أنه يغتر بالمسائل وتحقيقها وحفظها عن العمل بها، تجده مجتهد في تحقيق مسألة ليس له نصيب من صلاة الليل ولا الوتر، بل ويفرط في صلاة الفرائض ويفرط في السنن الراتبة وليس له شيء في عبادة الصيام ولا في الصدقة، بل ولا حتى في حسن خلق، هل هذه هي صفات طالب العلم المقبل على الله جل وعلا، الراغب فيما عنده أبدا، تجده يحفظ لكن حفظه وبال عليه، بعض الحفاظ يا إخوة كان أحفظ من الإمام أحمد انظر الإمام أحمد اشتهر بحفظه كان بعضهم أحفظ من الإمام أحمد، لكن ربما اتهم بشرب الخمر هل نفعه حفظه أو مسائل العلم التي ضبطها هو وبال عليه والعلم حجة لك أو عليك.

 أيضا من العوائق: أن يبتعد عن طلب العلم على أهل الضلال والمحدثات والبدع، فإن هذا مما نفر عنه السلف وهو سالك طريقا غير طريق العلماء وغير ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله قال: «أولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ([27]) ، هل تطلب عندهم العلم لا ابتعد عنهم، وأمر البدعة خطير والضلال انحراف، ولذلك كان السلف لا يقبلون أبدا أن يسمعوا من صاحب بدعة صاحب محدثة صاحب ضلال لأن أعظم ما يملكه الإنسان هو الدين لا يعرض دينه لمثل ذلك، ولذلك جاء النهي عن السلف عن أخذ العلم عن الأصاغر وجاء تفسير الأصاغر كما عند ابن المبارك([28])  وغيره قال: أهل البدع.

أيضا في طلبك للعلم إذا تريد أن تكون صاحب همة عالية ابتعد عن الغرور والكبر والتعالي، يقول ابن الجوزي رحمه الله([29]) : أفضل الأشياء التزيد من العلم غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب، العلم يزيد الإنسان ماذا؟ تواضع يقول الشافعي رحمه الله: كلما ازددت علما ازددت علما بجهلي، كلما ازددت من العلم عرفت أن ما ينقصك من العلم الشيء الكثير، لا تظن أنك بتحصيلك لبعض المسائل قد بلغت منزله حتى يأتي بعض طلاب العلم ويقول لا لا، هذه مرحلة عديناها، وهذا لا يصدر من إنسان متواضع للعلم أبدا، قد رأينا بعض الشيوخ الكبار يحضرون لبعض العلماء وهؤلاء الشيوخ الذين هم في هذا المقام طلاب للعلماء يدرسون مطولات الكتب، لكن ربما يحضر للعالم شرح الأربعين النووية ما يزهد ما يقول لا لا درس، أنا أقرأ فيه فهذا ما عرف قيمة مجالس العلم ولا المنافع التي فيها، إذًا لا تغتر وإياك وأن تظن إذا وصلت إلى شيء من العلم أنك قد بلغت الغاية،

جاء عن الإمام أحمد أنه قال([30]) : مع المحبرة إلى المقبرة قالوا الإنسان لا يزال مع محبرته إلى مقبرته فإن بقي شيء من الحبر صب على قبره، يعني إلى نهاية العمر لا يوجد محطة تتوقف فيها تقول الحمد لله بلغت هنا الغاية ويكفي عن القراءة وعن الحفظ، هذا يقوله جاهل لا يقوله طالب علم فضلا عن أن يقوله عالم.

أيضا من الأمور التي يجتنبها طالب العلم وهي متصلة بما سبق: أن يكتفي بضعف الهمة ما عنده همة إذا حضر درسا في الفقه وانتهى من الكتاب قال هذا يكفيني، حضر درس في أصول الفقه مختصر انتهى قال هذا يكفيني عن أصول الفقه، هذا ضعيف الهمة ينبغي له أن يجتنب ذلك يقول الفراء من علماء اللغة ومعروف لدى طلاب العلم يقول: لا أرحم أحدا كرحمة رجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه قال: وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم، ما دام رزقك الله جل وعلا إدراكا وفهما ومقدرة على الحفظ مقدرة على الحضور للدروس مقدرة على القراءة استغل قبل أن يضعف بدنك، أنت الآن في نشاطك في عنفوان النشاط وفي القوة والإنسان يتحدر إلى ضعف استغل أوقاتك الحالية الآنية الآن في ذلك؛ لأن العلم لا ينال براحة الجسد، ولذلك جاء عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: قل لطالب العلم يلبس نعلين من حديد، يعني يريد بذلك الكناية عن المشقة التي سيبذلها والجهد ليس نعلين ناعمين يتمشى بهما، فيها ثقل، لأنك تطلب شيء عظيم، ولذلك يا إخوة هل الذهب معلق على الأشجار كالثمار أم يحتاج إلى مناجم ويحتاج إلى جهد وآلات وتعب حتى تحصل كمية بسيطة جدا لكنه غالي الثمن، وهكذا العلم كلما بذلت جهدا فيه كلما حصلت فائدة أكثر وأنفع.

 أخيرا من نظر في نصوص الشرع وتأمل في سير الصحابة وقرأ في تراجم العلماء في رحلاتهم وفي سيرهم في طلب العلم كان ذلك من أكبر العون له على رفع الهمة والإقبال على العلم بجد واجتهاد، فراحة الجسد حقا في علو الفكر وفي السلامة و في الرأي وفي السداد وفي النظر، وفي مضي الأوقات و في محاسن الطاعات،

وصدق الناظم إذ قال:

العلم أحلى وأغلى ما له استمعت           أذن وأعرب عنه ناطق بفم

 أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد، أسأل الله جل وعلا لي ولكم علو الهمة، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يوفقنا لمرضاته وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا، إنه الولي على ذلك والقادر عليه.

 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

([1]) صحيح مسلم (612).

([2]) رواه ابن ماجه (925).

([3]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/114).

([4]) الديباج على مسلم (2/266).

([5]) تذكرة الحفاظ للذهبي (3/35).

([6]) مفتاح دار السعادة (1/109).

([7]) مفتاح دار السعادة (1/142).

([8]) المصدر نفسه (1/142).

([9]) صيد الخاطر (ص281).

([10]) صيد الخاطر (ص247).

([11]) طبقات ابن سعد (5/120)

([12]) تاريخ دمشق (25/355).

([13]) صيد الخاطر (ص326).

([14]) فضل علم السلف على الخلف (ص6).

([15]) رواه الطبراني في الأوسط (754)، وهو في صَحِيح الْجَامِع(2841).

([16]) مدارج السالكين (1/459).

([17]) رواه ابن ماجه (221)، وهو في صَحِيح الْجَامِع (3348).

([18]) الفقيه و المتفقه (2/207).

([19]) ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (1/141).

([20]) شعب الإيمان للبيهقي (8993).

([21]) مفتاح دار السعادة (1/172).

([22]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 196).

([23]) سير أعلام النبلاء (9/151).

([24]) الجرح والتعديل (1/363).

([25]) رواه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252).

([26]) رواه ابن ماجه(260)، وحسنه الألباني.

([27]) رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665).

([28]) جامع بيان العلم وفضله (1/ 612).

([29]) ينظر: صيد الخاطر (ص127).

([30]) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/54).