وصاحبهما في الدنيا معروفا
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وبعد؛
فإن الله جعل في فطر أهل الإيمان شكر الخلق ومكافأتهم على إحسانهم، وهم يعلمون أن الله تبارك وتعالى يشكر لمن يشكر لخلقه، وأن الله تعالى كما أنه يجازي المحسنين فإنه يجازي الشاكرين للإحسان، قال الله تبارك وتعالى: ﵟهَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ ٦٠ﵞ ﵝالرَّحۡمَٰن : ﵐﵖﵜ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»([1]) ، وذلك أن شكر الناس على إحسانهم دليلٌ على اعتراف العبد بنعم الله تعالى عليه، فإن المحسن لا يستطيع أن يحسن إلى غيره إلا بتوفيق من الله تبارك وتعالى أولاً، ثم إنه إنما يحسن إلى الخلق بما تفضل الله تعالى عليه به من تلك النعمة التي أحسن بها إلى خلقه، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ للهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا ، نَزَعَهَا مِنْهُمْ ، فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ» ([2]) ، بل إن شكر الإحسان عند أهل الإيمان يتعدى ليكون الإحسان حتى في الدواب، فعن عمران ابن حصين رضي الله عنه: « أن امرأة من المسلمين سباها المشركون، وكانوا أصابوا ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فوجدت من القوم غفلة، فنذرت إن الله أنجاها عليها أن تنحرها، قال: فأنجاها، وقدمت المدينة، فذهبت لتنحرها فمنعها الناس، وذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئسما جزيتيها، ثم قال: لا وفاء لنذر لابن آدم في معصية، ولا فيما لا يملك»، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حتى الدابة يحسن إليها؛ لأن هذه الدابة كانت سببا في أن نجت هذه المرأة من السبي ومن المشركين.
وإن من أعظم الشكر لله تبارك وتعالى يكون في أداء الشكر لعباده لمن أحسن من العباد، ومن أعظم ذلك الشكر لمن كان سببا في وجود العبد، وهو شكر إحسان الوالدين إلى أولادهما، يقول الله تبارك وتعالى: ﵟأَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵔﵑﵜ أي: اشكر لله تعالى ثم اشكر لوالديك فقرن شكره بشكرهما، وقال في الآية الأخرى: ﵟوَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵒﵜ ، ولذا كان الإحسان إليهما من أعظم الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه تبارك وتعالى، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سبيلِ الله»([3]) ، والبر في اللغة هو الخير قال أهل العلم البر: اسم جامع لكل أبواب الخير البر، فيكون معنى بر الوالدين: جماع أبواب الإحسان إليهما بجميع صور الإحسان وطاعتهما، وفعل كل ما فيه رضاهما مما لا يكون معصية لله تعالى.
وهنا في الحقيقة يحتاج الإنسان إلى وقفة في تأمل معنى بر الوالدين، وذلك أنه لما ذكرنا أن بر الوالدين هو جماع أبواب الإحسان إليهما بجميع صور الإحسان وطاعتهما، وفعل كل ما فيه رضاهما مما لا يكون معصية لله تعالى، فأنت تعلم أن الإحسان إلى الوالدين يكون بابه واسعا جدا، فتبسمك في وجه والديك من برهما، وطاعتهما فيما تكره من برهما ،ورفعك للشيء قبل أن يرفعه والدك من برهما، ووضعك له إن أراد أن يضعه من برهما، تقديمك له في المشي من برهما، فهو اسم جامع لجميع أبواب وصور الإحسان، ويدخل كذلك في هذا البر طاعة الوالدين وفعل كل ما فيه رضاهما مما لا يكون معصية لله تعالى، وهذا كذلك مما ينبغي أن يلاحظه المؤمن وأن يلتفت إليه حق الالتفات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يتقربوا إليهم عز وجل بجميع صور التقرب إليه تبارك وتعالى مما يكون خيرا للعبد في دينه، ولذلك كان هذا الباب هو من أقرب الأبواب وأسهل الأبواب وأيسر الأبواب إلى العبد، فالأصل في المؤمن أنه يعيش مع والديه، فينشأ في كنف والديه ويكبر في كنف والديه، ويبقى عند والديه إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى أمرا آخر منه سبحانه وتعالى فيكون سببا لانفصال الولد عن عن والده، والله سبحانه وتعالى يقول في الآية: ﵟوَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَاﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵒﵜ ، فنبه الله سبحانه وتعالى أن بلوغ الوالدين للكبر يكون عند الأبناء، قال أهل العلم: وهذا يعني قيام الأبناء بآبائهم إذا كبروا، فيكون الآباء مع أولادهم في حياتهم وفي معيشتهم إذا كبروا.
ولذلك كان هذا من أقرب الأبواب لأن المؤمن يكون مع والديه يعيش معهما وينظر إليهما، ينظر في حاجتهما وكذلك هو من أسهل الأبواب وأيسرها على من وفقه الله سبحانه وتعالى وأعانه على هذا الباب العظيم، وإذا أردت أن تعرف حقيقة أن جميع أبواب الإحسان تدخل في الوالدين وفي مقابله عرفت أن العقوق هو ضد البر، فهنا يجرك ذلك إلى أن العقوق الذي هو ضد البر أنه اسم جامع لأبواب ترك الإحسان إلى الوالدين، ومعصيتهما وفعل أي أمر ليس فيه رضاهما مما لا يكون معصية لله تعالى، فسبحان الله يكون هذا يدخل فيه كل ما فيه ترك للإحسان إلى الوالدين، أو إغضاب لهما أو فعل أمر ليس فيه رضا لهما أو في معصيتهما مما لا يكون معصية لله تبارك وتعالى.
ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنه قد أبكى والديه، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرجل أنه قد أبكى والديه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهذا قد خرج إلى الهجرة- كما جاء في حديث عبد الله ابن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه، قال: جئت لأبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان،-وهو خارج إلى طاعة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم-: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»، ولذلك الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﵟفَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵒﵜ ، فإذا كان نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يُقال للوالدين أف فلأن ينهى عما هو أعظم من ذلك من باب أولى، وحتى تعرف معنى قول الله تبارك وتعالى ﵟفَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖﵞ أنقل لك ما قاله أهل العلم في تفسيرها، فقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير أن أف لها خمسة معان قال: «فأما معنى أُفٍّ ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: أن «الأف» الاحتقار والاستصغار، من «الأَفف» ، والأَفف عند العرب: القِلَّة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: أن «الأُفَّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى «الأف» : النَّتَن، والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقَل» ([4])، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى: ﵟوَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاﵞ قال: «لا تنفض ثوبك أمامهما فيصيبهما الغبار» ([5]) ، والله سبحانه وتعالى لما قال في كتابه: ﵟوَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ ﵞ، قال بعض أهل العلم: «وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس. ولما جعل الله الأبوين مظهر إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة، وسبب الوجود –الوالدين- دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة، ولأنه ليس بموجد حقيقي، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» ([6])، ومن العجب أننا في زمان نحتاج فيه إلى الإكثار من تنبيه الناس على حقوق لوالدين وعلى وجوب بر الوالدين والإحسان إلى الوالدين وطاعة الوالدين وصلة الوالدين وزيارة الوالدين وللأسف، ويقبح هذا الأمر لما تعلم هذا التذكير يحتاجه حتى بعض من ينتسب إلى التدين وللأسف، يقول الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «فإني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين، ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات، وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات، ويقطعون الأرحام التي أمر الله سبحانه بوصلها في الذكر، ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر، وربما قابلوها بالهجر والجهر» ([7]) .
يقول الله عز وجل في كتابه: ﵟوَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ١٤ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٥ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵔﵑ - ﵕﵑﵜ هذه الآيات من بديع كلام الله تعالى في كتابه الكريم، وقد حوت مسائل وفوائد جليلة،قد جمع الله سبحانه وتعالى فيها ما يجب على جميع الخلق في والديهم وما أوجبه الله سبحانه وتعالى في أعناق الناس اتجاه والديهم، وقد جمعت كل ما يجب على العبد أن يقوم به من الحقوق إلى الوالدين، فالله سبحانه وتعالى أخبر بوصيته إلى الإنسان وهو قد أخبر هنا سبحانه وتعالى أن هذه الوصية هي لجميع بني الإنسان لا يخرج منها أحد ولا يستثنى منها أحد، فكانت هذه الوصية هي لجميع الناس ولجميع الخلق قال: ﵟوَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ ﵞ، ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﵟ بِوَٰلِدَيۡهِ ﵞ ونبه سبحانه وتعالى أن وصيته سبحانه وتعالى إلى الإنسان هي وصيةٌ بالوالدين، فالله سبحانه وتعالى قد أكد هذه الوصايا، وبين أسباب تلك الوصايا منه سبحانه وتعالى بما أودعه في هاتين الآيتين من ذكر أسباب الوصايا وآداب المعاملة مع الوالدين مع أن الناظر قد يرى في ضمن هذه الآية وصية خاصة بالأم كما سيأتي ذكر ذلك وبيانه، وإذا تأملت كذلك في الآية التي قبلها رأيت أن الله سبحانه وتعالى قد نهى فيها عن الشرك بالله عز وجل، وإخباره بأن الشرك به تبارك وتعالى ظلمٌ عظيم، والشرك كما هو معلوم هو أعظم ما حرمه الله سبحانه وتعالى على بني الإنسان، ثم قال الله سبحانه وتعالى لما كان شكره سبحانه بتنزيهه عن الشرك في العبادة أوصى سبحانه بني الإنسان ببر الآباء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أسبق بالإحسان إلى الإنسان، ثم إنه قد جاء بعد ذلك الإحسان إلى الوالدين، وذلك لما لهما من المنزلة والفضل في سبب وجود العبد، وقد جاء عن بعض أهل العلم أن هذه الآية قد جاءت ونزلت في قصة إسلام سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه وما حصل له مع والدته، وهذا مما تكلم فيه جمع من أهل العلم وضعفوا المعنى في ذلك من أنه سبب لنزول هذه الآية، وإنما أنبه على ذلك لأن الآية عامة وخصوصا أنها جاءت وقد سبقتها وصية لقمان لابنه في ترك الشرك بالله سبحانه وتعالى.
ثم جاء التنبيه من الله سبحانه بوصية خاصة بالأم والوالدة فقال سبحانه وتعالى: ﵟحَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ﵞ ، من المعلوم أن المرأة إذا حملت فإن ذلك الحمل يكون فيه التعب وفيه الثقل وفيه الآلام، وفيه كثير من الأمور التي لا يتيسر معها للمرأة أن تقوم بحاجتها كما كانت تقوم بها حال عدم وجود ذلك الجنين في بطنها، ولذلك هذا الضعف الذي يصيب المرأة وهذه الآلام هي من أسباب أن يكون الإنسان بارا بوالديه والتي من أجلها أمر الله سبحانه وتعالى ووصى الإنسان بوالديه، وليس هذا هو السبب الوحيد ولا هو الأمر الوحيد الذي لأجله أوصى الله سبحانه وتعالى هذه الوصية العظيمة بالوالدين أو بالأم خاصة، بل هي أحد الأسباب وأعظمها ولكنك إذا تأملت في ذكر هذه القضية وهي حمل الأم بالولد، فإنها تضمنت ذكر سبب وجود الإنسان على وجه الأرض وهو هذا الحمل الذي جاء من الوالدين لكن لما كان الأثر والوهن والضعف والألم في ذلك على الأم وعلى الوالدة أكثر من الأب كان التنبيه على حمل الوالدات وحصول الوهن وحصول ما يتبع ذلك من الرضاعة، ولذا أتبعه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﵟأَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ﵞ فقوله سبحانه وتعالى: ﵟحَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ ﵞ هو في حقيقته تنبيهٌ على فضل الوالدين وإن كان التنبيه فيه أخص بالوالدة أكثر من الوالد؛ لأن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﵟوَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ ﵞ فأخبر الله سبحانه وتعالى أن العبد قد يحصل له نوع من العناء في معاملته مع والديه من جهة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن العبد قد يحصل له من والديه الأذى حتى في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأنهما قد يعارضانه في إقباله على ربه سبحانه وتعالى، وتأمل أن الله سبحانه وتعالى أخبر بالمجاهدة هنا، والمجاهدة هي الإلحاح الشديد وشدة السعي منهما في أن يكون الولد مشركا بالله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى أمر العبد بعدم طاعة والديه فيما يسعيان ويلحان فيه ويسعيان من الشرك به سبحانه وتعالى، ولكن مع ذلك ومع علم العبد بأنه ليس ثمَّ ذنب أعظم من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وليس ثمَّ أقبح في صفة بني الإنسان من أن يكونوا دعاة إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر في ذلك أن يكون حال الأبناء مع أولئك الدعاة إلى الشرك بالله عز وجل مع شدة سعي وإلحاح أن تكون المصاحبة في الدنيا بالمعروف، والمصاحبة يراد بها المعاشرة، والله سبحانه وتعالى قد أخبر مصاحبة الولد لوالده، والمصاحبة تقتضي الملازمة بين الولد ووالديه وأن يكون الحال شدة ما يحصل من المعاشرة بالحسنى و كثرة التواصل بين الوالد وولده قال: ﵟوَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ ﵞ ، والمعروف كما هو معلوم كل ما يؤلف من الخير ولا يستنكر، وذلك بحسن المعاملة والمطاوعة والإحسان إليهما وطاعتهما فيما يأمران فيما لا يكون معصية لله تبارك وتعالى، وإذا نظرت حقيقة في هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر عن ما يجب على العبد المؤمن اتجاه والديه إذا كانوا من أعظم الدعاة إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى ولم يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ما يجب على العبد المؤمن اتجاه والديه المؤمنين، وإنما اقتصر ذكره سبحانه وتعالى لحال المؤمن مع والديه إذا كانوا على الشرك بالله سبحانه وتعالى بل إذا كانوا دعاة إلى الشرك بالله عز وجل، فعلمت هنا أن وصية الله سبحانه وتعالى بمصاحبة الوالدين بالمعروف في هذه الحياة الدنيا تكون في جميع أحوال الوالدين سواء كانا على الشرك بالله سبحانه وتعالى بل إذا كانا دعاة إلى الشرك بالله أو كان الوالدين على الإيمان بالله تبارك تعالى، وإنما نبه الله سبحانه وتعالى على الحال الأسوأ والحال الأدنى والحال الذي تنفر منه النفوس من هذا الوصف، تنفر منه نفوس أهل الإيمان ليعلم العبد أنه هذا هو ما يجب عليه في جميع أحواله مع والديه، سواء كانا على الإيمان بالله أو كانا على الشرك بالله تبارك وتعالى.
وتبقى هنا قضية مهمة ونحن ذكرناها مرارا خلال هذه المحاضرة، وهي في قول الله تبارك وتعالى: ﵟإِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵒﵜ ، وفي قول الله سبحانه وتعالى: ﵟوَصَاحِبۡهُمَاﵞ، وهذا التنبيه هنا في الحقيقة يجب أن يعتبر فيه وينظر فيه كل من كان لديه والدان لا زالا على قيد هذه الحياة وعلى ظاهر هذه الأرض أيًّا كان حالهما، لا شك أن الحياة لها أجل ولها أمد تنتهي وتنقضي معه، وكثير من الناس يتصور حقيقة أن الدين سوف يؤخذ من العبد في يوم ما، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يرد هذا الدين سواء طال الزمان أو قصر الزمان، لذلك كان ذنب عقوق الوالدين هو من أعجل ما يعجل الله سبحانه وتعالى به، والذي ينبهك على شناعة هذا الأمر أنك إذا علمت أن الله سبحانه وتعالى قد قرن بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده سبحانه وتعالى، فكذلك قد قرن الله سبحانه وتعالى عقوق الوالدين بالشرك بالله تبارك وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ألاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رسولَ اللهِ. قَالَ: «الإشْراكُ باللهِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»([8]) ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما يكون من الدين الذي يرد إلى العبد في معاملته مع والديه مما يكون من معاملة أولاده معه قال: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» ([9]) ، ولا ينبغي للعبد أن يستهين حقيقة في هذه القضية، والواجب عليه أن يجعل حياته مع والديه نصب عينيه؛ لأنها ستكون هي حياة أولاده معه، فكن لوالديك كما تحب أن يكون أولادك معك، وهي كما يقال صورة قد قدمت لك تعرف بها كيف سيعاملك أولادك إذا كبرت، حياتك اليوم مع والديك صورة قد قدمها الله سبحانه وتعالى لك تنظر فيها وتتأمل كيف ستكون حياتك مع أولادك لاحقا، وكيف سيتعامل معك أولادك والجزاء من جنس العمل.
الأحاديث والآيات الواردة في بر الوالدين كثيرة حقيقة، وكذلك في عقوق الوالدين، وليس المقصود هنا حقيقة الخوض في تفاصيل الكلام عن البر وعن العقوق والأحاديث الواردة في ذلك، وإنما المقصد هنا التنبيه على ما مر ذكره من الأصول العامة التي تتعلق بمعاملة الولد مع والديه، وما أوجبه الله سبحانه وتعالى لهما من الحقوق.
ولا يفوتني هنا تنبيه حقيقة لعلي أختم به: وهو أن كثير من الناس وللأسف حقيقة أقولها وللأسف تجد أن له معاملة حسنة وجميلة مع والدته ومع أمه أكثر مما تكون له من المعاملة الحسنة مع والده مع أبيه، وتجد له قربا من والدته أكثر مما يكون من القرب مع والده، لا شك أن هذا من البر الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، وخصوصا مع تقديم الله سبحانه وتعالى لبر الأم على بر الأب لما ذكرناه، لكن أن يكون الحال في التعامل مع الوالد وفي اعتبار منزلته ومكانته مكانة عادية فهذا لا شك مما يحتاج الإنسان أن يراجعه في نفسه، قد لا يكون ذلك حقيقة لسان المقال، وقد لا يقوله الإنسان في مقاله لكن إذا تأملت في حاله وجدت أن هذا الأمر موجود حقيقة وهو عنوان لمعاملته مع والده، إذا نظرت في تعامل بعض الأولاد مع الوالدة تجد الكلام الحسن والكلام الجميل والتلطف في المعاملة، حتى قد تجد في بعض الناس الكلام الذي يبين محبة الوالدة وفضلها ومكانتها، لكن لا تجد مثل هذا الكلام في كثير من الأسر وللأسف يحصل مع الوالد ومع الأب، وهو ضرب من العقوق وللأسف للوالد، وليس أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببر الوالدة وتقديم الوالدة حقيقة في تقديم الوالدة في البر، معناه بأي حال من الأحوال التقصير في بر الوالد، ولذلك الصواب فيما يتعلق بمعاملة الأبوين أن تقدم الأم في جانب البر، وأن يقدم الأب في جانب الطاعة مع وجوب طاعة الأم ووجوب بر الأب، فهي أمور لا تنفك طاعة الأب مقدمة على طاعة الأم وبر الأم مقدم على بر الأب، و الواجب الجمع بين هذا كله، فيطيع أباه وأمه ويبر أباه وأمه، والسعيد الموفق حقيقة من جمع الله سبحانه وتعالى له بين طاعة والديه وبر والديه، وإنما يحصل التقديم لبر الوالدة على الوالد ولطاعة الأب على طاعة الأم فيما إذا كان هنالك ثمَّ تعارض ونوع من التعارض، وإلا فليس الإنسان بمأمور بالتقصير في طاعة الأم وليس الإنسان بمأمور بالتقصير في بر الوالد.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من البارين بوالديهم أحياء وأمواتا، وأن يرزقنا الفقه في دينيه، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك، والله أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) رواه أحمد (21838).
([2]) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (5162)، وهو في صَحِيح الْجَامِع (2164).
([3]) رواه البخاري (2782)، ومسلم (137).
([4]) زاد المسير(3/18).
([5]) زاد المسير(1/84).
([6]) قاله محمد الطاهر بان عاشور في التحرير والتنوير (15/68).
([7]) بر الوالدين (ص1).
([8]) رواه البخاري (2654)، ومسلم (143).
([9]) رواه الترمذي (2511)، وأبو داود (4902)، وابن ماجه (4211).