وبالحق أنزلناه وبالحق نزل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد.
فنجتمع ونلتقي في هذه الليلة المباركة في هذه المحاضرة والتي هي بعنوان (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل).
* القرآن الكريم كما هو معلوم هو كلام الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، والله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى هو الحق سبحانه عَزَّ وجَلَّ فمن صفات الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أنه الحق، قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في كتابه الْكَرِيمِ قال: ﵟذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٦ﵞ ﵝالحَج : ﵖﵜ، فالله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حق في كل أمره ونهيه وخبره سبحانه، وهو الحق في استحقاقه بأن يُعبد وحده سبحانه، وهو الحق سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فيما يتصف به من صفات الكمال التي لا تليق إلا به تَبَارَكَ وتَعَالَى، فهو سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حقٌّ في كل شَيْء، في ذاته سبحانه، وفي صفاته، وفي أسمائه تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَمِنْ ذلك أنه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الحَقُّ في أحكامه، وفي أوامره، وفي نواهيه تَبَارَكَ وتَعَالَى.
وهذا الوصف الذي اتصف به ربنا تَبَارَكَ وتَعَالَى يترتب عليه النظر إلى أمورٍ عِظام، وذلك أن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لما كان حقًّا في كل شَيْء، في ذَاتِهِ، وفي أسمائه، وفي صفاته، فإن هذا الأمر يلزم منه أنّ كل ما كان منه تَبَارَكَ وتَعَالَى فهو حق، ومن ذلك كلام الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، فكتابه عَزَّ وجَلَّ الذي تكلم به رَبَّنا، كتابٌ عظيم أُحكمت آياته، محكمٌ في مبانيه، محكمٌ في معانيه، محكمٌ في مقاصده، محكمٌ في نظمه، محكم في ترتيب سوره وحروفه، يَقْتَضِي الكمال المطلق لله تَبَارَكَ وتَعَالَى.
* فإن القرآن الكريم دالٌ على كمال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، قال الله عَزَّ وجَلَّ: ﵟوَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٖ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡ كَفَّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَأَصۡلَحَ بَالَهُمۡ ٢ﵞ ﵝمُحَمَّد : ﵒﵜ.
فأخبر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أنه أنزل الحق من عنده تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهو هذا القرآن الكريم، الذي جمع الخيرية كلها بين دفتيه، وأنّ الواجب على أهل الإيمان أن ينظروا في كتاب ربهم تَبَارَكَ وتَعَالَى على هذا الاعتبار، وعلى هذا النسق، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى دين الإسلام، أغضوا عن أمرٍ عظيم، مما أمر الله تَبَارَكَ وتَعَالَى به، وهو من الحقوق الَّتِي أوجبها سبحانه في كتابه الكريم، ومن ذلك ما قاله بَعْضُهُم:
ولو أنّ ما بي مِن جَوىً وصَبَابةٍ *** على جَمَلٍ لم يَدخُلِ النارَ كافرُ
وهو قد يشير هنا إلى قول الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﵟوَلَا يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلۡخِيَاطِۚ ﵞ [الأعراف:40]، وهو يريد بذلك نفي دخولهم الجنة، وهذا مما لا ينبغي أن يُتعامل به كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَالسَّبَبُ في ذلك حقيقةً هو إعمال العقول في كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى على وجهٍ يكون فيه العقل حاكمًا على كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، والله قد أمر عباده بأن يجعلوا كتابه تَبَارَكَ وتَعَالَى حاكمًا على العقول.
ولذلك أمر الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في كثير من آياته عباده بأن ينظروا في هذا القرآن، وفي ملكوت الله تَبَارَكَ وتَعَالَى وفي خلق الله عَزَّ وجَلَّ، وهذا النظر هو نظرٌ تابعٌ للأصل الذي به خلق الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الخلق، والذي حاج الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى به المشركين في إشراكهم بالله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ونفيهم الألوهية عن الله تَبَارَكَ وتَعَالَى على وجهٍ يكون فيه الانتقاص من الله عَزَّ وجَلَّ، ومنح شيءٌ من خصائصه تَبَارَكَ وتَعَالَى لغيره ممن لا يستحق تلك الخصائص فيكون بذلك وقوعًا في الشرك والعياذ بالله تَبَارَكَ وتَعَالَى.
ولذلك كان مما يجب أن يُعلم أن القرآن الكريم الذي أنزله الله تَبَارَكَ وتَعَالَى على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ هذا الكتاب الذي يُتلى منذ ذلك الحين، وسيكون كذلك إلى أن تقوم الساعة، أنه كتابٌ لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة، كما يقول أهل العلم، "هو كِتَابٌ لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الْخَاصَة"، وأهل الإيمان يسعون في تفهّم كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى سعيًا حثيثًا، لعلمهم أَنْ هذا الكتاب قد حوى من العلوم العِظام التي أودعها الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فِيْهِ.
فهو كلام الله سبحانه، وهو أمر الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهو نهي الله عَزَّ وجَلَّ، وهو وصف الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهو الدعوة إلى التوحيد، وهو النَّهْيُ عن الشرك، وهو الدعوة إلى حسن الجوار، وحسن العَمَل، وحسن القصد، وحسن الألفة، وحسن المعاملة مع الخلق، فهو كتابٌ عظيم في كل ما حوى.
لكن كان الواجب على أهل الإيمان أن يجعلوا ذلك على وفِق ما أمر الله تَبَارَكَ وتَعَالَى به، فإن العقول تتفاوت في أفهامها، وفي مطالبها، فمن الناس من يوفّقه الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لفهم مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى من كتابه، ومن الناس من يضله الله تَبَارَكَ وتَعَالَى عن فهم مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في كتابه الْكَرِيمِ؛ ولذلك كان الواجب أن يكون ذلك على وفق ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن العقول قد دَلَّت أهل الشرك على أن الشرك بالله تَبَارَكَ وتَعَالَى هو محضُ القربة إلى الله عَزَّ وجَلَّ، وأنّ من أشرك بالله تَبَارَكَ وتَعَالَى فهو متقربٌ إلى الله عَزَّ وجَلَّ طالبٌ منه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى القربى، ويجعل في ذلك تقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى على غير ما أمر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بهِ.
* قال الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﵟتَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ١ إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ٢ أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ ٣ﵞ [الزمر 3:1].
فأخبر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن هؤلاء اتخذوا أولياء من دون الله تَبَارَّكَ وتعالى وأن ذلك من الشرك الذي نهى الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَنْهُ؛ ولذلك من هاهنا تعلم أن العقول تتفاوت في أفهامها، وإذا كان الرد واجبًا أن يكون إلى كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يُفهم حقيقةً من أن الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل كتابه الكريم، هذا الكتاب المبارك جعله الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فيه من حُسن النظم، وإحكام النظم الذي به يُفهم مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى والذي يدلك على ما يجب على العبد أن يفهمه من كتاب الله عَزَّ وجَلَّ دون النظر إلى قضايا لم تكن على طريقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولم تكن من هدي أصحابه رضي الله عَنْهُمْ.
* كذلك مما يُشار إليه هنا أنّ الناظر في كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى يجد أن كتاب الله عَزَّ وجَلَّ قد جمع الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فيه إجمالًا وبيانًا، فهو يجمل وَيُبَيِن، فإذا نظرت في مواضع أن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قد جعل بعض القضايا وبعض المَسَّائِل، وبعض الأخبار فيها من الإجمال، فإن حق تلك القضايا أن يُنظر فيها فيما جُعل لها من البيان، فالبيان فيها إما أن يكون من كتاب الله، أو من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
1 يقول الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في كتابه الْكَرِيمِ: ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِﵞ [آل عمران:7].
فالله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أخبر أن في القرآن تشابهًا وإحكام، وأنّ هذا القرآن فيه ما هو محكمٌ بيّنٌ واضح، وهو البيان الذي بَيّنَ الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى به أحكامه بيانًا لا يحتاج إلى غيره مما يبينه، وأخبر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن ثمة آيات هي من المتشابه الذي يجب فيه أن يُرد إلى البين الواضح المحكم، وأنّ سبيل أهل الإيمان، الإيمان بالمحكم والمتشابه، ومن سبيلهم رد المتشابه إلى المُحْكَم.
* ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عَنْهَا: «إذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»([1])، قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗﵞ [آل عمران:7].
يقول ابن كثير رحمه الله تَعَالَى: "يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباهٌ في الدلالة على كثيرٍ من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِﵞ [آل عمران:7].
أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، إلى آخر كلامه رحمه الله تَعَالَىٰ.
* ولذلك تأتي هنا قضية مُهِمَة؛ وهي ما يُعرف اليوم بتجديد الفهم في كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى وتجديد الفهم لأحكام هذا الدين، خطاب التجديد له منحيان لابد أن يُفرّق بَيْنَهُمَا:
المنحى الأول: هو التجديد لهذا الدين بأن يكون بترك الفهم الذي كان عليه أهل العلم، وخصوصًا ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستخراج معاني وفهوم جديدة، لم تكن مَعْرُوفَة عندهم، أو لم تكن على طريقتهم، وهذا ليس مما أمر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى به، ولا ما أمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي يترتب على هذه القضية مسألةٌ عُظمى، وهي نقض كثير مما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
فإن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قد أمر في كتابه أن نرجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في فهم كلام الله تعالى ومراده عَزَّ وجَلَّ قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى:
ﵟوَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ﵞ [النساء:115]، ويقول الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﵟفَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ ﵞ [البقرة: 137]، فهذا ميزانٌ عظيم قد جعله الله تَبَارَكَ وتَعَالَى لمعرفة الصواب من الخطأ في فهم هذا الدين، وقد قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في الآية الأخرى: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ﵞ [التوبة:100].
وأما المنحى الثَّانِي: الذي قد يُطلق فيه التجديد، أو ما يُعرف بتجديد الخطاب الديني؛ فهو أن يكون ثمة مسائل ترجع إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ من طريقتهم في الدعوة إلى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى وترغيب الناس في هذا الدين، وابتكار ما يكون فيه من أسباب دعوة الناس دون الإخلال بالقواعد العظمى ومسلّمات وثوابت هذا الْدِّيْنِ.
* ومن ذلك ما نحن فيه الآن مثلًا من بثّ هٰذِه الْمُحَاضَرَّةِ عَنْ طَرِيْق هٰذِه الْوَسَّائِل الَّتِي تُبث دُوْنَ الوجود، الحضور إلى المسجد، أو نحو ذلك، لكن أن يكون التجديد كما ذكرنا فيه هدمٌ للمسلّمات، فليس هذا مما أمر الله تَبَارَكَ وتَعَالَى به، ولا أمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي يتأمل حقيقةً في أنّ القرآن قد جاء في كثير من ألفاظه أو في بعضها جاء على نحو من الإيجاز والاختصار الذي لا يخلُّ بالمعنى المراد والمطلوب، ويبلّغ مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وقد يحتاج إلى بَيَانْ.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالبيان كله لكتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وليس ثَمّ أمر يحتاج إليه الناس من البيان في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ إلا وقد بَيْنَّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا من القرآن غامضًا على أصحابه مما يُحتاج إلى بيانه لهم مِمَّا يترتب عليه العَمَل، ولم يستأثر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بعلم، والذي يجرّ إلى الكلام على هذه القضية حقيقةً، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلّغٌ عن الله تَبَارَكَ وتَعَالَى مبينٌ مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى داعٍ إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، وإلى العمل بما فِيْهِ.
وإذا كان ثَمَّ أمرٌ لم يبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يكون غَيْرِ عاملٍ بما أمر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى به في قوله: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗﵞ [المائدة:67]، كذلك مما يشار إليه أنّ هذا القرآن قد أنزله الله تَبَارَكَ وتَعَالَى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لغاية عظيمة، وهي غاية الهداية به، وهو كتابٌ داعٍ إلى إصلاح الخلق وإصلاح معايشهم؛ ولذلك قد أخذ أهل العلم من كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى المنهج الأعظم، منهج الدعوة إلى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى والمنهج الأعظم لمعرفة ما يجب أن يُفقه من دعوة الناس وهدايتهم إلى الحق، وإبعادهم عَنْ الغواية والضلالة.
- كذلك مما تجدر الإشارة إليه أنّ الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى جعل هذا الكتاب كتابًا يجب أن يُرجع إليه في أخذ أحكام الْدِّيْنِ؛ فهو الأصل الذي يرجع إليه الدين كله، حتى السنة، سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالدين كله راجعٌ إلى كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ولذلك كانت السنة شارحةً مبينةً لكتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، موضحةً لَهُ؛ ولذلك كان الشافعي رحمه الله يقول لبعض أصحابه ما ثَمَّ حكم، أو بمعنى كلامه إلا ودليله في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، وهو يريد بذلك رحمه الله تعالى أن أصل الأحكام والمسائل راجعٌ إلى كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى والتفصيل هو الذي يكون في سنة النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
- كذلك مما يشار إِلَيهِ؛ وهي أنّ القرآن كله متواتر، وليس شيءٌ من القرآن مما يُروى ويُتناقل إلا مَا يتعلق ببعض الروايات الشاذة، فهي على خلاف الأصل، وإلا فالأصل في القرآن أنه كله متواتر، فكل ما في كتاب الله تَبَارَكَ وتَعَالَى يرجع إلى هذا المعنى، وهذا الأصل، وذلك يفيدك أمرًا مهمًا، وهو ما قد يُثار بين الفينة والأخرى من الكلام على أن بعض القرآن قد أنكره بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو على غير الفهم، وعلى غير التفسير في هذا الباب والكلام فيه يطول كما جاء في سورتي الفلق والنَّاس عن ابن مسعود رضي الله عَنْهُ.
الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أخبر أنه حافظٌ لهذا القرآن، قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﵟإِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَﵞ [الحجر:9]، وهذا يستلزم حفظ كل ما يكون من أسباب حفظ القرآن، فضلًا عن حفظ القرآن نفسه، فهو محفوظٌ بحفظ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وأنّ الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لم يَجْعَل شيئًا من القرآن محلًا للتنازع في ثبوته عن الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وما يتعلق بالروايات الشاذة غالبها يرجع إلى ضبط بعض ألفاظ القرآن، لا إلى تغييرٍ في الرسم، وهذه حقيقةً فيها مسألة دقيقة؛ لأن القرآن مهيمن على ما قبله، وهذا الدين هو دينٌ ناسخٌ لجميع ما سبق، والله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لا يرتضي إلا هذا الدين، ولا يقبل إلا هذا الدين من عباده.
ولذلك كانت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالةٌ عامة إلى الناس كافة، قال الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﵟوَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ ﵞ [سبأ:28]، وكان هذا الدين هو الذي ختم الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى به الرسالات قال الله عَزَّ وجَلَّ: ﵟمَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٠ﵞ [الأحزاب:40]، فإذا كان الأمر كذلك كان لزامًا أن يكون الكمال الذي فيه كمالًا يستوجب حفظه من أي نقص قد يشوبه، وكذلك حفظه من أن لا يكون ثَمَّ قائمٌ بالحق يُبَيِنُ مراد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ومرادَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
وَمِنْ هاهنا كان الواجب على الخلق إحسان الظن في كلام الله تَبَارَكَ وتَعَالَى فهمًا ومعنىً وأخذًا وعملًا وغير ذلك، ولعلنا نقف هنا، نسأل الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن ينفع بما قلنا والله أعلى وأعلم.
وَصَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.