حق الإخوة والأخوات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد؛
فإن الكلام عن حقوق الإخوة والأخوات هو فرع عما جاء به الإسلام من أمر الصلة والحرص على ذوي القرابة، الله جل وعلا قال: ﵟوَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵖﵓﵜ وأقرب الناس للإنسان مع والديه هم إخوانه وأخواته وزوجته وأبناؤه، فهذه هي القرابة التي ينبغي أن تقدم في باب الصلة، ولا شك أن المسلم مما يحرص عليه أن يبدأ دائما بالأمور الواجبة المتعينة عليه قبل أن ينتقل إلى الأمور المستحبة، ولذلك كان من أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا في أمر الصلات الاجتماعية أن يحرص على صلة الرحم، وقد جاء في الحديث في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه»([1]) ، فصلة الرحم أمرها عظيم ومنزلتها جليلة، وأثرها على الإنسان في هذه الدنيا وفي الآخرة أثر عظيم مع ما يكتنزه الإنسان لنفسه في الدار الآخرة من الأجر والثواب العظيم.
صلة الإخوة والأخوات فيما بينهم صلة متينة، وأساسها في ذلك وأصلها النسب الذي جمع بينهم، فهو نسب قريب وقلب بينهم حبيب، بيت يؤويك وكذلك ذكرى معهم تسليك، علاقة ملؤها المحبة والمودة، وقانونها الصفاء والنقاء، هو مجمع في البيت الواحد بالحب يتدفق، وبيت بالسلام والوئام يتحقق، علاقة لا تعرف القطيعة والتناحر، ولا تعرف التهاجر والتدابر، إن تكلمت عن صلة الرحم فإنك تتكلم عن صلة من أعظم الصلات في باب صلة الأرحام، علاقة الأخ بإخوانه وأخواته مقام عال، ومنزلة جليلة ومكان أسمى.
الإخوة والأخوات حينما نتكلم عن هذه العلاقة فإننا نتكلم عن تاريخ الأسرة، نتكلم عن مراحل النشأة نتكلم عما بينهم من الذكرى التي لا تنسى، ومن المواقف التي لا تذهب، يرى الإخوة في أخيهم في وجهه يرون وجه أبيهم كما أنهم يرون في قلب أختهم قلب أمهم، وهذا مما يؤكد هذه المنزلة العظيمة، ومع كل تقدم في العمر فتزداد هذه الصلة بينهم، وتتقوى هذه العلاقة لأن الأيام قد أخذت وبينت هذه الصلة القوية التي بينهم من المودة والتراحم، حينما نتكلم عن حقوق الإخوة والأخوات فإننا نتحدث عن واقع وعن مأمول، الواقع بعضه يعجز الخاطر عن التفكير فيه فضلا عن اللسان في الكلام عنه، الواقع في صلات مقطوعة ونفوس متدابرة إلا من رحم الله، ولا زال الخير في هذه الأمة موجودا لكن الذي نأمله أن ننقاد إلى أمر ربنا جل وعلا وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم في تقوية هذه الصلات في معرفة الحقوق والواجبات، وأن تعود النفوس إلى مراشدها في امتثالها لأمر ربها واتباعها لسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الأمر، فهي ذكرى للمؤمنين وتنبيه للغافلين وموعظة للمتقين.
حينما نتكلم عن الأخت فإننا نتكلم عن العطف، نتكلم عن قوة العلاقة، نتكلم عن المأوى لإخوانها وأخواتها، لك أن تتأمل حينما ولد نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، وكان في العام الذي قد قضى فيه فرعون أن يقتل كل مولود، فأمر الله جل وعلا رفقا بأمه موصيا لها أن ترسله، قال جل وعلا: ﵟوَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٧ﵞ ﵝالقَصَص : ﵗﵜ، أرسلته الأم وبقي في قلبها شيء حتى كادت تبدي به يعني تخبر بأمره، فاختارت من هي حريصة عليه أخته، أرسلت أخته حتى تعرف حاله وتنظر فيما صار إليه مآله، فالتقطه آل فرعون وجاءت هذه الأخت الحريصة التي كأنها تمثل مقام الأم في خوفها على أخيها ﵟفَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَٰصِحُونَ ١٢ فَرَدَدۡنَٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَﵞ ﵝالقَصَص : ﵒﵑ - ﵓﵑﵜ، فكان التقدير أن الذي يقوم بهذه المهمة الصعبة هي تلك الأخت التي وقفت مع أخيها موسى عليه الصلاة والسلام، وهي حريصة على حاله وعلى حفظ أمره الأخت معاشر الأحبة مقامها مقام الأم في لطفها في عاطفتها في جميل عنايتها، إن بذلت الأخت بذلت من غير منّة، وإن أعطت أعطت من دون تعيير، لذلك تتحمل الأخت ما لا يتحمل غيرها، فتتحمل دون شكوى وظنها بأخيها دائما في مرتبة عالية وفي منزلة رفيعة، فكان من أكرمها فهو كريم ومن أذاها فهو لئيم، حينما جاءت الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة تعرّف عليها أنها أخته، ثم قال لها صلى الله عليه وسلم: إن أحببتي فأقيمي عندي محببة مكرمة، وإن أحببتي أن أمتعك وترجعي إلى قومك، فقالت: بل متعني وتردني إلى قومي، فمتعها صلى الله عليه وسلم وأعطاها وردها إلى قومها، قيل أعطاها غلاما وجارية من كرمه صلى الله عليه وسلم لأخته ([2])
الكلام عن الأخت كلام عن المرأة الرفيقة الشفيقة التي يفرح بها أخوها وتفرح به، حينما تحدثت أم جميل بنت حرب عن أخيها أبي سفيان رضي الله عنه تفاخرت به قالت عنه:
زين العشيرة كلها ... في البدو منها والحضر
ورئيسها في النائبات ... وفي الرحال وفي السفر
تفخر الأخت بأخيها على طبيعة الحال، ولذلك الأخ الصالح مع أخته هو في مقام أبيها وإن مات أبوها ولها أخ صالح فإن أباها ما مات؛ لأنه يقوم هذا المقام، فالأخ أخ معتن سند وظهر يرفق بحالها، ويتفقد أمرها ويساعدها في ملماتها، إن كانت متزوجة فإن ذلك لا يمنع أمر الصلة بل يزيد، فهو معها في فرحها وسعادتها، يفرح بأبنائها ويسعد بصلاح أسرتها، وإن ألمت بها ملمة فهو مقدام في أمر مساعدتها قريب منها، يكرم زوجها إكراما لها ويحفظ أبناءها حفظا لها، ويرعى أمر الله جل وعلا في أسرتها إكراما لأخته، وترفقا بها، وهي في تعاملها معه تحفظ هذا الود الجميل وترضى من أخيها دائما بالقليل، وتفتخر به وهذا من حسن التعامل.
إذا جئنا نتكلم عن حقوق الأخت:
أولا: فلنعلم أن كل أمر جاء فيه الوصاية بالنساء أو الترفق بهن فإن الأخت تدخل فيه على سبيل الأولوية ولا شك في ذلك، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: : «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» ([3])، فإن الأخت تدخل في ذلك، في الأمر بالترفق بالأهل، قال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» ([4]) في الأمر بالترفق بالنساء فإن الأخت لا شك لها النصيب الأوفر والمقام الكبير في مثل هذه الأوامر النبوية، فكان من أعظم حقوقها أولا صلتها، وهذه الصلة قد تكون بالزيارة وقد تكون بالاتصال بحسب ما يتيسر من ذلك، فإن خلاف الصلة هو القطيعة، وقد في هذا الوعيد الشديد أن الرحم تقول: «مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» ([5]) ، وإذا قطعك الله فماذا يتبقى لك من الخير؟ إذا كنت مقطوعا عن البركة ومقطوعا عن الخير ومقطوعا عن صلة رحمك فإنك قد قطعت ما أمر الله جل وعلا به أن يوصل، فصلة الأخت في زيارتها وفي تفقد أحوالها وفي معرفة حاجاتها، وفي الوقوف معها وفي زيارتها وفي الفرح بفرحها وفي الحزن لحزنها، وفي النظر في أمرها كل ذلك من صلتها الواجبة على أخيها.
ولنتأمل في فعل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه وعن أبيه، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل عرسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تزوجت بكرا أم ثيبا؟»، فقلت: تزوجت ثيبا، فقال: «هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك»، قلت: يا رسول الله، استشهد والدي ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن-يعني في سنّها أي: في سن أخواتي كرهت أن أتزوج امرأة في هذا السن قال وهو ينظر إلى مصلحة أخواته إن تزوجت صغيرة - ، فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليه، فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن([6]) ، حرصه رضي الله عنه وأرضاه على أخواته جعله يقدم أمر حاجتهم على أمر حاجته وما يصلح أحوالهم على ما يصلح حاله وعلى ما ينتفعون به على ما ينتفع هو به، ولا شك أن هذا من حسن المودة ومن جميل المحبة، ومن العلاقة التي تدل على الصفاء والنقاء، ومن جميل الصحبة والوفاء، ولذلك كان أمر العناية بالبنات ولا سيما عند فقد الآباء أن يقوم الإخوة بالعناية بالأخوات كان ذلك من الأمور الموصلة إلى جنات النعيم، فقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَنْفَقَ عَلَى ابْنَتَيْنِ ، أَوْ أُخْتَيْنِ ، أَوْ ذَوَاتَيْ قَرَابَةٍ ، يَحْتَسِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يُغْنِيَهُمَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، أَوْ يَكْفِيَهُمَا، كَانَتَا لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» ([7])، بل جاء في رواية قال صلى الله عليه وسلم: «من عال ابنتين أو ثلاث بنات، أو أختين أو ثلاث أخوات، حتى يمتن أو يموت عنهن، كنت أنا وهو كهاتين» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى ([8]) ، أي: كان معي، ومعنى ذلك في جنات النعيم لما في ذلك من الفضل العظيم والأجر الكبير.
من حق الأخوات حقهن في الميراث، وهذا أمر كفله لهم رب العزة سبحانه وتعالى الذي قسم لهن قسما وهو الخالق لهن والأعلم بمصلحتهن، كما قسم للرجال وجعل في ذلك من الشروط والضوابط ما يعرفه أهل العلم وطلبة العلم، فحقها في الميراث أمر لا يجوز التحايل عليه، فضلا عن أن تمنع منه، فإن من أخذ مالا بغير حق فإنه ظالم لا محالة، ولذلك جاء في الحديث: « مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ«: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ ، قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ([9]) ، الأراك السواك، لو منعتها سواكا وهذا في عموم الناس فما بالك بمنع حق الله جل وعلا في أمر الوراثة، وأشد من ذلك أن يتحايل عليها أخوها فيجمع بين الكذب والتحايل والتلاعب حتى يأخذ شيء شيئا من مالها، إما بدعوى أنك متزوجة وزوجك قائم عليك، أو أنك لست بحاجة أو أنك غير متزوجة فما الحاجة إلى أن تأخذي شيئا من الميراث، فهي على كل حال في نظره لا تستحق، ولا شك أن هذا أمر عظيم لأن فيه معارضة لأمر الله جل وعلا في أمر القسمة، ومخالفة لأمر الصلة الواجبة، ونوع من العقوق لهذه الأخت التي يجب أن يكون هذا الأخ في مقام أبيها لا في مقام الظالم لها، حقها في الميراث أمر ليس بفضل من الإخوة ولا هو شيء يتصدقون عليها به، هو حق كفلته الشريعة وجاءت به القسمة وجاءت به الأوامر، وخلافه ظلم لا يجوز، ولا يجوز للإخوة أن يضغطوا عليها لا بسيف الحياء ولا بمرغبات أخرى، ولا أن يكذبوا عليها في عرض أمر الميراث على غير وجهه الصحيح، كأن يقولوا لها خذي هذا البيت ما شاء الله هذا بيت كبير، ولك هذا الميراث ويكون هذا البيت أقل من نصيبها في الورث، أو يزينون لها أرضا أو يزينون لها سيارة أو يقصدون بذلك تزيين شيء من المتاع حتى يحرموها من حقها، ثم تتعجب حقيقة من هذه القلوب التي ما رفقت بهذه المرأة الضعيفة التي خلقت من ضلع أعوج، فلا نظروا في أمر برهم بأبيهم وأمهم من الإحسان إليها، ولا في كونها ضعيفة لابد أن يقفوا معها بل ويكرمونها بزيادة، ولا نظروا في أمر الله عز وجل في أمر الميراث وأنه أمر واجب عليهم، ولا نظروا في الأخلاق الإسلامية التي تدعو إلى الرحمة وإلى التآلف وإلى الترفق، فعبثوا بكل هذه المفاهيم مقابل أن يقبضوا شيئا من مالها، أو يأخذوا عليها شيئا من ميراثها، ولذلك أيضا من حقوقها الدفاع عنها وصيانة حقها، فلا يجوز لأخيها أو لإخوتها أن يحبسوا عن أمر نافع لها كأن يعضلوها في أمر النكاح، فيمتنعون من ذلك لمصلحة لهم، أو لأمر لا مستند لهم فيها لا مستند شرعي ولا مستند نظامي ولا نحو ذلك، فيمنعوها من أمر النكاح، ولا يجوز لهم أيضا أن يكونوا سببا في خراب أسرتها وبيتها مع زوجها فيحرضونها على زوجها، ولا يجوز لهم أيضا أن يكونوا واقفين مع زوجها ظالمين لها، بل هم ينظرون فيما هو صالح لها، فإن كانت ظالمة منعوها من الظلم وردوها إلى بيتها، وحرصوا على أن تقوم في ذلك البيت بأمر الله سبحانه وتعالى في حق زوجها وأبنائها، وإن كانت مظلومة فإنها تجد فيهم السند، وتجد فيهم العضيد، وتجد فيهم من يقف ويتفهم حالها لا أن يرموها إلى زوج ظالم، ربما كان طاغية في تعامله معها ظالما لها، ثم هم كما يقال يخرجون أيديهم من هذه المسألة ويدعونها تعاني الأمرين في مثل هذه الأحوال، من حقها إدخال السرور عليها في مناسبات يزورونها، وفي صلة رحمها وفي اللقاء بها وفي الفرح بأبنائها، وفي سعادة جاءتها في بيتها، فتجد أول ما تجد إخوتها يقفون معها في أبنائها وفي حالها وفيما يتعلق بفوزها ونجاحها، فتجد فرحهم معها كما أنها إذا أصيبت بملمة أو مرض أو نحو ذلك رأت من يقفون معها أقرب الناس إليها نسبا وهم إخوتها، فهذا من حقها عليهم.
كذلك من حق الأخت: محبة أبنائها وبناتها وحسن الصلة معهم والإكرام لهم والتفقد لأحوالهم والنظر في أمورهم والقيام بشؤونهم ومساعدتهم، ولا شك أن هذا من أعظم الصلة لأن هذا يسعد أمهم التي هي الأخت، فلا شك أن ما يسعد الأخت أمر جاءت به الشريعة وحثت عليه الأدلة، إذا الإنسان يفرح شخصا غريبا يؤجر على ذلك فما بالك إذا أفرحت أقرب الناس إليك نسبا وهم أخواتك، فلا شك أن هذا فيه أجر عظيم.
إذًا معاشر الأحبة حين نتكلم عن الأخت نتكلم عن عموم الإحسان، وعن جميل الصلة وعن التقارب والتآلف والمودة والمحبة وحسن الزيارة والهدية، نتكلم عن اللفظ الجميل والفعل الجليل، نتكلم عن الزيارة الحسنة التي تبهج ولا تزعج، ونتكلم عن الصلة الجميلة التي هي فرح لا ترح، وسعادة لا حزن، إن دخل عليها أخوها كأنما أضاءت لها الدنيا بالسعادة، وإن غاب عنها افتقدته وإن أرسل إليها شيئا أسعدها في نفسها وعند زوجها وأبنائها، فلا شك أن هذا من حسن العشرة.
معاشرة الأخت بالمعروف وصلتها بالشيء الحسن هو أمر يفعله العقلاء، ويحرص عليه أصحاب القلوب الأصفياء، وشاج من الأم متصل لا ينفصل أبدا، فهي الأم إن فقدت الأم وهي مكمن السر إن تشككت بمن حولها أو خافت، إكرامها من حسن برك بوالديك، وصلتها من جميل الإحسان إلى أبويك، فلذلك عين الأخ على تلبية حاجة أخته حاضرة، وماله في تحقيق مرادها غير قاصر، فهو دائم النظر في حالها دائم الاتصال بها.
الكلام عن الأخت هو كلام عن مثال من أعلى ما يتعلق بصلة الأرحام، وإذا كان الكلام عن الأخت بهذا المنطق فإن للأخ من النصيب ما سبق، وله أيضا من التقدير ما يأتي.
فالأخ نعم السند وهو محل تقدير، ومكانته مكان اعتزاز إن كان صالحا فما أعظم النعمة التي وهبها الله لإخوانه وأخواته، إن كان الأخ صالحا فهذه نعمة عظيمة ومنة جليلة ومنزلة رفيعة، وأمر يسعد القلوب ويشرح الصدور فهو محل الاستشارة لهم، ومرجع الخبرة عندهم لا يتقدمونه برأي ولا يستهينون منه بقول، بل الآذان له صاغية والأعين إليه ناظرة؛ لأنه صالح حريص على صلاحهم وحريص على استقامة أمرهم، ولذلك لما سأل موسى وهو يجد أمر الرسالة عظيمة طلب من ربه طلبا يدل على أهمية هذا الطلب ما تضمنه من أمر الصلة قال : ﵟوَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَﵞ ﵝالقَصَص : ﵔﵓﵜ لماذا؟ قال: ﵟٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي ٣١ وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي ٣٢ﵞ ﵝطه : ﵑﵓ - ﵒﵓﵜ فحقق الله جل وعلا له ذلك الطلب لأن أحرص من يكون في الوقوف معك هو أخوك وإن تزين لك غيره أو صدق لكن الصدق المتحقق في أخيك من النسب إن كان صالحا فإنك تجده نعم العون لك، فقال الله جل وعلا: ﵟوَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا ٥٣ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵓﵕﵜ فالأخ مصدر العون لأخيه ولأخته، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام ببر الأقارب فقال لنا عليه الصلاة والسلام: «برّ أُمَّكَ وَأَبَاكَ ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاك» ([10])، فمن الأدب مع الأخ من إخوانه ومن أخواته أن يتفقدوا حاله، وأن يحرصوا على صلته وأن يعرفوا قدره وأن يسألوا عنه وعن أهل بيته وعن أبنائه، ومن أجمل ما يكون هذا السؤال أن يكون بالتفصيل، ما حال فلان من الأبناء ماذا صار في أمر دراسته ماذا حصل في أمر مرضه، ماذا فعلت في شأن كذا وفي شأن كذا فإن هذا التفصيل يعطيك معنى الحرص والاهتمام، وهذا يفعله الكرماء، الكرماء يظهرون حرصهم وصدقهم في الصلة أما السؤال العام فإنه يأتيك من كل أحد كيف حالك وحال أسرتك، هذا الكل يقولها لك لكن حينما يكون أخ أو تكون أخت فينبغي التفصيل في السؤال، ومعرفة تفاصيل الأحوال بأن تعرف أحوال أبنائها كما تعرفين أحوال أبنائه بسنيني عمرهم ودراستهم وأحوالهم وتفاصيل حياتهم، فإن هذا يدعو المستمع إليك من أخ أو أخت إلى أنك تهتم اهتماما بليغا ودقيقا وتفصيليا في شأنهم، كذلك المشاركة لهم في أفراحهم في مناسباتهم في الأعياد فيما يتعلق بنجاحاتهم يجدونك بجانبهم، وهذا لا شك أنه أمر يدل على قوي الصلة، ثم أيضا المشاركة فيما يتعلق بأحزانهم، إن قدر الله جل وعلا عليهم مرضا وجد الأخ إخوانه وأخواته بجانبه، إن احتاج إلى مال كانوا هم أقرب الناس إلى مساندته ومساعدته دون منّة، بل دون أن يطلب بل هم الذين يعرضون عليه قبل أن ينطق بكلمة في حاجته، إذا تأملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([11])، والأخ هنا بشكل عام المؤمن الذي أنت وإياه يجمعكم أمر الإيمان، فإن أوثق ما يدخل في هذا الحديث أخوك من النسب أخوك من أمك وأبيك، هذه القرابة وهذه الوشيجة وهذه الصلة وهذه الأواصر القوية التي ينبغي أن تجمع بين الإخوة والأخوات، فيكون لها الأثر البالغ في أمر التعامل أو في أمر الصلات الاجتماعية، فلذلك الحرص على أخيك أمر تدل عليه الشرائع، وتدل عليه العقول لكن أعظم ما تحرص عليه أن تحرص عليه في أمر دينه أن تحرص عليه في أمر صلاته، أن تحرص عليه في أمر قيامه بالواجبات التي عليه، أن تحرص عليه أن بما هو واجب من أمر صلاته، حرصك على دينه أعظم من حرصك على ماله وحرصك على استقامته أعظم من حرصك على سيارته أو على ثوبه أو على طعامه لماذا؟ لأن حرصك على دينه هو حرص على نجاته من عذاب الله، هو حرص على سعادة دنيوية وعلى سعادة أخروية، فحرصك على دينه هو الأمر الذي ينبغي أول ما تفكر به أن تفكر به بهذا الأمر، أول ما يخطر على بالك في أمر الصلة به أن تحرص على صلاته وقيامه بالواجبات، وذلك بالكلام الحسن وبالرفق وبالحكمة بما يكون سببا في هدايته وفي صلاحه، ما سبب إسلام خالد بن الوليد سيف الله المسلول؟ خالد ابن الوليد قبل إسلامه قاتل في معركة شهيرة وهي معركة أحد قاتل مع المشركين وكان داهية من دواهي العرب في أمر القتال، من الذي كان سببا في إسلامه الوليد ابن الوليد أخوه، جاءه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحرص على هدايته وإسلامه، فأتاه بتلك الرسالة فشرح الله جل وعلا صدره، ودخل في دين الله فحينما تتكلم عن خالد ابن الوليد تتكلم عن سيف الله المسلول، تتكلم عن هذا الصحابي الجليل الذي فتح الله عز وجل على يديه الأمصار، وقام بالعديد من الفتوحات، فانظر إلى حرص أخيه الوليد عليه حينما كان سببا في إسلامه.
حينما نتكلم عن العلاقة بين الإخوة والأخوات نتكلم عن احترام للكبير وعن رفق بالصغير، وهو امتثال لأمر الله جل وعلا وأمر النبي عليه الصلاة والسلام، أمر الله في عموم حسن التعامل، وأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا»([12]) وفي رواية: «من يحترم كبيرنا»، وفي رواية: « وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» ([13]) ، فيه روايات كثيرة في هذا الحديث.
المقصود بذلك الحرص على توقير الكبير، خطاب الأخت مع أخيها الذي أكبر منها أو الأخ مع أخته التي أكبر منه خطاب الصغير مع الكبير خطاب توقير، وإن تحدث فأنت مستمع وإن اختلفت معه فبالأدب والخلق، وإذا كان الأب قد مات فإن الأخ يقوم مقام الأب في الولاية وفي النفقة وفي رعاية المصالح وفي أمر التأديب، فليس للأصغر أن يقول ليس لك أي ولاية علي بل ولايته ولاية شرعية حال فقد الأب، فمن حق الأخ الصغير على أخيه الكبير أن يحسن تأديبه وأن يكرمه بجميل الأخلاق، وأيضا أمر مهم وهو حفظ ماله لأن الصغير قد يعبث بالمال أو أن يكون سفيها لا يعرف كيف يتصرف بالمال، فالأخ الكبير هنا مؤتمن عليه ينظر في مصلحته وينظر في حاجته وينظر في أمر تعليمه وينظر فيما ينفعه في صحته في بدنه وفي صحته في فكره وفيما يصلح له دينه ونحو ذلك من الأمور، ولذلك قال العلماء: ولاية التأديب تشمل الأم والأخ الكبير، الأم إن كانت موجودة ثم الأخ الكبير الذي يقوم على أمر العناية بالأبناء الصغار أو بالإخوة الصغار.
الكلام عن حقوق الإخوة والأخوات كلام واسع ولكني أختمه بوصية.
أما الوصية الأولى: فهي للمتنازعين من الإخوة والأخوات، ربما تمر السنة سنتان وثلاث سنوات والأخ لا يزور أخته وإن اتصلت عليه لا يرد على اتصالها، وإن قابلها في مناسبة عائلية أعطاها ظهره، فلهؤلاء أقول من المؤلم أن يدوم التنازع ويحل بينكم التهاجر حتى تتفاجأ بملك الموت قد قبض أختك أو قبض أخاك، وبعد هذا فلا يمكن للصلة الحقيقية أن تقام أما الصلة الحكمية بالتصدق عنه بالدعاء له فهذا شأن آخر، لكن الصلة الحقيقية لا يمكن أن تقام بعد الافتراق، فأدركوا بعضكم بجميل الصلة وبحسن التواصل وبكريم الزيارة، إخوانكم لحمتكم وهم الأقرب إليكم والأحق بمودتكم، والأولى بجميل صبركم، إن كنت تصبر على الغريب فأخوك في بيتك أحق بالصبر، وإن كنت تحرص على الغريب فحرصك على أخيك في بيتك أولى وأعظم وأجدر، وإن كان لك صدقات للبعيد وللقريب فأخوك أحق بصدقتك بل أقول أحق بمالك هدية دون حتى أن تنظر في أمر الزكاة هل أعطيه من زكاة مالي أو لا أعطيه من زكاة مالي، بل أعطه من مالك أعطه من رأس مالك، وانظر في حاجته في ذلك، فأكرموا أعينكم بالنظر إلى بعضكم قبل أن تفارق الأرواح هذه الأجساد، وننتقل جميعنا إلى حياة البرزخ وهناك لا صلات حقيقية ولا تزاور ولا نحو ذلك.
الأمر الثاني: إياك أن تطغى الدنيا على قلبك فتفرقك عن إخوانك، فالبعض قد يتفرق بسبب دراهم معدودة بسبب تجارة بسبب ميراث، فضلا عن أن يكون التفرق بسبب كلمة جارحة ربما تجد لها في المعاذير محامل ليس محملا واحدا، وإن لم تجد فأنت أهل للصفح وللعفو وللمسامحة، فإياك إياك أن يكون أبعد الناس عنك من خرجت أنت وإياه من رحم واحدة.
ثم نصيحة للآباء والأمهات: أحسنوا في أمر العدل بين أبنائكم، فإن الكثير من النزاعات كان سببها تصرف بعض الآباء والأمهات حينما مايزوا بين الأبناء وبين البنات، فرفعوا هذا وأنزلوا من شأن هذا وشجعوا هذا وحطموا هذا وأكرموا هذا وسفهوا هذا، فإن هذا مما يورث التشاحن والبغضاء ويكبر هذا الأمر معهم، فتكونوا قد عققتم بأبنائكم قبل أن يعق بعضهم بعضا وقبل أن يقطع بعضهم بعضا قد قطعتموهم أنتم في حياتكم، العدل بين الأبناء حتى في أمر القبلة في أمر الضمة في أمر الإهداء في أمر الهبة يجب العدل، وفي أمر الهبة يتساوى الأبناء والبنات على الصحيح، وأما في أمر النفقة فلكل النفقة المناسبة له، وهذا شأن آخر.
إذا نصيحة للآباء والأمهات: لا تفرقوا بين قلوب الأبناء لا تكونوا سببا للتنازع والتناحر من حيث تشعرون أو لا تشعرون، لا تقدموا الأبناء على البنات وهذا يفعله الكثير للأسف الشديد، ولا سيما إذا اعتزت الأم بابنها وأهملت ابنتها وكان في هذا نوع من الظلم في أمر هبة أو في أمر لباس أو في أمر طعام، أما اختصاص الذكر بما يليق به واختصاص الأنثى بما يليق بها فهذا لا إشكال فيه.
ثم نصيحة أخيرة للزوج والزوجة: أخي الزوج كن عونا لزوجتك على صلتها بإخوانها، لا تحرمها من هذه الصلة أكرمهم وكن معهم وقف معهم وساندهم، فإن هذا الأمر يسعدهم، والزوجة كذلك إذا رأيت زوجك على حسن صلة بأهله فأعينيه وساعديه وسانديه واشكريه بل قدمي حاجتهم إن استطعت على حاجتك واشكريه على بره بهم، واشكريه على صلته لهم واشكريه على نفقته إياهم، فإن هذا دليل على صحة فكرك وعلى سداد رأيك، أما المرأة التي تفرح بقطع الصلات فإن هذه تفرق القلوب، وهي سبب من أسباب نزول الغضب ووقوع البلايا والعقوبات؛ لأن الظلم سبب لهذه العقوبات وسبب لهذه الرزايا التي تصاب بها الأسر، وربما كثير من الناس في أسرته أو في بيته لا يجد بركة، يجد المشاكل يجد الأمراض يجد المصائب تتلو مصيبة تتلوها مصيبة، ثم لا يفكر أنه ربما من أسباب ذلك قطيعة الرحم، أو إهمال الحقوق أو الإساءة إلى الأقارب، أو قطع ما أمر الله جل وعلا به أن يوصل من أمر الصلة وتأدية الواجبات، فلذلك لابد أن نتأمل لا ننظر دائما إلى الآثار وننسى الأسباب، انظروا في صلتكم بآبائكم بأمهاتكم بإخوانكم بأخواتكم بحسن تربيتكم لأبنائكم بحق جيرانكم حتى إذا ما قمنا بهذه الصلات الاجتماعية الواجبة عرفنا أن الخلل ليس هنا، ننظر الخلل في جهة أخرى في أحوالنا مع ربنا في أحوالنا مع أنفسنا، فإذًا هذه الأمور ليست على سبيل التفضل منا بل هي أمور واجبة، وبها تحل البركات وبها تستقيم الأحوال.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الواصلين لما أمر الله جل وعلا به أن يوصل، وأن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
([1]) رواه البخاري (5986)، ومسلم (2557).
([2]) ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (4/1871).
([3]) رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).
([4]) رواه الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977).
([5]) رواه مسلم (2555).
([6]) رواه البخاري (2967)، ومسلم (715).
([7]) رواه أحمد (26516).
([8]) رواه أحمد (12498).
([9]) رواه مسلم (137).
([10]) رواه أبو داود (5140).
([11]) رواه البخاري (13)، ومسلم (71).
([12]) رواه أحمد (6937).
([13]) رواه أحمد (22807).