فضل معاوية رضي الله عنه


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:

فلقاء اليوم عن صحابيٍ من خيرة الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، الكلام عن الصحابة هو كلام عن أفضل القرون التي مرت على هذه الأمة، والكلام عن الصحابة هو كلامٌ عن وزراء النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام عن الصحابة هو الكلام عن الرعيل الأول الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم وشهد التنزيل وحضر الوقائع وعرف التأويل وتابع السنة، الكلام عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كلام عن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلامٌ عن نقلة الشريعة، كلامٌ عن حملة الدين، كلامٌ عن أُناسٍ شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ورضي الله جل وعلا عنهم، أصحاب السيرة الحسنة، والأحداث الرائعة والمواقف النافعة، هم من نصروا الإسلام، وهم من نقلوا إلينا الحديث، وهم من بلغونا القرآن، وهم من قاموا لله جل وعلا حق قيام.

فإذا نظرنا في سيرة الصحابة فإننا نتكلم في بساتين نافعة، وفيها ثمار ناجعة، نتكلم عن العلوم، ونتكلم عن مسائل الفنون، ونتكلم عن الفوائد العلمية، ونتكلم عن التراجم الحسنة، ونتكلم عن الدروس، والمواعظ والدرر والمواقف، نتكلم عن العبرة والاعتبار، ونتكلم عن التذكير، ونتكلم عن الاتعاظ، ونتكلم عن موارد الحسنات، ونتكلم عن أناس اصطفاهم الله جل وعلا بما لم يصطفي به غيرهم.

وإذا كانت هذه الفضائل وما سيأتي معنا هي للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عنوان، وحقيقة ومضمون، وترجمة صحيحة واقعية حقيقية لا تشوبها الأكاذيب، ولا تدخل فيها الافتراءات، ولا تنتظم في سلكها الأساطير، بل هي وقائع حقيقية مسطرة، برواة ثقات، وبالكتب الموثوقة عن هذا الجيل، الكلام عن الصحابة رضي الله عنهم في الجملة ماتع، والكلام عن أفراد الصحابة أكثر نفعاً ومتعة.

كلامنا اليوم عن أول الملوك، وعن كاتب الوحي، وعن خال المؤمنين وعن صحابيٍ من أفضل الصحابة الذين نصروا الإسلام وقادوا المعارك ونشر الدين، كلامنا عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الذي قال فيه بعض السلف هو ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هتك هذا الستر دخل على الصحابة، لماذا نتكلم عن معاوية، ولماذا نخصص الحديث عن هذا الصحابي الجليل؟ أولاً :لأن فضائله وافرة.

وثانياً: لأن مواقفه متكاثرة.

وثالثاً: لأنه لقي من الطعن من أعداء الدين ما لم يلقى غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

إذا تكلمنا عن فضل معاوية، وهذه المحاضرة لأجل ذلك، فإننا لابد أن نعلم أن كل نصٍ في كتاب الله جل وعلا، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، تنتظم تحته فضائل الصحابة فإن معاوية رضي الله عنه من أوائل من يدخل في هذه الفضائل، فضائل الصحابة كثيرة، ونحن لا يمكن لنا أن نذكر جميع ما ورد عنهم، لكن سنذكر شيئاً مما ورد في فضائل الصحابة والتي تعم بأحكامها وفضائلها ومناقبها الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه ثم نذكر شيئاً من فضائل معاوية رضي الله عنه.

الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أثنى الله عز وجل عليهم في محكم القرآن، وبين فضلهم، وبين رضاه عنهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالجنة وأمر بالإمساك عن الكلام فيهم، ثم أجمع المسلمون على فضلهم، ولم يخالف في ذلك إلا من زاغ قلبه، وضل مذهبه، وانحرف عن الصراط المستقيم، قبل أن نذكر فضائل الصحابة يرعاكم الله، لابد أن نكتفي بأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا اختياراً من الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فبقاء الألسن لهم بالخير ذاكرة، وبالثناء متكاثرة هذا هو الأمر الواجب.

إذا كان لا يجوز لك أن تطعن في مسلمٍ من جملة المسلمين، فمن باب أولى أنه لا يجوز لك أن تذكر صحابياً إلا بخير الكلام، وبأفضل ما كان من العبارات، وبأجمل ما كان من الألفاظ، فما بالك إذا كان هذا الصحابي هو من تولى بعد الخلفاء الأربعة أمر الحكم، وهو كاتب الوحي، ائتمنه النبي عليه الصلاة والسلام على أمرٍ من أعظم الأمور وهي كتابة الوحي، فكيف بالله يليق بمسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وينتسب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو ينتمي إلى إتباعه عليه الصلاة والسلام أن يطعن في هذا الصحابي.

ليسوا بمعصومين رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالإمساك عن الكلام فيهم، وكان من المعتقد الصحيح أن نسكت عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل. تصور أن يكون خصم هذا الطاعن فيهم هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»([1])، والقائل عليه الصلاة والسلام: « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي »([2])، وقوله لا تسبوا أصحابي لفظ عام إذ لم يقل لا تسبوا فلاناً وفلاناً، وإنما قال لا تسبوا أصحابي فكل من ثبتت له الصحبة فإنه داخلٌ في هذا الأمر، فلا يجوز أن يُذكر إلا بالجميل ومن ذكره بسوءٍ فهو على غير السبيل.

الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أثبت الله جل وعلا من الفضائل ومن المناقب الشيء الكثير، وما من فضيلة مذكورة إلا و من أوائل من يدخل فيها الخلفاء الأربعة ثم معاوية رضي الله عنهم أجمعين، الخلفاء الأربعة والمبشرون بالجنة ثم معاوية رضي الله عن الصحابة أجمعين، الله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ ﵝالتَّوۡبَة : ﵐﵐﵑﵜ.

يقول ابن كثير رحمه الله: (أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك، ثم قال رحمه الله: وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله عنهم، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون).

ثم يقول الله جل وعلا مخبراً عن فضيلة من فضائلهم أي فضائل الصحابة يقول: ۞ لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ١٨ ﵝالفَتۡح : ﵘﵑﵜ ، فبين الله جل وعلا هذا الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم وهو من أعلى المنازل في بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ومعاوية منهم، ويقول ربنا جل وعلا: وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٧٤ ﵝالأَنفَال : ﵔﵗﵜ.

هذه الآية هي شهادة، للمهاجرين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، قال الله جل وعلا واصفاً إياهم: أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤ ﵝالأَنفَال : ﵔﵜ ، ولا شك أن هذا الوعد من الله جل وعلا يندرج فيه كل من كان من المهاجرين المجاهدين، وعلى رأس هؤلاء أو من رؤوسهم رضي الله عنهم أجمعين معاوية رضي الله عنه.

ثم في قول الله جل وعلا في ذكر الصحابة أو في سياق ذكر الصحابة قال: ﵟۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ ٢٩ ﵝالفَتۡح : ﵙﵒﵜ ، يقول ابن كثير رحمه الله: (أي فكذلك أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشط مع الزرع ليغيظ بهم الكفار، ومن هذه الآية أخذ الإمام مالك ابن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله أخذ القول بتكفير الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافرٌ بهذه الآية).

ثم من فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين: أن الله جل وعلا وعدهم بالجنة جميعاً، قال جل وعلا: لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ١٠ ﵝالحَدِيد : ﵐﵑﵜ ، الذي أنفق من قبل الفتح وقاتل كلاً وعد الله الحسنى، كلاً وعد الله الجنة، وقال الله جل وعلا: ۞ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ ٢٦ ﵝيُونُس : ﵖﵒﵜ ، الحسنى الجنة، فهذه الآية من وعد الله جل وعلا للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، أنهم بحكمٍ عام كلهم في جنات النعيم، نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم فيها.

جميع ما ورد من الفضائل في كتاب الله جل وعلا أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يدخل فيها معاوية، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (ما صح أي عند أهل السنة في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش فمعاوية رضي الله عنه داخلٌ فيه)، من ذلك ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ »([3])، ذكر قرنين أو ثلاثة، وكان في القرن الأول معاوية رضي الله عنه، فدل هذا على فضيلة الرعيل الأول ولا شك أن الفضل لطبقة الصحابة أعظم من الفضل لمن جاء بعدهم، فهم أفضل وأعلم وأكمل إيمانا، ولا يجوز أبداً أن يُقال كما يقول بعض المخذولين: إن من التابعين من هو أفضل من الصحابة، فهذا لم يعرف دلالات النصوص من القرآن، ولا عرف فهوم العلماء لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا تدبر ذلك.

ولا يمكن أن يقول بمثل هذا الأمر من يعرف قدر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالصحابة أفضل ممن جاء بعدهم، وأعلم ممن جاء بعدهم، وهل العلم إلا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم  وأرضاهم؟، البعض يقول: ويقيس قياساً غريباً عجيباً، ويقول: من جاء من العلماء بعد ذلك قد اطلع على بعض الكتب وعلى بعض الفنون وحفظ من المنظومات وحفظ من، ويبقى الصحابة أعلم منه ويبقى الصحابة أفضل منه.

وهل العلم الذي يتقرب به إلى الله جل وعلا إلا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فلذلك نص ابن القيم وغيره من أهل العلم على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع فضلهم على من بعدهم هم أعلم ممن بعدهم.

مما جاء في السنة في فضائل الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ »، يعني بعض الذين غزو يسألون هل فيكم من رأى رسول الله، هذا يدل على فضلٍ عظيم، فيقولون نعم فيفتح لهم، «ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس يقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم»([4]).

التابعون رأوا الصحابة رأوا العيون التي رأت النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا ممن سمعت آذانهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وصافحت أياديهم من صافحوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، فضيلة عظيمة للصحابة رضي الله عنهم أنهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا به، رأوه بأعينهم، سمعوه بآذانهم، صحبوه في أسفارهم، شهدوا معه الوقائع وغزو معه الغزوات، أي فضيلة هذه؟ لذلك قال العلماء: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة أفضل ممن جاء بعد ذلك من التابعين.

قال بعضهم لعبد الله بن المبارك، عبد الله بن المبارك من أئمة العلماء ومن الثقات من رواة الحديث، قالوا له عمر بن عبد العزيز، وعمر بن عبد العزيز الحاكم العادل، الذي تميز عهده بالعدل والمكانة العظيمة في إقامة أمر الله جل وعلا قالوا لعبد الله بن المبارك عمر بن عبد العزيز أفضل من معاوية؟ عمر بن عبد العزيز هل هو صحابي؟ ليس بصحابي.

فانظر إلى جواب عبد الله بن المبارك قال: "غبارٌ في أنف معاوية خير من عمر بن عبد العزيز" وعمر بن عبد العزيز صاحب مناقب عظيمة لكن هذا صحابي هذا كاتب الوحي، هذا الذي قاد المعارك، هذا الذي شهد له الصحابة رضي الله عنهم بالفضل والمنزلة، كما شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ »، هذه النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم قال أتى السماء ما توعد، قال: «وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»([5]).

 النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث يبين أنهم أمنة للناس أمان، يحفظ الله جل وعلا الناس بوجود الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في أزمانهم، لذلك يقول العلماء: يشبه أن يكون معنى هذا الخبر أن الله عز وجل جعل النجوم علامة على بقاء السماء وأمنة لها عن الفناء فإذا غارت واضمحلت أتى السماء الفناء، الذي كُتب عليها وجعل الله جل وعلا المصطفى أمنة لأصحابه من وقوع الفتن، فلما قبضه الله جل وعلا إلى جنته أتى أصحابه الفتن التي أوعدوا، صار من الخروج الخوارج وصار من ظهور المعتزلة وصار من قتل الصحابة،ثم قال: وجعل الله الصحابة أمنة أمته من ظهور الجور فيها فإذا مضى أصحابه آتاهم ما يوعدون من ظهور غير الحق من الجور والأباطيل.

ويقول ابن القيم رحمه الله: (وجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، -جعل نسبة الصحابة لمن بعدهم أي ما يكون من فضل الصحابة لمن جاء بعدهم كفضله للصحابة على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم- قال: وكنسبة النجوم إلى السماء ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم،ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم، وأيضاً فإنه جعل بقائهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه، فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة للصحابة وحرزاً لهم وهذا من المحال)، ماذا نستفيد؟ إذا كان وجود الصحابة أمنة للأمة الصحابة مضوا وماتوا رضي الله عنهم أجمعين، أفلا يكون من الأمان والاستقرار والسعادة والفلاح والنجاح والفوز في الدنيا والآخرة في متابعة هديهم، وفي الاقتفاء بطريقتهم وفي الأخذ بسبيلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر افتراق هذه الأمة أمة الإجابة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة قال: « كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً »، التي تنجو من الاختلاف، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: «هي مثل ما أنا عليه وأصحابي»([6]).

إذاً إتباع الصحابة رضي الله عنهم نجاةٌ من الاختلاف، نجاةٌ من الفتن، نجاةٌ من الافتراق، نجاةٌ من الضلال، نجاةٌ من البدع، ولذلك قال العلماء لم يُحفظ في تاريخ الإسلام وفيمن قيد التاريخ، أن صحابياً واحداً من الصحابة أحدث بدعة أو التزم ضلالة أو افترق بفرقة عن جماعة المسلمين أبداً، إنما جاء الفرقة فيمن بعدهم، أو من خالف سبيلهم، ودليل ذلك: ما جاء عند الدارمي أن أبا موسى الأشعري مر على أناس يتحلقون، هذا يقول سبحوا مائة كبروا مائة وعندهم حصاة، فذهب أبو موسى الأشعري هو صحابي جليل لكن رجع إلى من يرى أنه أعلم منه، إلى أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود، قال: يا أبا عبد الرحمن رأيت أمراً تعال فأنظره، جاء ابن مسعود ورأى هؤلاء الذين يتحلقون حلقاً يقول كبيرهم سبحوا مائة هللوا مائة، قال لهم: "أما إنكم مفتتحوا باب ضلالة هذه ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبلى وهذه آنيته لم تكسر إما أن تكونوا في هديٍ خير من هدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة"([7])

لا يوجد تعدد في الخيارات خياران اثنان، اختاروا أحد الخيارين، الصحابة متوافرون، ما في أحد منهم جلس معكم ولا رضي عما فعلتموه ولا وافقكم ولا استفتيتم أحداً من الصحابة فأفتاكم كيف تفعلون هذه الأمور؟ قالوا كما يقول كثير من أهل الضلالات والمحدثات في كل زمانٍ ومكان، نريد الخير، نحن نجتمع نسبح ونهلل.

قال ابن مسعود: "كم من مريدٍ للخير لا يدركه"([8]) إذاً نهاهم ابن مسعود رضي الله عنه عن هذا الإحداث عن هذا الفعل، لم يوافقهم عليه، فلم يحدث في الصحابة أبداً أن أحداً منهم تعبد لله بغير ما تعبد به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خرج عن هديه، ولا تنكب صراطه، ولا اختار فرقة أو قال ببدعة، أو أحدث في الدين. وهذا يدل على كمالهم البشري، وعلى منزلتهم العالية وعلى حفظهم وحفاظهم على الدين، فهم سمعوا من النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ»([9]) ، «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »([10])، سمعوا واستجابوا وطبقوا وأخذوا بهديه صلى الله عليه وسلم ولم يخالفوا.

من جاء بعدهم سمع وأنصت وخالف، يأتيه الحديث ويستحسن العقل، تأتيه العبادة يضيف عليها، يأتيه الذكر يضيف عليه من الأذكار، الصحابة هم ألزم الناس لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شدة التزامهم رضي الله عنهم وأرضاهم أن أحدهم كان ربما يجلس في المكان الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم، من محبته وإتباعه، فضل الصحابة كثير، لكن معاوية رضي الله عنه في كل فضلٍ من هذه الفضائل هو داخل؛ لأنه صحابي، ثم كذلك مما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا »، أحد جبل أحد، ماذا لو وزن جبل أحد الذي طوله سبعة كيلو ومحيطه أربعة عشر كيلو، ماذا لو وزن وأنفق أحد الطاعنين في الصحابة بمثل هذا الوزن ذهباً قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»([11]).

لو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، لن تبلغ مد أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، يقول بن حزم:( فكان نصف مد شعيرٍ أو تمر، -نصف المد هذه نصفها النصف بنصف الكف -يقول فكان نصف مد شعيرٍ أو تمرٍ في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله تعالى بعد ذلك، قال جل وعلا: لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ ١٠ ﵝالحَدِيد : ﵐﵑﵜ ، الآية، وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين).

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (يقول وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام، وقلة أهله، وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحداً أن يحصل له مثله ممن بعدهم، وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة).

ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من فضائل الصحابة في السنة كثير، ومن رجع إلى ذلك فإنه يُشنف أسماعه بالأحاديث العظيمة الواردة في فضائلهم يعرف قدر هذا الجيل الذي مر على هذه الأمة والذي نحن ننتسب إليه، ونرجو أن نكون على خطاه، وأن نسير على دربه، وأن نقتفي آثارهم رضي الله عنهم أجمعين.

لكن أيضاً مما ورد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الفضائل ما يتعلق بمعاوية رضي الله عنه وأرضاه مع هذه الفضائل العامة التي في كلام الله جلا وعلا، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل صهرٍ ونسبٍ ينقطع إلى صهري ونسبي»([12])، ومن صهر النبي عليه الصلاة والسلام؟ معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما قال عبد الملك الميموني للإمام أحمد قال: (قلت لأحمد بن حنبل أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم كل صهرٍ ونسب ينقطع إلى صهري ونسبي؟ قال: بلى، قال قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم له صهرٌ ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية)، أي ماذا يريدون من معاوية وهو عنده من الفضائل والمناقب.

جاء في رواية قال لي، يقول عبد الملك الميموني قال لي: "يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بسوءٍ فاتهمه على الإسلام" ولذلك عد العلماء من فضائل معاوية رضي الله عنه فوزه بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أم حبيبة أم المؤمنين هي أخت معاوية رضي الله عنه، قال العلماء: (فتأمل هذا الفضل العظيم والجاه الجسيم لكل أهل بيتٍ تزوج منهم صلى الله عليه وسلم فعلم أن الله منح بيت أبي سفيان وأجلهم معاوية من الشرف والكمال ومن العز والفخر والجلال ومن العظمة والحفظ والإقبال وما يحصل لهم به التميز الأكبر والقرب الأظهر، يقول لمن يطعن في معاوية: لعلك تنكف، أو تكف غيرك عن الخوض في عرض أحدٍ ممن اصطفاهم الله لمصاهرة رسوله وأدخلهم في حيطة قربه وتكميله، فإن الخوض في أحدٍ من هؤلاء هو السم الناقع، والسيف القاطع، ومن تحسى مثل هذا السم كانت نفسه رخيصة عليه، وشهوةً جارة لكل سوءٍ إليه، ومن هو كذلك لا يبالي الله به في أي وادي هلك ولا في أي ضلالٍ ارتبك أعاذنا الله من غضبه، ونقمه بمنه وكرمه آمين).

لذلك يا أخوة أجاز العلماء أن يُقال عن معاوية رضي الله عنه خال المؤمنين، وليست هذه يعني الكلمة بمعنى أن لها يعني ما يلتزم به الخال من حيث النسب ونحو ذلك، وإنما خال المؤمنين لأن أخته أم المؤمنين فليس فيه ما يتعلق بالمواريث والورث ونحو ذلك لكن هي فضيلة، ولذلك جمعٌ من أهل العلم ذكروا هذا الأمر، وعدوه في مناقب معاوية، يقول الإمام ابن بطة العقبري رحمه الله قال: "ونترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خال المؤمنين أجمعين، وكاتب الوحي ونذكر فضائله، ويروى ما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

يقول أبو بكر المروذي: (سمعت هارون بن عبد الله يقول لأبي عبد الله، -أحمد بن حنبل-: جاءني كتاب من الرقة أن قوماً قالوا: لا تقول معاوية، -هكذا لا تقول على النفي الظاهر-، لا تقول معاوية خال المؤمنين، فغضب الإمام أحمد، قال: ما اعتراضهم في هذا الموضع؟ يجفون حتى يتوبوا )، أي اجفيهم، لا يطاعون في ذلك.

واستدل بأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن سب الصحابة وعد هذا من التنقص عد هذا الأمر من التنقص من معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ثم من فضائل معاوية، قوله صلى الله عليه وسلم: « أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ البَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا »([13]) أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة أو أوجبوا لأنفسهم الرحمة، قال: الحافظ بن عبد البر المالكي رحمه الله قال: (لم يختلف أهل السير فيما علمت أن غزاة معاوية هذه المذكورة في حديث هذا الباب، إذ غزت معه أم حرام كانت في خلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ).

جاء في رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام نام يوماً قريباً مني يقول أنس عن خالته أم حرام، تقول: "نام النبي صلى الله عليه وسلم مرة قريباً مني ثم استيقظ يبتسم قلت ما أضحكك؟ قال: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ »" كالملوك على الأسرة قيل أي جزائهم في الآخرة، وقيل أي حالهم في الدنيا وكأنهم كالملوك، قالت: "فأدعو الله أن يجعلني منهم" فدعا لها، وهذا ما يسمى انتهاز الفرص، كحديث عكاشة بن محصن قال: "يا رسول الله أدعو الله أن أكون منهم، قال: «أنت منهم»، قام رجل آخر قال يا رسول الله أدعو الله أن أكون منهم قال سبقك بها عكاشة".

تقول أم حرام "أدعو الله أن أكون منهم قال أنت منهم، ثم نام ثانية ففعل مثلها فقالت مثل قوله فأجابت مثلها فقالت: أدعو الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين"([14])

يقول الراوي: فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت الصحابي الجليل زوج أم حرام، أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، وهذا وجه الفضيلة، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت، إذاً كانت هي من القوم الأوائل الذين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فضائلهم وهو يستبشر ويضحك: « أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ»([15])، قيادة معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وفي جيش معاوية، فهذا دليلٌ على فضله ومنزلته رضي الله عنه وأرضاه.

ولذلك قال العلماء في هذا الحديث فضل ٌلمعاوية رضي الله عنه؛ إذ جُعل من غزى تحت رايته من الأولين، فإذا كان هذا الفضل لأم حرام بنت ملحام رضي الله عنه وأرضاه، فكيف الفضل لمعاوية وهو قائد الجيش ورأس القادة في ذلك الوقت؟

أيضاً مما ورد في فضل معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: « اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ »([16])، النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، والمعلوم المعروف أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، فهذه الفضيلة لمعاوية فضيلة من أعظم الفضائل، أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له بهذا الدعاء، قال العلماء: فتأمل هذا الدعاء من الصادق المصدوق، وأن أدعيته لأمته لاسيما لأصحابه مقبولة غير مردودة، تعلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء لمعاوية رضي الله عنه فجعله هادياً للناس مهدياً في نفسه، ومن جمع الله له بين هاتين المرتبتين كيف يُتخيل فيه ما تقوله عليه المبطلون، ووصمه به المعاندون معاذ الله. لا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجامع لمعالي الدنيا والآخرة المانع لكل نقصٍ نسبته إليه الطائفة المارقة الفاجرة إلا لمن علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهلٌ لذلك حقيقٌ بما هنالك، أي بهذه الفضيلة العظيمة. ولذلك قال العلماء: هذه منقبة عظيمة، لكاتب الوحي وخال المؤمنين رضي الله عن معاوية وعن الصحابة أجمعين.

مما ورد في فضل معاوية رضي الله عنه كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ »([17])، ثم يقول العرباض بن سارية ثم سمعته يقول: « اللهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ وَقِهِ الْعَذَابَ »([18])، وقد صحح هذا الحديث جمعٌ من أهل العلم، ولذلك يا إخوة من طرائف ما يُذكر هنا أن رجل جاء في ترجمة أبي حفص عمر بن إبراهيم العقبري قال سألني سائل عن رجلٍ حلف بالطلاق الثلاث أن معاوية رضي الله عنه في الجنة، حلف بالطلاق أن معاوية في الجنة، قال: فأجبته إن زوجته لم تطلق فليقم على نكاحه يبقى على نكاحه، قال: وذكرت هذا أو وذكرت له أن أبا بكر محمد بن عسكر سئل عن هذه المسألة بعينها فأجاب بهذا الجواب، وهذا ورد عن جمعٍ من العلماء في ذلك.

كذلك مما ورد في فضل معاوية رضي الله عنه: ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف الباب قال: جاء فحطأني حطأة، حطأني حطأة -يعني ضرب ظهره هكذا-، قال: وقال اذهب وادعو لي معاوية قال: فجئت وهو يأكل ثم قال لي اذهب وادعو لي معاوية قال: فجئت قلت وهو يأكل قال: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» "([19])، قال العلماء هذا الحديث من أعظم الأحاديث في فضائل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وهذا عجيب لماذا؟ لأن الأحاديث الكثيرة دلت على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يريد الدعاء على الصحابة، وإنما يريد لهم الفضل والأجر الذي وعده الله به، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا»([20]) ولذلك أجمع العلماء علماء أهل السنة في فهم هذا الحديث أنه من فضائل معاوية بل من أفضل فضائل معاوية رضي الله عنه.

فقد جاء في أحاديث كثيرة بيان النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحدٌ دعوت عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهل أن تجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة »([21]).

يقول النووي رحمه الله: (وقد فهم مسلم من هذا الحديث أن معاوية رضي الله عنه لم يكن مستحقاً للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، باب اللهم من سببته، قال: وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاءً له، يصير دعاءً لمعاوية لا دعاءً عليه، رضي الله عنه وأرضاه ).

ثم قال العلماء في قوله: لا أشبه الله بطنه، قال ما وقع في ذلك هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية مثل ثكلتك أمك يا معاذ، ما معنى ثكلتك أمك؟ فقدتك أمك هذا الكلام لا يراد معناه، فلذلك قال العلماء: بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية، كقولهم: تربت يمينك وعقرا وحلقى، وفي أحاديث لا كبرت سنك وفي حديث معاوية لا أشبع الله بطنك ونحو ذلك، لا يقصدون بشيءٍ من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيءٌ من ذلك إجابة، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهوراً وأجراً، وهذا من حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الصحابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن ولا يسب لكن قصد بذلك ما قد تأتي من بعض الألفاظ التي لا يقصد بها الدعاء لكن خشي أن تستجاب ربما.

فلذلك قال: «اللهم من سببته أو كذا فاجعلها له أجراً»([22])، إلى غير ذلك مما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، من منطلق هذه الفضائل الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه سار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم يعرفون منزلة معاوية حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله جل وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ ١٠١ ﵝالأَنبِيَاء : ﵑﵐﵑﵜ ، جاء في بعض الروايات قال: "لا تكرهوا إمارة معاوية فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كالنحظل" لا تكرهوا إمرة معاوية والقائل علي رضي الله عنه وأرضاه.

ويقول سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل يقول: "ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍ من صاحب هذا الباب" يعني معاوية رضي الله عنه وأرضاه.

وما أجمل ما قالته عائشة في هذا الباب رضي الله عن أم المؤمنين عائشة قالت: "إني لأتمنى أن يزيد الله معاوية من عمري في عمره" يعطيه من عمري لعمر معاوية رضي الله عنه وأرضاه، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالوا له هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه كذا وكذا؟ يعني كان يوتر بركعة قال: "أصاب إنه فقيه" يعني لا تعترض على معاوية في مثل هذا الأمر، وقال رضي الله عنه: "ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية"، وقال أيضاً رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً كان أخلق للملك من معاوية" أحق بالملك، "كان الناس يردون عليه على أرجاء وادي الرحب لم يكن بالضيق الحصر" يعني كان يستقبل الناس ويكرم الناس.

ولذلك جاءت روايات كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم حتى قال عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: "ما رأيت أحداً أسود من معاوية" يعني في السيادة، قيل له ولا عمر؟ يعني والدك، قال: "كان عمر خير منه" من حيث الفضيلة عمر خير، وكان معاوية أسود منه يعني أكثر سيادة.

يقول شيخ الإسلام يوجه كلام ابن عمر قال عبد الله بن عمر: "كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه، حيث يقول: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية قيل له ولا أبو بكر وعمر؟ يعني كأنها في رواية، قال: كان أبو بكر وعمر خير منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية" أكثر سيادة وحكماً وملكاً في الناس.

هذه بعض الفضائل عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا جئنا يا إخوة نتتبع كلام الصحابة فهو كثير، وإذا جئنا نتتبع كلام التابعين فهو أكثر، وإذا جئنا ننقل كلام العلماء من علماء أهل السنة من أهل العلم والإيمان فإنه لا تسعه مثل هذه المجالس لكثرته ووفرته.

لكن لابد أن يقع في قلوبنا عدة أمور: الأمر الأول: فإن فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثابتة في الكتاب والسنة وعليها الإجماع.

وثانياً: أن كل فضيلة للصحابة على وجه العموم يدخل فيها فضل كل صحابيٍ على وجه الخصوص.

وثالثاً: أن معاوية جاءت دلالات الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين على فضله ومنزلته.

ورابعاً: أن العلماء أجمعوا على فضله، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل الصراط وتنكب الهدي.

ثم أوصي نفسي وإياكم بالنظر في تراجم هؤلاء العلماء من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعلى رأسهم الخلفاء ومن جاء بعدهم، والنظر في سيرهم، وأخص هنا مع ذكر فضائل من هم خلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم أخص النظر في فقه معاوية رضي الله عنه فإن المسلم لا سيما طالب العلم إذا نظر في فقه معاوية فسيجد الكثير من المسائل التي كانت من اجتهاد معاوية وأخذ بها أهل العلم بعد ذلك ويدل ذلك على نظره الصحيح وعلى فقهه العميق، الذي كان عليه، لا سيما في جانب السياسة الشرعية، فإن الآثار عنه وافرة، والنقولات عن هذا الصحابي متكاثرة فلا ينبغي أن تُهمل سير هؤلاء النخبة الذين نتعبد الله جل وعلا بالسير على طريقتهم، والأخذ بهديهم والاقتفاء لمنهجهم والسير على سبيلهم وطريقتهم.

أسأل الله جل وعلا أن يأخذ بنواصينا للحق وللتقوى، وأن يهدينا سبل الصالحين من قبلنا، وأن يجعلنا من المترضين عن صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن الآخذين بهديهم، ومن المقتفين لطريقتهم، ومن العاملين بمنهجهم، ومن الآخذين بسبيلهم وطرقهم ومسالكهم.

أسال الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد نقف على هذا إن شاء الله ولعل فيما ذُكر غنية عما لم يذكر أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم إلى صالح القول والعمل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

([1]) رواه الطبراني في "الكبير" (2 / 96) . صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" ( 34 )

([2]) صحيح البخاري (5/ 8)، رقم: 3673

([3]) صحيح البخاري (3/ 171)، رقم: 2652

([4]) صحيح مسلم (4/ 1962)، رقم: 2532

([5]) صحيح مسلم (4/ 1961)، رقم: 2531

([6]) سنن ابن ماجه (2/ 1322)، رقم: 3993، وصححه الألباني.

([7]) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى

([8]) رواه الطبراني في "الكبير" (8636) من طريق مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ به نحوه

([9]) صحيح البخاري (3/ 184)، رقم: 2697

([10]) صحيح البخاري (3/ 69)،

([11]) صحيح البخاري (5/ 8)، رقم: 3673

([12]) رواه إبراهيم بن زكريا العبدسي فيما أخرجه الطبراني في "الكبير" 20/ (33) ، عن عبد الله بن جعفر، عن عمته أم بكر بنت المسور مرسلاً

([13]) صحيح البخاري (4/ 42)، رقم: 2924

([14]) صحيح البخاري (4/ 18)، رقم: 2799

([15]) صحيح البخاري (4/ 18)، رقم: 2799

([16]) سنن الترمذي ت بشار (6/ 169)، رقم: 3842

([17]) سنن النسائي (4/ 146)، رقم: 2165

([18]) مسند أحمد ط الرسالة (28/ 383)، حديث السحور منه حسن، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الحارث بن زياد كما بينا في الرواية (17143) . وأخرجه بتمامه ابنُ خزيمة (1938) .

([19]) صحيح مسلم (4/ 2010)، رقم: 2604

([20]) صحيح مسلم (4/ 2007)، رقم: 2600

([21]) سنن الدارمي (3/ 1819)، رقم: 2807، وإسناده صحيح.

([22]) صحيح مسلم (4/ 2007)، رقم: 2600