ذلك الكتاب لا ريب فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد...
فهذا اللقاء في هذه الليلة بعنوان ﵟذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵒﵜ ، والمقصود هنا وفيما سيأتي من دقائق أسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يجعلها خالصةً لوجهه، وأن يرزقنا فيها الإخلاص والقبول، المقصود هو بيان بعض القضايا المهمة التي تتعلق بكتاب الله تعالى، والتي قد خاض فيها بعض المتخوضين بغير فقهٍ ولا علمٍ ولا محض فهمٍ لكتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، وإن من عظيم ما امتن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به على أهل الإيمان أن يجعل لهم صلاح النفس فيهديهم إلى ما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، ويرشدهم إلى الصواب وإلى الحق بدليله وحجته حتى يكونوا أهل إيمان بالله -عَزَّ وَجَل-، وتوحيد الله، وقد قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في مقالة اليهود والنصارى: ﵟوَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵑﵑﵜ فقال سبحانه -تَبَارَك وَتَعَالَى-: ﵟتِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١١١ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١١٢ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵑﵑ - ﵒﵑﵑﵜ فأخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن حال أهل الإيمان الذين يدخلون الجنة هم أهل التسليم؛ تسليم الوجه لله -عَزَّ وَجَل-، وهذا يكون بتوحيده وإخلاص العبادة له، وكذلك أهل الإحسان الذين يتَّبعون ما جاء من عند الله تعالى على لسان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-؛ ولذا قال غير واحد من السلف: "ما أدري أي النعمتين عليَّ أعظم أن هداني الله للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء؟". ([1])
ولذلك كان أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- والتابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين من أئمة الهدى مستمسكين بالوحي الذي أوحى الله تعالى به إلى رسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-، والذي أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به رسوله أن يستمسك به فقال: ﵟفَٱسۡتَمۡسِكۡ بِٱلَّذِيٓ أُوحِيَ إِلَيۡكَۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٤٣ﵞ ﵝالزُّخۡرُف : ﵓﵔﵜ ، وقال الله سبحانه: ﵟوَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣ﵞ ﵝالأَنۡعَام : ﵓﵕﵑﵜ.
وهذا الصراط الذي أمر الله –سبحانه وتعالى- به عباده صراطٌ مستقيمٌ لا اعوجاج فيه، كان عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-، وكان عليه أصحابه -رَضِيَ الله عَنْهُم-، ولكن المؤمن يعلم أن هذا الصراط ثمَّ من يكون عليه لأجل إغواء أهله، لا لأجل السير على طريقه.
- وقد جاء عن ابن مسعود -رَضِيَ الله عَنْهُ- أنه قال: "إنَّ هَذا الصِّراطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّياطِينُ يُنادُونَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، هَلُمَّ، هَذا الطَّرِيقُ. لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإنَّ حَبْلَ اللَّهِ القُرْآنُ". ([2]) ومراده -رَضِيَ الله عَنْهُ- أن هذا الصراط المستقيم يحضر إليه شياطين الإنس وشياطين الجن لأجل إغواء بني آدم عن الحق الذي كان عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وكان عليه أصحابه -رَضِيَ الله عَنْهُم-.
وحال أهل الإيمان بتسليمهم لكتاب الله تعالى، ولسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-، قال علي بن أبي طالب: "لو كان الدِّينُ بالرأيِ لكان أسفلَ الخفِّ أولى بالمسحِ من أعلاه وقد رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يمسحُ على ظاهرِ خُفَّيْه".([3]) فهذا حالهم -رَضِيَ الله عَنْهُم- في هذا الباب من التسليم.
وحتى يتضح المراد فنقول وبالله التوفيق وعليه التكلان سبحانه: أن ثَمَّة قضايا مهمة يجب أن تُعْلَم في التعامل مع كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- حتى يكون المؤمن على بينةٍ من دينه، وهو الكتاب الذي نزل بالحق قال سبحانه: ﵟوَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵘﵔﵜ.
وإذا عرفت أن الصراط المستقيم صراطًا محتضر تحضره الشياطين، وأن هذا الصراط يَضِلُّ عنه أقوام، ويزيغ عنه أقوام كان عليك البحث عن أسباب حصول الهداية إلى كتاب الله تعالى الدال على ذلك الصراط المستقيم.
ومن هاهنا جاء في الحديث الذي يرويه معاوية -رَضِيَ الله عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «سيخرجُ من أُمَّتي أقوامٌ تَجارى بِهم تلكَ الأهواءُ كما يَتَجارى الكَلَبُ لصاحِبِه، لا يَبقى منه عِرْقٌ ولا مِفصلٌ إلَّا دخلَه»([4]).
ونعرج على ذكر تلك القضايا
*القضية الأولى التي نذكرها في بيان منزلة القرآن وأهله:
اعلم بارك الله فيك، واعلمي بارك الله فيكي، أن القرآن أفضل الكلام، وهو أفضل من سائر الكلام كله، وقد جاء عن أبي موسى -رَضِيَ الله عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه قال: «مَثَلُ المُؤْمِنِ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، كمَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها طَيِّبٌ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كمَثَلُ التَّمْرَةِ، لا رِيحَ لها وطَعْمُها حُلْوٌ، ومَثَلُ الفاجر الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، كمَثَلُ الرَّيْحانَةِ، رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ، ومَثَلُ الفاجِر الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ، كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، ليسَ لها رِيحٌ وطَعْمُها مُرٌّ»([5]).
- قال ابن كثير -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- في بيان وجه مناسبة كون أن هذا الحديث فيه أن القرآن هو أفضل الكلام وأفضل من سائر الكلام، قال: "ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث أن أطيب الرائحة دَارَ مع القرآن وجودًا وعدمًا". قال: "ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث" يعني تبويب البخاري -رَحِمَهُ الله- "أن أطيب الرائحة دار مع القرآن وجودً وعدمًا، فدل على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر".([6]) انتهى كلامه رَحِمَهُ الله تَعَالَى.
وقد جعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأهل القرآن منزلة، وكان حظهم التقديم على غيرهم، فقد جاء عن أبي مسعود -رَضِيَ الله عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً، فأعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فإنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فإنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فأقْدَمُهُمْ سنا»([7])، وجاء في البخاري من حديث جابر -رَضِيَ الله عَنْهُ-: "أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانَ يجمعُ بينَ الرَّجُلَيْنِ مِن قَتلى أُحُدٍ في ثَّوبِ واحِدِ ثم يقول: «أَيُّهُم أَكْثَرُ أَخْذًا للْقُرْآن؟» فإذا أشيرَ له إلى أحدِهِما قدَّمَهُ في اللَّحدِ"([8])؛ لأنهم كانوا يدفنون الرجلين في القبر الواحد لأجل ما حصل في ذلك الوقت.
وجاء عن أبي موسى -رَضِيَ الله عَنْهُ-: أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ»([9]) فأمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- بإكرام حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه.
والقرآن مصدق لما بين يديه لما جاءت به الأنبياء والرسل -عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام-، قال الله تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵘﵑﵜ.
وقال في الصلاة والزكاة: ﵟوَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵘﵜ.
وإن من عظيم رتبة القرآن أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- كانت وصيته بكتاب الله تعالى، فعن طلحة بن مصرِّف قال: "سألت عبد الله بن أبي أوفى -رَضِيَ الله عَنْهُ- أوصى النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟" يعني يسأل هل أوصى النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-؟ "قال: لا، قال: قلت: فكيف كتب على الناس الوصية، أُمِرُوا بِها ولم يوصي؟ قال: أوصى بكتاب الله -عَزَّ وَجَل-".([10])
* القضية الثانية التي نذكرها في هذه المحاضرة:
اعلم أن الهداية كل الهداية في القرآن، قال الله تعالى: ﵟوَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ﵞ ﵝالزُّخۡرُف : ﵖﵓ - ﵗﵓﵜ.
- قال قتادة في قوله تعالى: ﵟوَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗاﵞ ﵝالزُّخۡرُف : ﵖﵓﵜ يقول: "إذا أعرض عن ذكر الله نُقَيِّض له شيطانًا فهو له قرين".([11])
- قال شيخ المفسرين الإمام الطبري -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: "يقول تعالى ذكره: ومن يُعْرِض عن ذكر الله فلم يخف سطوته ولم يخشى عقابه نقيض له شيطانًا فهو له قرين" يقول: "ونجعل له شيطانًا يغويه فهو له قرين"، يقول: "فهو للشيطان قرين؛ أي يصير كذلك". انتهى كلامه رَحِمَهُ الله تَعَالَى. ([12])
وقال الله -عَزَّ وَجَل- في كتابه: ﵟسَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵖﵔﵑﵜ
- وعن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "كان لا يجلس مجلسًا –أي معاذ بن جبل- للذكر حين يجلس إلا قال: (الله حكمٌ قسط، الله حكمٌ قسط، هلك المرتابون)، فقال معاذ بن جبل يومًا: (إنَّ من ورائكم فتنًا يكثر فيها المالُ، ويُفتَح فيها القرآنُ حتى يأخذه المؤمنُ والمنافقُ والرجل والمرأةُ والصغيرُ والكبيرُ والعبدُ والحرُّ، فيوشك قائلٌ أنْ يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتَّبعي حتى أبتدعَ لهم غيرَه)"
قال: "(فإياكم وما ابتدعَ، فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ، وأحذركم زيغةَ الحكيمِ؛ فإنِّ الشيطانَ قد يقول كلمة الضلالةِ على لسانِ الحكيمِ، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحقِّ)".
قال: "قلت لمعاذٍ: ما يدريني – رحمك اللهُ – أن الحكيمَ قد يقول كلمةَ الضلالةِ، وأن المنافقَ قد يقول كلمةَ الحقِّ؟ قال: بلى، اجتنبْ من كلام الحكيمِ المشتهراتِ التي يقال لها: ما هذه؟! ولا يثنينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعتَه، فإنَّ على الحق نورًا" أخرجه أبو داود. ([13])
* القضية الثالثة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق:
وهذا الذي كان عليه أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- والتابعون لهم بإحسانٍ من أئمة الهدى والإسلام كالتابعين وتابعيهم، والأئمة الأربعة، وسائر أئمة الهدى من أئمة الإسلام. يقولون: "القرآن هو كلام الله تعالى حقيقةً سمعه منه جبريل –عليه السلام-، وسمعه نبينا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من جبريل –عليه السلام-".([14])
وأهل السنة يقولون: "القرآن كلام الله تعالى بحروفه ومعانيه، فكل ما في المصحف ما بين دفتيه من الحروف والمعاني هو من كلام الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-".([15]) وهذا هو الذي أوجب الله تعالى اعتقاده على أهل الإسلام، وهو الذي تناقلته كتب الأئمة –عليهم رحمة الله تعالى-، وفي اتِّباع ما هم عليه من الهدى سلامة من التفرق ومن التحزب الذي قال الله تعالى فيه: ﵟوَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ ١٧٦ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵖﵗﵑﵜ.
¨ ومما يدلك على أن هذا كان فهم سلف هذه الأمة: ما جاء عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: "كنت جارًا لخباب –يعني خباب بن الأرت- فخرجت معه يومًا من المسجد وهو آخذ بيدي، فقال: (يا هنتاه، تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيءٍ أحب إليه من كلامه)". ([16]) يعني القرآن.
الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول في كتابه: ﵟأَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵗﵜ ، فأخبر أن القرآن كلامه سبحانه، وقال سبحانه: ﵟوَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵖﵜ ، وقال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﵟسَيَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِﵞ ﵝالفَتۡح : ﵕﵑﵜ ، فالقرآن كلام الله عَزَّ وَجَل.
- يقول الشيخ تقي الدين -رَحِمَهُ الله-: "والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب [خلق أفعال العباد] وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم: اتِّباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيءٌ من ذلك كلامًا لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما".
قال: "وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما".
قال: "وأن الله تعالى متكلمٌ بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ، ولا صوت غيره، وأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه قدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوقين، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد، فمن شبَّه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته".([17]) انتهى كلامه رَحِمَهُ الله تَعَالَى.
- وجاء عن عمرو بن دينار وهو أحد التابعين وأحد أفاضلهم وكان أدرك أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "أدركت الناس وكلهم يقولون: الله جل اسمه الخالق، وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله تعالى". ([18])
- وقال الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- في [الفتح]: "المنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تلقاه جبريل عن الله، وبلغه جبريل إلى محمدٍ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وبلغه محمدٌ إلى أمته".([19]) انتهى.
وإذا كان الواجب على أهل الإسلام أن يفهموا من كلام الله تعالى وكلام رسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وكلام الصحابة –رضوان الله تعالى عليهم-، والتابعين لهم بإحسان أن يفهموا كلام الله على وفق المعاني التي تليق بالخالق -تَبَارَك وَتَعَالَى-، لا على المعاني التي تليق بالمخلوق، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
¯ وهنا تأتي قضيةٌ مهمةٌ وهي قضية تتعلق بالإيمان بالله -عَزَّ وَجَل- وأثر اعتقاد أن القرآن كلام الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-: وذلك في أن العبد عليه أن يعلم أنه لا يقدم على كلام الله تعالى شيئًا من كلام المخلوقين إلا على سبيل البيان إذا كان ذلك البيان هو البيان الحق ليس من باب التقديم، وإنما من باب الإيضاح والتفسير، وسيأتي مزيد كلام عن هذه القضية.
* وكذلك من الأثر الإيماني الذي يتعلق باعتقاد أن القرآن كلام الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-: أن المؤمن إذا تلا كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإنه يستشعر أثر ذلك في نفسه، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يخاطبه بهذا القرآن، ويكلمه بهذا القرآن، فيكون في ذلك بالغ الأثر في نفس المؤمن في الإيمان بالله واتِّباع كلامه، واليقين بما جاء فيه من الحق، والتسليم لله -عَزَّ وَجَل- ولدينه.
* القضية الرابعة:
اعلم أن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن، والمعنى هنا أن السنة تشرح القرآن وتبينه، قال الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟوَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵔﵔﵜ ، وقال النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-: «ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ ، ألا يُوشِكُ رجُلٌ شبعانٌ على أريكتِهِ يقولُ: عليكُم بِهذَا القُرآنِ فما وجدتُم فيهِ مِن حَلالٍ فأحلُّوه، وما وَجدتُم فيهِ مِن حرامٍ فحرِّمُوه، وإنما حرَّم رسول الله كما حرم الله»([20]) أخرجه أبو داود والترمذي.
- وجاء عن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ- أنه قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «تَرَكْت فِيكُم شَيْئَين لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا تَمَسَّكتم بِهِمَا كِتَاب الله وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الحَوْض»([21]).
- ومن أجمل ما جاء في بيان هذا المعنى ما قاله الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- حيث قال: "فرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله. فقال في كتابه: ﵟرَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١٢٩ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵙﵒﵑﵜ وقال –جل ثناؤه-: ﵟكَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵕﵑﵜ ، وقال: ﵟلَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵔﵖﵑﵜ ، وقال –جل ثناؤه-: ﵟهُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ﵞ ﵝالجُمُعَة : ﵒﵜ ، وقال: ﵟوَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵓﵒﵜ ، وقال: ﵟوَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ١١٣ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵑﵑﵜ ، وقال: ﵟوَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٣٤ﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵔﵓﵜ ".
قال -رَحِمَهُ الله-: "فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكِر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجُز والله أعلم أن يقال: الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله" يعني أنه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذكر القرآن والسنة.
قال رَحِمَهُ الله –ولا زال الكلام للشافعي-: "وذلك أنها مقرونةٌ مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لِمَا وصفنا، من أنَّ الله جَعَلَ الإيمان برسوله مقرونًا بالإيمان به، وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلًا على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتْبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحدٍ من خلقه غير رسوله".([22]) انتهى كلام الشافعي عليه رحمة الله تعالى.
- وكان الأوزاعي -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- يقول: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب"([23])؛ أي أنها تبين المراد من القرآن؛ السنة تبين المراد من القرآن.
- قال يحيى بن أبي كثير: "السنة قاضيةٌ على الكتاب"؛([24])أي أنها تشرح الكتاب.
والإمام أحمد لما سئل عن هذه المقالة قال: "ما أجْسُر على أن أقوله، ولكن أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتُبَيِّنه".([25])
فافهم هذه القضية –بارك الله فيك-، فما ثَمَّ إلا السنة أو والعياذ بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الزيغ والضلال.
* القضية الخامسة:
اعلم أن القرآن منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، ونحن هاهنا نوضح المراد بالمحكم والمتشابه، فإن بيان معنى المحكم والمتشابه في القرآن يكون على وجوه.
نلخص هذه الوجوه في ثلاثة وجوه: وهذه الثلاثة وجوه هي أقرب ما قيل في معنى المحكم والمتشابه.
* الوجه الأول: الإحكام في القرآن يكون معناه الإتقان، والتشابه معناه ويراد به أنه يشبه بعضه بعضًا ولا يتناقض ويصدق بعضه بعضًا. قال الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-: ﵟكِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡﵞ ﵝهُود : ﵑﵜ قال قتادة: "أحكمها الله من الباطل ثم فصَّلها بعلمه فبيَّن حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته".([26]) انتهى.
وهذا معنى قوله -تَبَارَك وَتَعَالَى-: ﵟلَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ٤٢ﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵒﵔﵜ.
- يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري: "أحكم الله آياته من الدَّخل والخلل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر والنهي، وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خللٍ يكون فيها أو باطلٍ يقدر ذو زيغٍ أن يطعن فيها من قِبَلِه، وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعضٍ بالبيان عما فيها من حلالٍ وحرامٍ وأمرٍ ونهي".([27])انتهى.
** ومعنى التشابه في الوجه الأول: أنه يشبه بعضه بعضًا ولا يتناقض، وقيل: هو بمعنى ما يحصل فيه من التكرار، قال الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-: ﵟٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡﵞ ﵝالزُّمَر : ﵓﵒﵜ.
- قال قتادة -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- في قول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا ﵞ ﵝالزُّمَر : ﵓﵒﵜ قال: "الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف".([28])
- وقال سعيد بن جبير في قوله: ﵟكِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا ﵞ ﵝالزُّمَر : ﵓﵒﵜ: "يشبه بعضه بعضًا، ويصدِّق بعضه بعضًا، ويدل بعضه على بعض".([29])
ولذلك ترى أن قصة مثلًا موسى تتكرر في أكثر من موضع من كتاب الله -عَزَّ وَجَل-، وترى أن بعض القصص قصة نوح -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- قد تتكرر في بعض المواضع من القرآن، وترى أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يذكر فضل الإيمان في موضع، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يأمر بالتوحيد في موضع، ويكرر ذلك في مواضع كثيرة من كتابه وهكذا فيصدِّق بعض القرآن بعضًا، ويشبه بعضه بعضًا من جهة الأمر بما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به، وكذلك من جهة أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد يكرر الآية في معناها في سورةٍ وسورةٍ أخرى، وإن كان ثمَّ اختلافٌ في بعض الألفاظ أو في ترتيب بعض الكلمات.
* الوجه الثاني في معنى المحكم والمتشابه: أن المحكم هو الواضح الذي لا يحتاج إلى ما يبينه –انتبه!- أن المحكم هو الواضح الذي لا يحتاج إلى ما يبينه، وأن المتشابه هو ما اشتبه معناه ولم يتضح، فاحتاج إلى ما يبينه ويوضحه.
! نعيد! نقول: الوجه الثاني في معنى المحكم والمتشابه: أن المحكم هو الواضح الذي لا يحتاج إلى ما يبينه، وأن المتشابه هو ما اشتبه معناه ولم يتضح فاحتاج إلى ما يبينه ويوضحه. هنالك بعض الآيات واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان إلا ما قد يغفل عنه الإنسان من جهة اللغة أو نحو ذلك، وأما المتشابه هو الذي يحتاج إلى دليلٍ آخر يبين المراد منه ويوضح المراد منه، فهذا هو المتشابه على الوجه الثاني.
قال الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- في كتابه: ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٧ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵗﵜ ، فقال سبحانه: ﵟمِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵗﵜ.
- يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: "فقَدْ تَبَيَّنَ بِبَيَانِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، أَنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ، مِنْ وجُوهِ: أَمْرِهِ، وَوَاجِبِهِ، وَنَدْبِهِ، وَإِرْشَادِهِ وَصُنُوفِ نَهْيِهِ، وَوَظَائِفِ حُقُوقِهِ، وَحُدُودِهِ، وَمَبَالِغِ فَرَائِضِهِ، وَمَقَادِيرِ اللَّازِمِ بَعْضَ خَلْقِهِ لِبَعْضٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ آيِهِ الَّتِي لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهَا إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- لِأُمَّتِهِ".
قال: "وَهَذَا وَجْهٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْقَوْلُ فِيهِ، إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بِتَأْوِيلِهِ، بِنَصٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ، أَوْ بِدَلَالَةٍ قَدْ نَصَبَهَا دَالَّةً أُمَّتَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَأَنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ آجَالٍ حَادِثَةٍ، وَأَوْقَاتٍ آتِيَةٍ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ" ما يعلمها إلا الله.
قال: "كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تِلْكَ أَوْقَات لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ حُدُودَهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ تَأْوِيلِهَا إِلَّا الْخَبَرَ بِأَشْرَاطِهَا، لِاسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِعِلْمِ ذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ" ثم أورد قوله تعالى: ﵟيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨٧ﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵗﵘﵑﵜ. ([30])
وهذا الوجه حقيقة يحتاج المؤمن إلى التفكر والتدبر فيه؛ لأن هذا الوجه هو من أعظم وأكبر وأكثر أسباب الزيغ والضلال عند كثيرٍ من الفِرق، وهو في اتباع المتشابه الذي يحتاج إلى البيان دون النظر في البيان، وهذا هو شأن أهل الزيغ وأهل الأهواء وأهل الضلالة، ولذا قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﵟفَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵗﵜ.
- ونبينا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- يقول فيما ترويه أم المؤمنين عائشة -رَضِيَ الله عَنْها- قالت: "قرأ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم- هذه الآية: ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٧ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵗﵜ " قالت: "فقال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإِذَا رَأَيتُم الذينَ يَتَّبِعُون مَا تَشَابَه مِنْه فأُولَئِكِ الَّذِي سَمَّى الله فَاحذَرُوهُم»"([31]).
فأهل الإيمان يعدُّون في وظائفهم وأعمالهم واعتقاداتهم وما يتعاملون فيه مع كتاب الله -عَزَّ وَجَل- أنهم ينظرون إلى المحكم فيعملون به، وما تشابه ولم يتضح لهم معناه ردوه إلى المحكم، فلم يتصرفوا من عند أنفسهم، فينظرون فيما بيَّنه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وما أوضحه الله -عَزَّ وَجَل- في كتابه، فيأخذون به ويعملون به، وما لم يظهر لهم معناه ردوه إلى ما ظهر معناه، فإن اشتبه عليهم معنى ولم يعرفوا البيان فيه آمنوا بما في كتاب الله -عَزَّ وَجَل- وبما جاء عن الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- دون التخوض فيه بالرأي الذي يحدهم إلى الزيغ والضلالة والعياذ بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
- جاء عن أبي عمران الجوني، قال: "كتب إلي عبد الله بن أبي رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمر قال: هَجَّرْتُ إلى رسول -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعرَف في وجهه الغضب" اختلفا في آية، قال: "فخرج علينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُعرف في وجهه الغضب، فقال: «إِنَّمَا هَلَك مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِاخْتِلَافِهِم فِي الْكِتَاب»"([32]) وهذا أخرجه مسلم.
والواجب هو رد ما اختُلِف فيه إلى ما وضَحَ معناه وما بانَ معناه إذا كان ما اختُلِف فيه مما لم يظهر معناه عند ذلك الناظر فيه.
- يقول الشيخ تقي الدين -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: "وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس" –يعني أهل الأهواء وأهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه منه- قال: "وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودةً مستعملةً في الكتاب والسنة وكلام الناس".
* انتبه إلى الكلام هذا فإنه كلام دقيق، يقول: "هذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة" كأن يقول قائل أحدهم يقول: الله ذكر الكتاب وذكر القرآن، والكتاب شيء، والقرآن شيء آخر، والمراد بالكتاب شيء ليس هو القرآن، والقرآن يراد به الشيء الذي هدى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به الناس، ونحو ذلك من الترَّاهَات. هذه ألفاظ يُعارَض بها الكتاب والسنة تكون مستعملة موجودة في الكتاب وفي كلام الناس، فانتبه إلى كلام الشيخ تقي الدين -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- يقول: "هذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودةً مستعملةً في الكتاب والسنة وكلام الناس، لكن بمعانٍ أُخَر غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أُخَر فيحصل الاشتباه والإجمال".([33]) انتهى كلامه رَحِمَهُ الله تَعَالَى.
وإن كل من أوتي العلم بما يفصِل به بين المحكم والمتشابه لم يشتبه عليه الحق بالباطل بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، كل من أوتي العلم بما يفصل به بين المحكم والمتشابه لم يشتبه عليه الحق بالباطل بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
- ومن هاهنا يقول الإمام أحمد -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- في وصف أهل البدع يقول: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم".([34])
* الوجه الثالث في معنى المحكم والمتشابه -ولا زلنا في القضية الخامسة-: الوجه الثالث أقول في معنى المحكم والمتشابه: أن المحكم قد يطلق على غير المنسوخ من الأحكام والألفاظ في القرآن، وأن المتشابه يطلق على المنسوخ، وهذا في حقيقته يعني من تأمل فيه وجد أنه داخلٌ في الوجه الثاني، ولذلك كان كذلك اللفظ العام قد يكون متشابه من وجه، وقد يكون محكم من وجه، فإذا احتاج إلى ما يبين تخصيصه فهو متشابه من هذا الوجه، وهذا فيه تفصيل عند أهل الأصول أصول الفقه يعني مبثوث مبحوث في موضعه، والله تعالى أعلم.
* القضية السادسة من القضايا التي نذكرها في هذه المحاضرة:
اعلم أن القرآن لا يناقض بعضه بعضًا، وإنما يحصل التناقض في عقول من لم يدرك مراد الله تعالى في كتابه، ووجود أمثال هذا في بعض العقول مرده إلى أحد ثلاثة أسباب:
- إما فسادٌ في الاستدلال.
- أو فسادٌ في الدليل.
- أو تقصير وخللٌ في الاستدلال.
يقول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟيَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵖﵑﵜ ، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يهدي أهل الإيمان إلى الحق الذي أراده الله -عَزَّ وَجَل-، ويوفقهم لحسن الاستدلال وحسن الاستنباط من كلامه تَبَارَك وَتَعَالَى.
* القضية السابعة:
لا يجوز تقديم الرأي على الوحي: وهذا قد تواتر في كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-؛ أي أعني هذا المعنى، وكذلك في سنة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وتضافر ذكره في كلام أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ورضي الله عنهم، وفي كلام سلف الأمة وأئمة الإسلام والدين.
يقول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟوَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵔﵔﵜ ، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزله لنبيه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ليكون البيان من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم.
ويقول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٣ﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵓﵜ ، وقال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﵟوَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٥ﵞ ﵝيُونُس : ﵕﵑﵜ ، ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﵟوَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ١١٣ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵑﵑﵜ ، وقال الله سبحانه: ﵟوَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ ١٢٠ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵐﵒﵑﵜ ، ويقول الله سبحانه: ﵟوَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٥ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵔﵑﵜ.
- وجاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ-: "أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «توضَّؤوا ممَّا غيَّرَتِ النَّارُ» فقال ابن عباس -رَضِيَ الله عَنْهُما-: أنتوضأ من الحميم؟!"([35]) –يعني كالمستنكر ابن عباس وأبو هريرة يروي الحديث عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- على أن الحديث فيه أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- هذا كان في أول الأمر، ثم جاء النسخ في ذلك، والكلام في ذلك في غير هذا الموضع "فقال ابن عباس -رَضِيَ الله عَنْهُما-: أنتوضأ من الحميم؟! فقال أبو هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ-: يا ابن أخي، إذا سمعت عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- حديثًا فلا تضرب له الأمثال".
- وجاء عن علي بن أبي طالب قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يمسح على ظاهر خفيه".([36])
- وكان عمر بن الخطاب -رَضِيَ الله عَنْهُ- يقول: "اتهموا الرأي على الدين".([37])
- وجاء عن الشعبي -رَحِمَهُ الله تَعَالَى- أنه قال: "ما حدَّثوك عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- فخذ منه، وما حدَّثوك برأيهم فألقه في الحُش".([38])
- يقول الإمام أبو المظفر السمعاني -رَحِمَهُ الله-: "فكان من مثل مَنْ آثر الرأي والقياس وقدمهما على الحديث والأثر مثل من يعدل عن الطهارة بالماء في وقت السعة، ويؤثر التيمم بالتراب الذي وُضِع للضرورة والعدم".([39])
ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من حديث ابن عباس -رَضِيَ الله عَنْهُما- أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ قَال فِي القُرْآن بِرَأْيِه فَلِيَتَبَوَّأ مِقْعَده مِنَ النَّارِ»([40]).
فالقضية يا إخوة خطيرة، يا إخوتي وأخواتي القضية خطيرة، والمسألة خطيرة أن يتكلم الإنسان في كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- بالرأي، وبما يمليه عليه رأيه، بل هذا يكون في سائر أمور الشريعة، لذلك ابن عمر -رَضِيَ الله عَنْهُما- لما سأله رجل عن استلام الحجر فقال ابن عمر: "رأيت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يستلمه ويقبله، فقال الرجل: أرأيت إن زُحِمْت؟ أرأيت إن غُلِبْت؟" يعني يتعذر في ترك الاستلام- "فقال له ابن عمر: اجعل (أرأيت) باليمن" كلمة (أرأيت) قال: "اجعلها في اليمن"؛ يعني كأنه يقول: ارمها بعيد يعني ما تجعلها في الدين "اجعل (أرأيت) باليمن، رأيت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يستلمه ويقبله".([41])
- يقول أبو سليمان الداراني -رَحِمَهُ الله-: "ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة"؛ الشاهد الأول من الكتاب، والشاهد الثاني من السنة. قال: "ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره".([42])
* القضية الثامنة:
اعلم أن من أعظم أسباب الضلالة ترك فهم سلف هذه الأمة وأئمة الدين لمعاني كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول في كتابه: ﵟفَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵓﵔﵜ ، والرجوع إلى أهل العلم يكون:
- إما بالرجوع إلى أهل العلم بالمشافهة.
- أو الرجوع إليهم عن طريق النقل ممن ينقل عنهم ممن يوثق بنقله.
- أو عن طريق الكتب التي كتبوها وألفوها.
وهذا الذي أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به أن يجعلوا السؤال لأهل الذكر، ولأهل العلم، ولأهل الفهم في كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، وفي سنة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وأولى من يدخل في ذلك أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- الذين قال فيهم النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «خَيْر النَّاس قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِين يَلُونهُم، ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُم»([43]).
وهذه الخيرية التي كانت في أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- هي خيريةٌ في العلم وفي الإيمان وفي العمل لما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فهي خيريةٌ عظمى في جميع أبواب الدين، الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول في كتابه: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵐﵐﵑﵜ ، ويقول سبحانه: ﵟوَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا١١٥ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵕﵑﵑﵜ ، وأول من يدخل في ذلك سلف هذه الأمة، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
- ويقول عبد الله بن مسعود -رَضِيَ الله عَنْهُ-: "من كان منكم متأسيًا فليتأسى بأصحاب محمدٍ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، قومٌ اختارهم الله لصحبه نبيه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".([44])
- وجاء عن العرباض بن سارية -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: "قام فينا رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذاتَ يومٍ فوَعَظَنا مَوْعِظَةً بليغةً، وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقيل: يا رسولَ اللهِ، وعَظْتَنا مَوْعِظَةَ مُودِّعٍ! فاعهَدْ إلينا بعهدٍ. فقال: «عليكم بتقوى اللهِ، والسمعِ، والطاعةِ وإن عبدًا حَبَشِيًّا، وسَتَرَوْن مِن بعدِي اختلافًا شديدًا؛ فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المَهْدِيين مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ وإيَّاكم والأمورَ المُحْدَثاتِ؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ»"([45]).
- يقول الشافعي -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: "وقد أثنى اللَّه -تَبَارَك وَتَعَالَى- على أصحاب رسول اللَّه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- في القرآن والتوراة والإنجيل، أدُّوا إلينا سُنَنَ رسول اللَّه –صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد، وعرفوا سنته، وهم فوقنا في كل عملٍ واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله".([46]) انتهى كلامه -رَحِمَهُ الله تَعَالَى.
- يقول ابن عمر في الخوارج: "انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في المشركين فجعلوها في المؤمنين".([47])وهذا هو حال كل من يجعل فهم كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- بالرأي، فإنه ينطلق إلى مثل هذه الآيات التي نزلت في أهل الشرك، فيجعلوها في أهل الإيمان، وكذلك يفهم مراد الله -تَبَارَك وَتَعَالَى- على غير الصواب وعلى غير الهدى، وعلى غير الحق.
وإذا أردت أن تعرف المعنى العظيم في اتباع ما كان عليه أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وسلف هذه الأمة وعلى رأسهم الصحابة بلا شك، فانظر إلى قول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟفَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵗﵓﵑﵜ ؛ أي إن آمن المشركون بمثل ما آمنتم به يا أصحاب محمد فقد اهتدوا، فجعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه الآية ميزان تبين صحة الأعمال وهو في كونها موافقةً للكتاب والسنة على ما كان عليه أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم-، الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول في ذلك: ﵟوَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا١١٥ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵕﵑﵑﵜ.
- يقول محمد بن نصر المروزي -رَحِمَهُ الله- في أصحاب النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقول: "هم حجة الله على خلقه بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، يؤدون عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- ما أدى إليهم لأنه بذلك أمرهم".([48])
- يقول أبو حنيفة: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم".([49])
- ويقول ابن أبي حاتم -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: "فإن قيل: كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله -عَزَّ وَجَل- ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وعن أصحابه النجباء الألبَّاء الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل رضي الله تعالى عنهم"([50]).
القضية التاسعة وهي آخر قضية نتكلم فيها في هذه المحاضرة، وإلا فالقضايا كثيرة التي تستوجب إيضاحها.
- القضية التاسعة:
اعلم أن الاشتغال بحفظ كتاب الله تعالى دون فهم معاني كتاب الله -عَزَّ وَجَل- تقصيرٌ في أمر الله -عَزَّ وَجَل-، ولا يعني أن هذا من المعصية لا، بل نقول: أن هذا لا شك أن فيه فضل عظيم، وفيه خير عظيم، وفيه أجر عظيم أن يعتني الإنسان بحفظ كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، وأن يعتني بأن يكون هذا القرآن في صدره، الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: ﵟبَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ﵞ ﵝالعَنكَبُوت : ﵙﵔﵜ.
فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمر بحفظ القرآن، لكن إن نظرت في هذه الآية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: ﵟبَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَﵞ ﵝالعَنكَبُوت : ﵙﵔﵜ ، فأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بحفظ القرآن، وأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعلم بما في هذا القرآن.
ولا يعني هذا أن الإنسان يترك حفظ كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، بل ينبغي عليه أن يعتني بحفظ كتاب الله -عَزَّ وَجَل-، وفهم كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، لكن لا يقصِّر في الفهم ويعتني بالحفظ دون الفهم.
- يقول الإمام أبو شامة المقدسي -رَحِمَهُ الله-: "ما أعظم حظًّا من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم، حفظًا على الناس ما بقي بأيدهم منه، فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا" إلى أن قال: "هذا مع أن اشتغال المشتغل منهم ضعيف قد قَنَع الحريص منهم من علوم القرآن بحفظ سواده، ونقل بعض قراءاته، وأغفل علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكام الشريعة من مبانيه".([51])
- يقول الحسن البصري -رَحِمَهُ الله-: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله، قال الله تعالى: ﵟكِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩ﵞ ﵝص : ﵙﵒﵜ ، وما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، أما - والله - ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: (والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفًا) قد والله أسقطه كله، ما رُئي القرآن له في خلقٍ ولا عمل، وإن أحدهم ليقول: (والله إني لأقرأ السورة في نفسٍ واحدة) ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء الورعة، متى كان القرَّاء يقولون مثل هذا؟! لا كثَّر الله في الناس مثل هؤلاء".([52])
فالمؤمن ينبغي عليه أن يعتني بحفظ كتاب الله -عَزَّ وَجَل-، ولا يكون حاله كحال الذين ﵟلَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ ٧٨ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵘﵗﵜ ، فلا يعلمون الأحكام، ولا يعلمون الحلال، ولا يعلمون الحرام، ولا يتفقهون في كتاب الله -تَبَارَك وَتَعَالَى-، وهذا يوضحه قول الله -عَزَّ وَجَل-: ﵟمَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاﵞ ﵝالجُمُعَة : ﵕﵜ ، نسأل الله السلامة والعافية، هؤلاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شبَّه ومثَّل للذين حملوا التوراة ولكنهم لم يحملوها بفهمها والعمل بها، مثَّل لهم بالحمار الذي يحمل أسفارًا، فالحمار لو حمل على ظهره الكتب والدواوين والقرآن والسنة وغير ذلك ما يفهم منها شيء، ولا يعي منها شيء، فكذلك حال هؤلاء الذين تركوا كتاب الله تعالى من جهة الفهم والعلم به، نسأل الله السلامة والعافية.
بهذا نكون قد وصلنا إلى خاتمة هذه المحاضرة، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالصالحات، وأن يتقبل ما قلناه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، متقبلًا عنده، إنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولي ذلك، والله أعلى وأعلم، ونقف هنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1])صحيح مسلم (673) .
([2])صحيح مسلم (673) .
([3])صحيح مسلم (673) .
([4])سنن أبي داود (4597)، حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4597).
([5])صحيح البخاري ( 5020) و ( 5427) و ( 7560) وصحيح مسلم (797)
([6])صحيح مسلم (673) .
([7])صحيح مسلم (673) .
([8])صحيح البخاري (1347).
([9])سنن أبي داود (4843)، حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (4972 -[26]).
([10])صحيح مسلم (673) .
([11])صحيح مسلم (673) .
([12])صحيح مسلم (673) .
([13])صحيح مسلم (673) .
([14])صحيح مسلم (673) .
([15])صحيح مسلم (673) .
([16])صحيح مسلم (673) .
([17])صحيح مسلم (673) .
([18])صحيح مسلم (673) .
([19])صحيح مسلم (673) .
([20])سنن أبي داود (4604)، صححه الألباني في مشكاة المصابيح (163 -[24]).
([21])المستدرك على الصحيحين للحاكم (319)، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2937) والصحيحة ( 1761).
([22])صحيح مسلم (673) .
([23])صحيح مسلم (673) .
([24])صحيح مسلم (673) .
([25])صحيح مسلم (673) .
([26])صحيح مسلم (673) .
([27])صحيح مسلم (673) .
([28])صحيح مسلم (673) .
([29])صحيح مسلم (673) .
([30])صحيح مسلم (673) .
([31])سنن أبي داود (4598)، مسند أحمد (26197)، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4598).
([32])صحيح مسلم (2666).
([33])صحيح مسلم (673) .
([34])صحيح مسلم (673) .
([35])سنن الترمذي ( 79) ، سنن ابن ماجه (485)، حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة (485). ورد عند مسلم براوية أخرى ( 352) لكن ليس فيها محل الشاهد.
([36])صحيح مسلم (673) .
([37])صحيح مسلم (673) .
([38])صحيح مسلم (673) .
([39])صحيح مسلم (673) .
([40])سنن الترمذي (2951)، ضعفه الألباني في مشكاة المصابيح (234 -[37]).
([41])صحيح مسلم (673) .
([42])صحيح مسلم (673) .
([43])صحيح البخاري (2652)، صحيح مسلم (2533).
([44])صحيح مسلم (673) .
([45])سنن الترمذي (2676)، سنن ابن ماجه (44)، صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة (42).
([46])صحيح مسلم (673) .
([47])صحيح مسلم (673) .
([48])صحيح مسلم (673) .
([49])صحيح مسلم (673) .
([50])صحيح مسلم (673) .
([51])صحيح مسلم (673) .
([52])صحيح مسلم (673) .