الهجرة النبوية


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا المبعوث رحمة للعالمين أيها الأحبة إن من المعلوم ضرورة أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم سيرة على الإطلاق بل هي معجزة من المعجزات ودلالة على صدقه وصدق رسالته فاقتضى لمن تدبرها تصديقه والشهادة له بأنه رسول الله حقا فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى وسعادة العباد في الدارين معلقة بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم وحاجة الأمة لمعرفة السيرة العطرة أشد من حاجتها إلى  الشراب والطعام ولذلك اهتم بها السلف وعقدوا لها المجالس ونشروها في المساجد وتعلموها كما يتعلمون السورة من القرآن وهي ليس قصصا وحكايات وإنما عظة واعتبار واهتداء واقتداء بل منهاج الحياة ومنبع الاقتداء وسبيل المحبة ومحل العبرة، وهذه وقفات مع الهجرة المباركة ومخرج الصدق الذي خرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مكث قبلها في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى ربه فعظم التكذيب واشتدت ضراوة البلاء وعظم المكر من الأعداء وأجمعوا على وأد الدعوة بتصفية رسولها "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال 30] فأذن الله لرسوله بالهجرة المباركة مؤذنا بإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى  أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعا فقال له: أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك يا رسول الله فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله أي أصحبك فقال نعم، وأمر علي أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى  بيت أبي بكر فخرجا من خوخة من في دار أبي بكر ليلا ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى  غار ثور فدخلاه وكانا قد استأجرا عبد الله ابن أريقط وكان هاديا ماهرا بالطريق وكان على دين قومه من قريش وسلماه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث وجدّت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا باب الغار فوقفوا عليه فقال أبو بكر: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى  ما تحت قدميه لأبصرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا، وفي رواية قال أبو بكر: نظرت إلى  أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى  قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظن باثنين الله ثالثهما فلم يكن على فم الغار عنكبوت ناسج بيته ولا حمام مستقر في عشه كل هذا لا يصح، وإنما عناية الله تعظم حين تنتفي الأسباب ومن كان الله معه ما ضره ولو تناطحت الجبال بين يديه واجتمع كل من في الأرض عليه فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب فجاءهما عبدالله بن أريقط بالراحلتين فارتحلا وصار الدليل أمامهما وعين الله تكلؤهما وتأييده يصحبهما وإسعاده يرحلهما وينزلهما فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد بصر بهم رجل من الحي فوقف على الحي فقال لقد رأيت آنفا بالساحل أسودة ما أراها الا محمدا وأصحابه ففطن بالأمر سراقة بن مالك فأراد أن يكون الظفر له خاصة وينال جعل قريش عن كل واحد مئة ناقة فقال: بل هم وفلان خرجا في طلب حاجة لهما ثم مكث قليلا ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه اخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمة ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض ثم ركب فرسه فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من شدة خوفه على رسول الله يكثر الالتفات ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت فقال أبو بكر يا رسول الله هذا سراقة بن ما لك قد رهقنا وكانوا في جلد من الأرض أي في أرض صخرية يابسة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاخت يدا فرسه في الارض حتى بلغتا الركبتين وارتطمت به إلى  بطنها وخر عنها ثم زجرها فنهضت فإذا لأثر يديها غثاء ساطع في السماء مثل الدخان فعلم أنه محفوظون منه فناداهم بالأمان فوقفوا فقال: قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما فادعوا الله لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أخف عنا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما ها هنا فلا يلقى أحدا إلا رده فكان أول النهار جاهدا عليهما وآخره حارسا لهما، ولما بلغ الأنصار مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وقصده المدينة كانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار فإذا اشتد حر الشمس عليهم رجعوا على عادتهم إلى منازلهم فلما كان الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة خرجوا على عادتهم فلما حمي حر الشمس رجعوا وصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة أي على مكان مرتفع لينظر بعض شأنه فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء هذا جدكم أي حظكم الذي تنتظرونه فبادر الأنصار إلى  السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليظهروا تعظيمه وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف في قباء وكبر المسلمون فرحا بقدومه صلى الله عليه وسلم وخرجوا للقائه وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال العظيم وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها قال أبو بكر رضي الله عنه: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء رسول الله وقال البراء: فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به صلى الله عليه وسلم حتى النساء والصبيان يقولون هذا رسول الله قد جاء وعن أنس: قال لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء قال: وإني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله جاء نبي الله فاستقر به الركاب في طيبة الخير وبدأ في تأسيس المسجد وإقامة الدولة وبنيان المجتمع وكان هذا المجتمع قبل مجيئه عليه الصلاة والسلام وقبل دعوته مجتمعا في غاية الضعف والتفرق قد مسك اليهود فيه أزمة الأمور وتمكنوا من التجارة والمال وأشعلوا فيه نار الفتن والعداوة فكانت العداوة بين الأوس والخزرج على أشدها يتقاتلون على أتفه الأسباب فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا المجتمع المشتت المتفرق فبناه على الإيمان وجمع أهله حتى تآخوا بينهم وآثر بعضهم بعضا بل توارثوا فيما بينهم فتحرك الحسد في قلوب الأعداء روى ابن إسحاق في السيرة أن شاس بن قيس وكان شيخا قد عسى من اليهود أي كبر وشاخ وكان عظيم الكفر شديد الحسد والبغض لأهل الإسلام فمر على ملأ من الأوس والخزرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم يتحدثون وقد اجتمعوا على الإسلام واندرأت الفتن من بينهم فقال: قد اجتمع بنو بني قيلة في هذه البلاد والله لو اجتمعوا فيها ما لنا فيها من قرار فبعث شابا معه من اليهود فقال: اذهب فاجلس إليهم وذكرهم بما كان بينهم من حروب يوم بعاث وأنشدهم من أشعارهم فذهب الشاب وجلس بين القوم وجعل يحدثهم ويثيرهم ويحرك عواطفهم بالفتن والماضي الذي يفرق لا ينبش نبشه سمة يهودية فاشتعل القوم حتى وثب رجلان على الركب وتقاولا أي وأنشدا من أشعارهما ثم قال أحدهما للآخر إن شئتم رددناها الآن جذعة فغضب الفريقان وقالوا موعدكم الظاهرة أي الحرة وتنادوا السلاح السلاح فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء مسرعا بمن كان عنده من المهاجرين فلما رآهم قال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين اظهركم ابعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم فعرف القوم أنها نزغة شيطان فبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طائعين سامعين ملتفين حوله وأنزل الله: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران 103] وهذا درس عظيم لأهل الاسلام فالمجتمع المسلم لا تدرأ عنه الفتن إلا إذا كان متحدا ومجتمعا على الألفة معتصما بحبل الله الكتاب والسنة مع الالتفاف حول الأئمة فلا أحزاب ولا طوائف ولا شقاق ولا فراق وإنما جماعة واحدة وألفة وتعاون ومحبة فتفريق الناس على أساس حزبي وكل حزب تتبناه جماعة وطائفة لها اتباع من أكبر مقاصد أعداء الإسلام ولذلك اشتد حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الجماعة والاجتماع وأمر الأمة بالصبر على جور الأئمة وإن بلغوا في الجور أيّ مبلغ ما داموا مسلمين وحرم عليهم شق الصف وحرم عليهم نبذ عصا الطاعة حتى لا يتفرقوا ويكونوا لقمة سائغة لعدوهم فالأمة المتفرقة أمة فاشلة ضعيفة "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال 46].

أيها الأحبة كم شذرات من سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام تتجلى فيها سنة الله في الحق والباطل وبديع صنع الله لأوليائه وحزبه فمهما اشتد المكر والكيد فالذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [المجادلة 21]، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‎﴿١٧١﴾‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ‎﴿١٧٢﴾‏ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‎﴿١٧٣﴾" [الصافات 171 - 173]،  "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..." [التوبة 40] وقد قضى الله سبحانه أن معيته لرسوله ولمن اتبعه من أهل سنته "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" فالله معه ومع من اتبعه وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن هجرته في المحرم وإنما بدأت في السابع والعشرين من صفر بإذن الله تعالى ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وأما بداية السنة الهجرية من المحرم فهذا ما اتفق عليه الصحابة عليهم رضوان الله وهذا التاريخ أيها الناس مما يتميز به أهل الاسلام والمحرم شهر حرام كان السلف يعظمونه وهو شهر صيام فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه مسلم وأفضل صيام المحرم صيام يوم عاشره فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره هذا اليوم يوم عاشوراء" متفق عليه، وصيام عاشوراء يكفر الله به ذنوب سنة ماضية فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم، ومن السنة أن يصام مع العاشر التاسع فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" رواه مسلم، وصيام عاشوراء مشهور عند سلف الأمة وأئمة السنة فعن جسرة قالت: ذكر عند عائشة صوم عاشوراء فقالت من يأمركم به قالوا علي رضي الله عنه فقالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة وقال أبو جبلة :كنت مع ابن شهاب في سفر فصام يوم عاشوراء فقيل له: لم تصوم وأنت تفطر في رمضان في السفر قال: إن رمضان له عدة من أيام أخر وإن عاشوراء يفوت، واعلموا عباد الله أن الهجرة هجرتان هجرة بالجسد كما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإقامة الدين وعبادة رب العالمين، وهجرة أخرى واجبة على كل احد وهي أن يهجر العبد ما حرم الله عليه فعن فضالة ابن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" فالمهاجر الحق من هجر الخطايا والذنوب وهذه الهجرة فرض عين على كل مسلم لا تسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، قال صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" رواه البخاري.