يعدّ تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ضرورة كبرى، لإرساء دعائم الأمن والاستقرار والسلام في ربوع العالم الإسلامي، الذي يشهد أنواعاً من النزاع والحروب والتقاتل في بعض مناطقه، بما يدمي القلب حزناً وألماً وأسى، فالعناية بهذا الموضوع الكبير الذي هو قضيةُ الساعة وضرورةُ الواقع، أمرٌ في غاية الأهمية..
وهو يقتضي بذل الجهود المتنوعة على كافة المستويات، لوأد الفتن، وإيقاف الحروب والإصلاح بين المسلمين، تحقيقاً لقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وقوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
ومن هذا الباب كان مؤتمر تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية، الذي أطلقه سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، فهو من حيث المبدأ مشروع مهم لتحقيق السلم في المجتمعات الإسلامية، إذا تأسس وفق مبادئ موضوعية صحيحة.
ومن هنا رأيت أن أضع مشاركتي هذه لعل الله أن ينفع بها، فأقول، إن مقومات تعزيز السلم كثيرة، وهي مبنية على محورين رئيسين:
الأول: تشخيص الأسباب والأدواء لتلك الحروب والنزاعات. والثاني: وضع الحلول والتدابير الشرعية الوقائية والعلاجية، وذلك ليكون الموضوع عميقاً جذرياً يعالج الواقع، ويواكب أحداثه ومتغيراته.
كما أن الأهداف الكبرى لهذا الموضوع المهم لا بد أن تنصب على هدفين رئيسين، الأول: تحقيق السلام والتعايش السلمي بين الفئات المتصارعة في بلدان المسلمين، بالسعي الحثيث نحو الإصلاح الفوري، ووقف التقاتل.
والثاني: الارتقاء من درجة السلم بالقول والفعل، إلى السلم القلبي المبني على تحقيق المحبة الباطنة، وتقارب القلوب وتآلفها، بالمعالجات الجذرية الشرعية لأسباب الصراع والخلاف والكراهية والبغضاء الكامنة في النفوس، لئلا يكون الكلام منحصراً في علاج وقتي سطحي، تُترَك فيه النيران تحت الرماد، فلا تلبث أن تشتعل، لتهدد الأمن والسلام بين المسلمين.
فمن مقومات تعزيز السلم:
أولاً: توعية المجتمعات المسلمة أفراداً وشعوباً بالعقيدة الوسطية الصحيحة، وبمقاصد الشريعة الغراء، وتكثيف الخطاب التوعوي والدعوي في ذلك، وترسيخ الإيمان والقناعة في النفوس بحرمة الدماء والأموال والأعراض؛ امتثالاً لقول نبي الأمة، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا».
ثانياً: تكثيف الدور التربوي القائم على تعزيز الأخلاق الكريمة في نفوس المسلمين، من التسامح والعفو، وإفشاء السلام والتكافل وغيرها.
ثالثاً: ترشيد العاطفة وتغليب لغة العقل وثقافة الحوار البنَّاء، للوصول إلى كلمة سواء في كبريات القضايا والمسائل، التي يمثِّل التنازع فيها عائقاً أمام صفاء القلوب وتآلفها، والحذر كلَّ الحذر من الاستسلام لهذه الخلافات، التي تهدد الأمن والسلام في الأمة، والحذر من أن تطغى بسبب ذلك ثقافة الخلاف على ثقافة الوحدة والوئام، فإن رب العزة، سبحانه وتعالى، الذي أخبر بوقوع الخلاف بين الناس، أمرهم بالاجتماع والوحدة على الحق وحذرهم من الفرقة والاختلاف، فقال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا}..
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك} قال المفسِّرون: أي: أنَّ أهل رحمة الله لا يختلفون، ولذلك فمن الخطأ الكبير أن ينحصر الكلام حول وقوع الخلاف بين الناس، مع إهمال الجانب الشرعي، الذي يأمر بالوحدة والوفاق ويحذِّر من الخلاف والشقاق، فإنَّ من أهم مقومات تعزيز السلم: تعزيز ثقافة الوحدة والاجتماع والتحذير من ثقافة الفرقة والخلاف.
رابعاً: تعزيز ثقافة الالتفاف حول ولي الأمر، ووجوب طاعته بالمعروف، والتحذير من الخروج عليه، أو التحريض ضده، وتعزيز ثقافة العدل والحكمة والرحمة، والحذر من الظلم، فإن التوافق بين الشعوب وحكامها من أهم أسباب استقرار المجتمعات وأمنها وسلامتها.
خامساً: حسن معالجة ومواجهة وتصحيح المفاهيم الخطأ، واجتناب ثقافة التهرب والإغضاء، حيث يحاول بعض المثقفين في خطاباتهم الدينية أن يتهربوا من الأدلة الشرعية، التي يفهم منها البعض غير المراد منها في بعض القضايا، مثل آيات الكفر والجهاد والولاء والبراء وغيرها، على حساب بيان معانيها الصحيحة، وفق ما أراد الله، عز وجل، ما يساعد على انتشار المفاهيم الخطأ لهذه الأدلة، التي يروجها ذوو الانحراف الفكري، فيعزز ثقافة الحرب والعدوان والظلم.
سادساً:ترسيخ ثقافة الوسطية والاعتدال، وتحديد صفات الخطاب الديني المعتدل المتوافق مع الكتاب والسنة، وما عليه علماء الأمة وأئمتها من الفهم الصائب المعتدل، الذي يحقق المقاصد الشرعية، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويتعامل مع المتغيرات الحديثة، بما يحافظ على دين الأمة وعقيدتها وقيمها وثوابتها، وبما يحقق لها الصدارة والريادة، وقيادة البشرية بتعاليم شريعتها السمحاء، نحو الحضارة الإنسانية الحقيقية.