كلمة في التواضع
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد:
فلا يخفى على مسلم أنَّ من مقاصد البعثة النبوية الدعوة إلى الأخلاق الحسنة، والتحذير من كل خُلُق رديء، وسيكون الحديث في هذه المقالة عن خُلُق يحتاجه كل فرد من أفراد المجتمع، يحتاجه الأب مع أبنائه، والأم مع أولادها، والرجل مع زوجته، والمرأة مع زوجها، والمدرِّس مع طلابه، والجار مع جاره، والمدير مع موظَّفِهِ، والموظف مع مراجعيه، والطبيب مع المرضى، والداعية مع المدعوين، وغيرهم، ألا وهو خُلُق التواضع.
وهذا الخُلُق له أهمية كبيرة وثمرات نافعة، وعواقب حميدة، فهو خُلُق يمنع التفاخر والتعالي على الناس، وبه يُغلَق باب العدوان عليهم، وبه صلاح القلب ونقاء الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله أوحى إليَّ أنْ تواضعوا حتى لا يَفْخَر أحدٌ على أحدٍ، ولا يَبْغي أحدٌ على أحدٍ»([1])، وهذا يفيد أنَّ التواضع يسُدُّ بابين من أبواب الشر:
الباب الأول: التفاخر وهو التعاظم، وذِكْر محاسن النفس والترفُّع على الآخرين إعجابًا بها وتيهًا -والعياذ بالله-.
الباب الثاني: باب البغي وهو التعدِّي ومجاوزة الحد في الظلم.
وممَّا يُبيِّن ضرورة التواضع ما يترتب عليه بإذن الله جل وعلا من الأُلفة، وتقارب القلوب، واجتماع النفوس، وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أكْمَل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، المُوَطَّؤون أكنافًا -أي: المتواضعون ليِّنوا الجانب- الذين يألِفون ويُؤلَفون، ولا خير فيمَن لا يألِف ولا يُؤلَف»([2]).
فالمتواضع سريع الأُلفة، قريب المودَّة، ليِّن الجانب.
ومَن تحلَّى بهذا الخُلُق رَفَعه الله جل وعلا بين خَلْقه، وأعلى منزلته بين عباده، فأحَبَّته القلوب، ومالت إليه النفوس، ورغبت في مجالسته والقُرب منه، يقول صلى الله عليه وسلم: «وما تواضَع أحدٌ لله إلَّا رفَعَه الله»([3])، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «ما من آدمي إلَّا في رأسه حَكَمَةٌ بيَد مَلَك، فإذا تواضع قيل للمَلَك: ارفَعْ حَكَمَتَهُ، وإذا تكبَّر قيل للمَلَك: ضَعْ حَكَمَتَهُ»([4])، والحَكَمَةُ هي: ما يُجعل تحت حنك الدابة، وذلك لمَنْعِها من المخالَفة كاللجام ونحوه، وهذا يعني: أنَّ العِز والذل والخَفْض والرفع بيد الله تبارك وتعالى.
إذا كان هذا شأن التواضع، فإنَّ حقيقته هي قبول الحق والاستجابة لداعي الخير، والانقياد لمراد الله تعالى والتسليم له، وخَفْض الجناح للناس، ولين الجانب لهم، والرفق بهم، وهذا المعنى مأخوذ من مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الكِبْر بَطَر الحقِّ، وغَمْط الناس»([5])، إذًا: فمفهوم التواضع هو قبول الحق، ولين الجانب للناس، والتحَبُّب إليهم، والتودد لهم، وعدم احتقارهم أو ازدرائهم.
وبهذا المعنى جاءت الآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد سُئِل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع فقال: «أن تخضع للحق، وتنقاد له، ولو سمعته من صبيٍّ قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه»([6]).
وقال غيره: خَفْض الجناح ولين الجانب.
وبهذا تتبيَّن للقارئ جزئية هامَّة وهي علامات التواضع، والأَمارات التي تدل عليه.
وممَّا تقدَّم يتبيَّن أنَّ المتواضع يقبل الحق، ويُثمِّن النصيحة التي تُبذَل له، والخير الذي يأتيه من الآخرين، ويعترف بخطئه، ويبدأ مَن لقيه بالسلام، ولا يحبّ الظهور، ويفر من المدح والثناء، ويكره التزكية والإطراء، ولا يتمادى في الشر إذا وقع فيه، ولا يُعجب بنفسه، ويُقدِّر الناسَ، ويحسن معاملتهم، وينسب الفضل إليهم إن أحسنوا إليه، ويرضى بالدون من مجالسهم فلا يبرز فيها ولا يتقصد الجلوس في صدرها، ويتبسَّط مع الناس، فلا يحتقرهم ولا يزدريهم ولا يلتفت إلى جنس أو عِرْق أبدًا، حالُهُ كما قال الله تعالى:«أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » [المائدة :54].
وهكذا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يَخِيط ثوبه، ويخصف نعله، أي: يخرزها، ويعمل ما يعمل الناس في بيوتهم، فقد سُئِلت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصْنع في أهله؟ قالت: «كان في مهنة أهله -أي: خدمتهم- فإذا حضرت الصلاةُ قام إلى الصلاة»([7])، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافَحَ الرجل لم ينزع يدَهُ من يد الرجل حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يَدَهُ من يَدِهِ صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، وكان عليه الصلاة والسلام لا يأنف ولا يتعالى أن يمشي مع الأرملة ومع المسكين ليقضي لهم الحاجة، وكان يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم، وكان عليه الصلاة والسلام يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة -أي: يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها-، وكان يقول: «آكُلُ كما يأكُل العبدُ، وأجْلِس كما يَجلِس العبدُ»([8])، إلى غير ذلك من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام، وخَفْضه الجناح الناس.
وخِتامًا يقال: إنَّ على المتواضع أن يحرص على سلامة نيَّته وإصلاح قصده في التواضع؛ فإنَّ التواضع من الدِّين وهو وقربة إلى الله رب العالمين، بل هو من أجلِّ العبادات وأشرفها، وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: «وما تواضَع أحدٌ لله إلَّا رفَعَه الله»([9])، فمَن تواضع لله رفعه الله، ومَن لم يتواضع لله -والعياذ بالله- يَخْفِضه الله جل وعلا.
وتنبيه آخر وهو: أن يحرص المتواضع على التأسِّي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتخلُّق بأخلاقه، سواء في بيته أو في عمله أو في حَيِّه أو في مسجده وفي سائر أحواله.
وبهذا يحقق المتواضع شرطَي قبول العمل واعتباره عند الله وهما: الإخلاص لله تعالى وطلب مرضاته، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتأسِّي به.
أسأل الله جل وعلا أن يُبصِّرني ومَن يقرأ هذه المقالة بدِينه، وأن يُزيِّنني وإياه بأخلاق الإسلام، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) رواه مسلم (2865).
([2]) رواه الطبراني في المعجم الصغير (605)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1231).
([3]) رواه مسلم (2588).
([4]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (12939)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2895).
([5]) رواه مسلم (91).
([6]) حلية الأولياء (8/91).
([7]) رواه البخاري (6039).
([8]) رواه أبو يعلى في مسنده (4920)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (544).
([9]) سبق تخريجه.