النص الشرعي بين التسليم والعقل (الجزء ٢)
بسم الله الرحمن الرحيم
( رد النص الشرعي )
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله، أما بعد
فقد تكلمنا في ما سبق عن تعظيم المؤمن للنص الشرعي الصحيح الثابت، وعن التسليم والإذعان له، وإن مما يضاد ذلك ردّهُ وعدم قبولهِ رغم ثبوتهٍ وصحته، بل ربما مع إجماع العلماء على حكمه ومقتضاه، ومعارضتهُ برأي أو قول لمفكر أو فيلسوف وربما لمستشرق حاقد.
ومما هو معلوم قطعاً أنه لا يجوز للمسلم أن يردّ ما ثبت من النص الشرعي في كتاب الله تعالى أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لتعلق الأمر بعقيدته وإيمانه، قال الله سبحانه وتعالى : " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [النور:51 ] ، قال المفسر السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: " أي: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} حقيقة، الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم، حين يدعَونَ إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حصر الفلاح فيهم؛ لأنّ الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حَكّمَ الله ورسوله، وأَطاعَ الله ورسوله. " ا.هـ
وأخبر الله سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تَخيّر بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال الله سبحانه وتعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [الأحزاب:36].
قال ابن القيم رحمه الله: " فاختيارُ العبدِ خلافَ ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً." مدارج السالكين (2/ 185)
وأقسم الله عز وجل على أنّ العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما وقع بينهم من خلاف، ولم يرض بذلك، بل لا بد وأن يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً.
وهذا حقيقة الرضا والتسليم بحكمه، فقال الله سبحانه وتعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [النساء:65]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " قوله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسمُ تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحدٌ حتى يحكم الرّسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحقُ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً؛ ولهذا قال: { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي: إذا حكّموك يطيعونكَ في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهرِ والباطنِ، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. " تفسير ابن كثير (2/ 349)
وقال ابن القيم رحمه الله :" فأقسم سبحانه أَنَّا لا نؤمن حتى نحكّم رسولهُ في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه، فلا يبقى فيها حرج، ونسلّم لحكمه تسليماً، فلا نعارضه بعقل ولا رأي، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه. " مختصر الصواعق ص: 116 "
وبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ ردّ النص الشرعي قد يفضي بصاحبه إلى الوقوع في الشرك والكفر بالله تعالى، فقال : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
روى ابن بطة العكبري رحمه الله في كتابه (الإبانة الكبرى) (260/ 1) عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: نظرتُ في المصحف فوجدتُ فيه طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك. لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه . "
وتأملوا معي إلى هذا الموقف الذي فيه بيان عاقبة من ردّ النص الشرعي لهواه وفكره، وإلى أيّ مدى وصل به الحال، قَالَ الذَّهَبِيّ رحمه الله في كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال : عبيد الله بن معَاذ، عَن أَبِيه أَنه سمع عَمْرو بن عبيد ( وهو رأس المعتزلة ) يَقُول: وَذكر الحَدِيث عَن الصَّادِق المصدوق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ .... " وقد رواه البخاري ومسلم.
فَقَالَ عَمْرو بن عبيد: لو سَمِعت الْأَعْمَش يَقُوله لكذبته، وَلو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، وَلَو سَمِعت ابْن مَسْعُود يَقُوله مَا قبلته، وَلَو سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا لرددته، وَلَو سَمِعت الله يَقُول هَذَا لَقلت: لَيْسَ على هَذَا أخذت ميثاقنا" ا.هـ ، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه العاقبة نراها اليوم رأي عينٍ في بعض متصدري الإعلام من أرباب الفكرِ المنحرف، إذ رفعوا راية تحكيم العقل وعدم التقليد الأعمى، ثم تطور حالهم إلى التشكيك في السنة وكتبها كالبخاري ونحوه، وانتهى بهم الحال إلى التشكيك في أصول الدين وأسسه تحت مسمى نقد الموروث، ولا يُستبعد وقوع بعضهم في الإلحاد والعياذ بالله.
فأصلُ كلِ شرٍ معارضةُ النّص الشرعي الصحيح الثابت بالرأي والمعقول، وتقديمُ الهوى على الشرع، قال الله سبحانه: "فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]
وأمةُ الإسلام بجميع فِرقِها تثبت القرآن الكريم، ولا يستطيع فرد منها ولا من غيرها أنْ يحرف أو ينكر حرفاً منه، ولكن الأمر مع السنة مختلف تماماً، إذ تجرأ عليها من لا علم له بها، فبدؤوا يردون السنة إما جملة أو بالاختيار والتشهي.
وأمّا أهل السنة فيعتقدون أنّ النّص الشرعي كتاباً كان أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة بنفسه في العقائد والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والحدود والقصاص وجميع أمر الشرع، قال الطحاوي في العقيدة الطحاوية : " وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ ".
واشتد نكير الصحابة رضوان الله عليهم على من عارض النص الشرعي بمجرد رأيه وهواه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ". قَالَ أَوْ قَالَ : " الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ ".
فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتُعَارِضُ فِيهِ.
فنجد الصحابي الجليل يغضب من بشير بن كعب لأنه عارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم بما في بعض الكتب من أقوال، لأن الصحابة رضوان الله عليهم تربوا على تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزها إلى غيرها.
وهاك مثالاً آخر يدلك على شدة تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها بقول أو رأي، فروى مسلم عن سَالِم بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا ". قَالَ فَقَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.
والسب المذكور في الحديث فسرته بعض الروايات بالدعاء عليه، وبلال المعترض ولد عبد الله بن عمر رضي الله عنه الله عنهما، ومع ذلك لم يمنعه قربه منه وصلة الرحم بينهما من الشدّةِ عليه وتأديبه، تعظيماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزجراً لمن رد شيئاً منها.
وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم في تعظيمهم لسنةِ النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها برأي أو قول، قال ابن القيم رحمه الله : " فانظر هل كان في الصحابة من إذا سمع نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضهُ بقياسهِ، أو ذوقهِ، أو وجدهِ، أو عقلهِ، أو سياستهِ؟
وهل كان قط أحدٌ منهم يقدمُ على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً أو قياساً، أو ذوقاً، أو سياسةً، أو تقليد مقلد؟
فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أنْ تنظرَ إلى وجه من هذا حاله، أو يكون في زمانهم، ولقد حَكمَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه على من قدّم حكمهُ على نصّ الرسول بالسيف، وقال: هذا حكمي فيه، فيالله! كيف لو رأى ما رأينا، وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من اطرح آراءهم، وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان، وهو الموعد، وإليه المرجع. " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 334)
وجميع العلماءِ والأئمةِ الأعلام على الاحتجاج بالنص الشرعي وتعظيمه، ولا يقدمون عليه أي دليل آخر. ومن الأمثلة على ذلك ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 24) عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال : وَكَانَ فَتَاوِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ: [أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] أَحَدُهَا: النُّصُوصُ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ .... وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" وهكذا بقية الأئمة الأعلام .
وتأملوا معي إلى موقف الإمام الشافعي رحمه الله الذي يبين موقف المسلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِي يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَتَاه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رجُلُ لِلشَّافِعِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَرَانِي فِي كَنِيسَة! تَرَانِي فِي بِيعَة! تَرَى على وَسَطِي زُنَّار؟! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟!
فالمسلم يثبتُ على طريقتهم وهديهم، ولا يلتفت إلى من يزهد المسلمين في الوحي بحجج واهية، وادّعاءات كاذبة، وأوهام ساقطة لا تقوم على أساس صحيح.
والعجب من أقوام من المسلمين سايروا أهل الاستشراق المعادين للإسلام وأصوله، فصاروا يلوكون شبهاتهم حول النص الشرعي، ويتقيؤونها في برامجهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسى الحداثة والعصرانية ونقد الموروث، وليس هدفهم إلا الطعن في النص الشرعي وفي أصول الدين وثوابته، فأمثال هؤلاء يُنبذون ولا يُتابعون، قال الله سبحانه وتعالى محذرا منهم: " { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28].
فهؤلاء أهلُ انحرافٍ عقدي وأهلُ ابتداع في الدين، كما وصفهم ابن تيمية رحمه الله بقوله : " فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. " درء تعارض العقل والنقل (1/ 221)
فلا يرد النص الشرعي إلا من كان محادّاً لله ولرسوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: " {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] ، وقال الصديق أبوبكر رضي الله عنه: " لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم، فمن يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة معرضٌ نفسهُ للزيغ والانحراف .
قال ابن بطة رحمه الله: " هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون بسنته؟ نسأل الله عصمة من الزلل ونجاة من سوء العمل." الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 246).
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعض خصال أهل النفاق والتي منها الإعراض عن النص الشرعي والصد عنهم، فقال سبحانه : " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 61]، فكذلك كل من رد النص الشرعي لمجرد هواه ورأيه فإنّ فيه هذه الخصلة من خصال أهل النفاق.
فالحذر الحذر من أمثال هؤلاء الشرذمة من الناس، ممن زاغت قلوبهم، وضلت عقولهم، جاء عن التابعي الجليل أبي قلابة قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. "
قال الذهبي معلقا على الأثر: وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد وهات العقل، فاعلم أنه أبو جهل. " سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 472)
فعلى المسلم أن يعتز بدينه وبعقيدته، ولا يجعل دينه عرضة لأهل الزيغ والانحراف يتلاعبون به تحت مسمياتٍ مبهرجة، وادعاءاتٍ كاذبة، وشبهاتٍ مضللة، قال ابن بطة رحمه الله – في كتاب الإبانة الكبرى (1/ 260) : " فالله الله إخواني احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة فزاغ قلبه، وعشيت بصيرته، واستحكمت للباطل نصرته، فهو يخبط في عشواء، ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم، فافزعوا إلى مولاكم الكريم فيما أمركم به من دعوته، وحضكم عليه من مسألته، فقولوا:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8]. ا.هـ
فالنجاة الحقيقية لن تتحقق للعبد إلا كما قال تعالى : " {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89] والقلب السليم هو قلب المؤمن السالم من كل شبهة في الدين كالشرك بالله والبدع والرياء، والسالم من كل شهوة في الدنيا من الذنوب والمعاصي، قال ابن القيم –رحمه الله- ( الداء والدواء 187): (ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص" ا.هـ
وفقني الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين .