النص الشرعي بين التسليم والعقل (الجزء ١)


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد

    فمن نعمة الله على البشرية أن بعث  إليها النبيّ محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم من ظلمات الجاهلية والكفر والشرك إلى نور التوحيد والهداية، قال الله سبحانه وتعالى: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [آل عمران:164] ، وأيده سبحانه وتعالى بالوحي، قال عز وجل : "  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " [النجم:3-4]، وجعل الهداية في اتباع هذا الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله سبحانه وتعالى : " ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" [البقرة:2 ]،  وجعل الهداية في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على سنته وهديه، فقال سبحانه : "  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ " [الشورى:52-53 ].

فالوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يشمل القرآن المتلو، والسنة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كانت أو فعلاً او تقريراً، روى الأوزاعي عن حسان بن عطية رحمه الله ( ت 130 هـ ) أنه قال : "كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن" رواه الدرامي في سننه.

فمصدر الكتاب والسنة واحد وهو الوحي، ولكن غاير الله بينهما في بعض الأحكام، فجعل القرآن أصلاً، والسنة أصلاً آخر متعلق بالقرآن تفصيلاً وبياناً، قال الله سبحانه وتعالى : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44]

فمبنى الدين كله على الوحي، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين باتباع الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى : " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ  " [الأنعام:106] وقال سبحانه : " قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [الأعراف:203] وقال سبحانه : "  وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ". [يونس:109]

فلا تجد حكماً متعلقاً بالدين إلا ودليله الوحي، كتاباً أو سنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  في مجموع الفتاوى (11/ 490) : " فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ دِينِهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ." ا.هـ

ولذلك عظّم الله نصوص الوحي، وأمر بالتمسك بها والعمل بها، فجاءت الآيات الكريمة حاثة المسلم على التسليم لهذا النص الشرعي الثابت، قال الله سبحانه وتعالى : "  وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ " [لقمان:22] وقال سبحانه : "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [النساء:65] ، وقال سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " [الأنفال:24 ] وقال سبحانه : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا"[الأحزاب:36] 

وبيّن الله سبحانه أن من يعرض عن التسليم للنص الشرعي فإنما يتبع هواه، وأنه من أهل الظلم والضلال، فقال سبحانه : " فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [القصص:50]

فالمسلم يُسَلّم لنصوص الوحي فيما يتعلق بالغيبيات ، وما يتعلق بالأخبار والقصص الواردة في النص، ويمتثل للأوامر والنواهي الشرعية، سواء علمنا الحكمة منها أو لم نعلم.

ولو تأملنا الآيات التي يذكر الله فيها صفة الاستسلام للوحي الإلهي نجد الله سبحانه وتعالى يربطه بالإيمان، قال تعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء:65]، وقول الله سبحانه: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب:22 ] 

ومن صفة أهل الإيمان الإيمانُ بجميع ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مع السمع والطاعة، قال الله سبحانه وتعالى :"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285]

وهذا يقتضي من المؤمن أن يجعل النص الشرعي الصحيح الثابت وهو الوحي الإلهي حَكماً عليه، لا أن يتحكم هو فيه وفي قبوله أو رده، لذلك نهى الله عباده المؤمنين عن التقدم على النص الشرعي الثابت، قال الله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [الحجرات:1 ]

قال المفسر السعدي -رحمه الله- في تفسير الآية : " هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له، واحترامه، وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها كائناً من كان. " ا.هـ

وعلى هذا الأمر كان الصحابة رضوان الله عليهم، ومن مواقفهم الدالة على تسليمهم للوحي :

1 )  ما رواه البخاري ومسلم عن زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ لَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ " 

فالدافع لعمر -رضي الله عنه- في تقبيله الحجر التسليم للسنة المتمثلة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، دون أن يعارض ذلك برأي أو قياس.

2 ) وعن مَالِك بْن مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ، فَقَالَ اتَّهِمُوا الرَّأْي ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

وهذه الحادثة كانت في غزوة الحديبية، فقد صَعُب على بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ما رأوه من الحال التي تمت فيها المصالحة، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة ليعتمروا، ولا أن يستنقذوا أبا جندل بن سهيل وقد جاءهم يطلب نصرتهم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر رضي الله عنه يستشكل الحال التي هم عليها، فكان مما رد عليه أبوبكر رضي الله عنه أن قال له : " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. " رواه البخاري  

3) ومن صور ذلك : حال الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة الأحزاب، قال الله تعالى في وصف الحال:" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) " [الأحزاب: 10-12] 

أما المؤمنون الصادقون فكان قولهم : "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا " [الأحزاب:22 ]

قال ابن كثير في التفسير (6/ 392) : " أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}... وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ: ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ مَا زَادَهُمْ {إِلا إِيمَانًا} بِاللَّهِ، {وَتَسْلِيمًا} أَيِ: انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ، وطاعة لرسوله".

4) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي: ما رواه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. رواه البخاري.

فجاء تطبيقهم للنص والعمل به من فورهم دون تأجيل وتأخير، فقد كان بإمكانهم أنّ يستمروا على حالهم في الصلاة مستقبلين جهة بيت المقدس، على أن يستقبلوا الكعبة في صلاة الظهر، لكنهم لتعظيمهم أمر الله ورسوله امتثلوا الأمر من فورهم.

5 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي: قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه –: كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. رواه البخاري.

فها هم الصحابة رضوان الله عليهم يأتيهم خبر الوحي وتحريمه للخمر، فيستسلمون له من فورهم امتثالاً، وقد كانت الكؤوس في أيديهم.

6) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه الله عنهما قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ، قَالَتْ وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ. " رواه البخاري ومسلم.

فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يغار على زوجته أن تخرج لصلاة الجماعة في المسجد، ومع ذلك يقدم الحكم الشرعي على ما في نفسه وهواه.

7 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي ما ورد عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه الله عنه قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ - أي: نتعامل فيها بالمزارعة -  عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِى فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ.

فتأملوا إلى قول الصحابي رضي الله عنه : " نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا" ، فكانوا رضي الله عنه الله عنهم يرون أن النفع في فعلهم، ولكنهم قدموا طاعة الله ورسوله، ورأوا أن النفع المترتب عليها أعظم .

8 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي : لما نزل قوله تعالى ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) إِلَى قَوْلِهِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَدُعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا

فكانت الاستجابة فورية وسريعة، رغم تعلقهم بالخمر، واعتيادهم عليها دهرا طويلاً، ولكنّ قوة الإيمان تُرَوّض النفوس وتجعلها منقادة للشرع. 

9 ) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للوحي ما ورد عَنِ الْحَسَنِ قال في قول الله سبحانه تعالى : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَال: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ  فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا.

وَكَانَ رَجُلاً لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ )، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.

وفي رواية : فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لأَمْرِ اللَّهِ " رواه البخاري. 

وعند الترمذي : " فَقَالَ لَهُ يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا، وَاللَّهِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا آخِرُ مَا عَلَيْكَ، قَالَ: فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعًا لِرَبِّى وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ. 

فهذه الروايات تبين لك إصرار معقل بن يسار رضي الله عنه على موقفه الرافض لتزويج أخته من زوجها الذي طلقها، ولكنّ هذا الموقف تغير مع تسليم ورحابة صدر بمجرد سماع النص القرآني.

10) ومن صور تسليم الصحابة رضوان الله عليهم للنص الشرعي ما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال : " لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.

فَقَالَ : "قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ". فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ.

قَالَ: " اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ".

فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِى فِي حَمَّامٍ، حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِى ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ". وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ. "

فعلى الرغم من الترغيب العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : " أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ولكن لم يجبه أحد بسبب شدة الموقف، ولكن لما تعين الأمر، فوجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة رضي الله عنه لم يكن له بد من الاستجابة والطاعة، فقال رضي الله عنه : " فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ."

ثم تأملوا بركة تطبيق السنة، فرغم شدة البرد والريح الشديدة شعر حذيفة رضي الله عنه بالدفء، وما عاد إليه البرد حتى انتهى من تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا سار الصحابة رضوان الله عليهم والعلماء الربانيون من بعدهم.
وللحديث بقية ...