من قام رمضان إيمانا واحتسابا
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد ...
فمن نعمة الله علينا أن رزقنا إدراك شهر رمضان المبارك، نصوم أيامه، ونحيي لياليه بطاعة الله سبحانه وتعالى.
فشهر رمضان شهر الطاعات والخيرات، ولذلك ينادي مناد من السماء في أول ليلة من الشهر : " يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" ( [1] ) ، فتعلوا همم الصائمين، فتراهم تالين لكتاب ربهم، مقبلين على المساجد مصلين ومعتكفين، داعين ربهم ومتضرعين.
ومن أخص العبادات الرمضانية صلاة التراويح والقيام، التي يؤديها المسلمون في شهر رمضان بعد صلاة العشاء، وغالباً ما ترتبط مواعيدهم وتجمعاتهم بعدها.
وعبادة صلاة التراويح من العبادات ذات الأجر العظيم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ :« مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » ، وعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ، فَقَالَ: شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ، وَصُمْتُ الشَّهْرَ، وَقُمْتُ رَمَضَانَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ." ( [2] )
ولكن في هذه الأيام وبسبب الاجراءات الاحترازية الخاصة بالوقاية من وباء كورونا جاءت التوجيهات بصلاة الصلوات المفروضة والجمعة ومنها صلاة التراويح في البيوت.
وهذا الأمر وإن كان يحز في النفوس، إلا أن ضرورة الحفاظ على الأنفس تقتضي مثل هذا الإجراء، ولكن توجد مبشرات للصائمين، إذا ما تأملوها وتدبروا أحوالهم فيها حمدوا الله على ما هم فيه من الخير الدائم والأجر المستمر غير المنقطع.
بداية لا بدّ أن نعلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى التراويح منفرداً دون جماعة في بعض الأحيان، فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً - قَالَ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِي، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ "قَدْ عَرَفْتُ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ . " ( [3] )
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى التراويح منفرداً في بعض الليالي، وقد بين سبب ذلك في حديث آخر فقال : "لَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا ". ( [4] ) ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد حث على صلاتها جماعة فقال : " مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ " ( [5] )
وتأملوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ " فصلاتك التراويح في بيتك، في هذا الوقت، من أفضل الصلاة النافلة التي يتقرب بها العبد لربه سبحانه وتعالى.
ولهذا ذهب الإمام مالك والشافعي رحمهما الله إلى أنّ صلاة التراويح والقيام في البيت أفضل، لمن كان حافظاً للقرآن، مع عدم الخشية من تضييعها والتفريط فيها.
كما أنّ الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم استمروا في صلاة التراويح في جماعة ومنفردين حتى جمعهم عمر رضي الله عنه في المساجد على قارئ يصلي بهم، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضى الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ.
فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ .
ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ". ( [6] )
فهذه الأثار تدلنا على مشروعية صلاة التراويح في البيوت، جماعة ومنفردين.
كما أنّ صلاة التراويح في المنزل تحقق جملة من الأمور :
الأول : يحقق المسلم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم لما قال : " اجْعَلُوا في بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا . " ( [7] )
الثاني : حصول الخيرية في البيت، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاَتِهِ خَيْرًا." ( [8] )
الثالث: زيادة الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: "تطوُّعُ الرجل في بيتِهِ يزيدُ على تطوُّعِه عندَ الناس، كفضْلِ صلاة الرجل في جماعةٍ على صلاتهِ وحدَه " ( [9] )
فجميع هذه الأمور فيها ترغيب في إقامة صلاة التراويح في البيت، والاستمرار عليها، في حال المنع من صلاتها في المساجد بسبب الخوف من انتشار الوباء.
ومن الأهداف التي تتحقق من صلاة الرجل التراويح في بيته تعليم أولاده الصلاة، وأحكام صلاة الجماعة، وحث المتكاسل منهم على أدائها.
ومن فضل الله وكرمه على عباده أن كتب لهم أجور العبادات التي اعتادوا على أدائها، وحال بينهم وبينها حائل منعهم منها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا ." ( [10] ) ، وفي رواية " إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحًا فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ." ( [11] )
قال ابن حجر -رحمه الله - :" وهو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها." ( [12] )
فمن كان مصلياً للتراويح مع جماعة المسلمين في المساجد، وعجز عن أدائها هذا العام في المسجد فإنّ أجره تام بإذن الله تعالى.
لنغتم أيام شهر رمضان ولياليه بالطاعات والعبادات، فإنّه شهر عزيز مبارك، لا يحرم الخير فيه إلا محروم.
وفقني الله وإياكم لكل خير .
([1] ) -رواه الترمذي .
([2] ) – رواه ابن حبان .
([3] ) – رواه البخاري.
([4] ) -رواه البخاري ومسلم .
([5] ) – رواه الترمذي .
([6] ) – رواه البخاري.
([7] ) – متفق عليه .
([8] ) – رواه مسلم .
([9] ) – رواه عبد الرزاق في المصنف .
([10] ) – رواه البخاري .
([11] ) – رواها أبوداود .
([12] ) - فتح الباري لابن حجر (6/ 136)