من وصايا ابن مسعود لأهل القرآن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد
فاعلموا رحمني الله وإياكم أن من أفضل العبادات وأيسر القربات تلاوة كلام ربنا سبحانه وتعالى ، فبها يستلذ القلب وتستنير البصيرة ويجد بها القارئ حلاوة الإيمان.
ولذلك حث الله على تلاوة القرآن في كتابه ومدح التالين له ووعدهم بالأجر العظيم ، قال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "
قال قتادة : كان مطرف بن عبد الله يقول:" هذه آية القراء "
وتأملوا رحمكم الله كيف ختم الله الآية باسمين عظيمين من أسمائه فقال : " إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ " فكأن هذه الأعمال يستحق أصحابها أن يكونوا من أهل المغفرة والشكر من الله، فما أعظمه من أجر وثواب ..
لقد أدرك السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين فضل القرآن الكريم، وعظيم المنة بإنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من تبعه فإنه لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا.
فأقبلوا على كتاب ربهم يحفظونه ويرتلونه آناء الليل وأطراف النهار، فجعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا شرائعه.
قال الإمام الأوزاعي رحمه الله :" كان يقال : خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان : لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله"
ومن الصحابة الذين اعتنوا بالقرآن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قَالَ عنه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» . ولما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ابن مسعود قال :" قرأ القرآن ثم وقف عنده وكفى به علما".
ولقد بلغ ابن مسعود مبلغاً عظيماً في العلم بمعاني القرآن وتفسيره وما يتعلق به من علم حتى قال عن نفسه: " والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيم نزلت، ولو أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطي لأتيته "
ومن وصايا هذا الصحابي الجليل في القرآن قوله رضي الله عنه : إذا سمعت الله يقول : " يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه"
في هذه الوصية حث على الاستماع والإنصات لكتاب الله وذلك لأجل تدبر كلام الله ثم العمل به، قال الحسن البصري : " أُنزِل القرآنُ لِيُعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملًا " فإن الله ما أمر ولا نهى إلا ليمتثل الأمر بالفعل والنهي بالترك، وجميع الأوامر والنواهي في القرآن جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها.
فجميع أوامر القرآن الكريم متضمنة لمصالح العباد في العاجل والآجل ، وجميع النواهي متضمنة دفع المفاسد عنهم في العاجل والآجل.
فالمسلم إذا قرأ القرآن فليكن في علمه أنه مخاطب به، فيأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، ويصدق خبره.
وكان الواحد من الصحابة إذا قرأ القرآن علم أنه المخاطب به، فعن عبد الله بن مسعود قال:" لما نزلت هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقالـوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليس كما تقولون، {لم يلبسوا إيمانهم بظلم}: بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: "يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "
وها هو ابن عمر رضي الله عنهما لما سمع قول الله سبحانه: " لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" فكان لا يعجبه شيء من ماله إلا أخرج منه لله عز وجل، وكانت له جارية اسمها رميثة فقال لها: " وإني والله كنت أحبك في الدنيا اذهبي فأنت حرة لوجه الله "
وأنت أيها المسلم القارئ لكتاب الله تقرأ قول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " ، فهل أنت إذا مررت بهذه الآية تفكرت في نفسك أنك ممتثل بترك النواهي التي احتوتها أم لا ؟
يقرأ المسلم قول الله تعالى : "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ" فهل أنت أخي القارئ إذا مررت بهذه الآية تفكرت في نفسك أنك ممتثل لهذا الأمر محافظ على الصلاة.
وفي هذا المعنى يقول رضي الله عنه: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن "
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: «لَقَدْ لَبِثْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ، وَأَحَدُنَا لِيُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا يَتَعَلَّمُ أَحَدُكُمُ السُّورَةَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ يَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، مَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ وَلَا حَرَامَهُ، وَلَا أَمْرَهُ وَلَا زَاجِرَهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ»
ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب عن أعظم آية في كتاب الله فقال : " يا أبا المنذر ، أتدري أي آية ( في ) كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : يا أبا المنذر ، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . قال : فضرب في صدري وقال : والله ليهنك العلم يا أبا المنذر"
فأجابه إجابة صحيحة وهذا يدلنا على فهم الصحابة وفقههم لكتاب الله تعالى وما يحتويه من المعان وما يحتمله من الدلالات ، ولذلك كان فهم الصحابة للنصوص مقدما على فهم غيرهم من بعدهم.
ومن وصاياه رضي الله عنه قوله : ( لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرأوه في سبع، ويحافظ الرجل على حزبه )
فكان من هدي السلف الحرص على ختم القرآن وتعاهد حزبهم منه فإذا فات عوضه من تالي يومه، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :" مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ "
فقد كانوا يقسمون القرآن أحزابا ليسهل عليهم ترتيبه وختمه كما روى ذلك أبو داود عن أَوْس قال: " سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ قَالُوا ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ "
ومن وصاياه رضي الله عنه قوله : " إنما هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره"
فشبه رضي الله عنه القلوب بالوعاء والآنية التي إما أن تبقى فارغة أو تملأ بما يشغلها، فليكم ما يملؤها القرآن الكريم ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدِاً من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري.. " فشبه القرآن بالربيع للدلالة على أنه سبب لحياة القلب كما أن الربيع سبب لحياة الأرض، وذم صلى الله عليه وسلم القلب الخالي من القرآن فقال : " إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ "
والمسلم إذا لم يشغل قلبه بالقرآن شغله بما لا نفع فيه غالبا.
ومن فوائد شغل القلب بالقرآن وكلام الله حصول محبة الله في قلب العبد ، فمحبة كلام الله من علامة محبّة الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن في من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أنّ من أحبّ محبوبًا كان كلامه وحديثه أحبَّ شيءٍ إليه.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: " لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ من كلام الله " ، وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه .
قال ابن القيم رحمه الله مبينا صفات القلب الذي يقبل على القرآن: " فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح"
ومن وصايا هذا الصحابي الجليل في تعاملنا مع القرآن قوله : " لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة"
يوصي بتدبر القرآن والوقوف على معاني آياته، لا أن يقرأ بسرعة دون إدراك لمعانيه وما يحتويه من خير، لذلك قال الشعبي رحمه الله :" إذا قرأتم القرآن فاقرءوه قراءة تسمعه آذانكم، وتفهمه قلوبكم، فإن الأذنين عدل بين اللسان والقلب، فإذا مررتم بذكر الله فاذكروا الله، وإذا مررتم بذكر النار فاستعيذوا بالله منها، وإذا مررتم بذكر الجنة فاسألوها الله "
وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بتسبيح سبح وإذا مر برحمة سألها وإذا مر بعذاب استعاذ بالله منه.
ولا يكن هم القارئ الانتهاء من السورة والجزء .
وعن نافع مولى ابن عمر قال : " ما قرأ ابن عمر بهاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ثم يقول : إن هذا الإحصاء شديد "
وكان من هديهم تدبر القرآن وتفهم معانيه ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: " صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ فَسَأَلَهُ أَيُّوبُ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ؟ قَالَ: قَرَأَ {وَجَاءَتْ سُكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فَجَعَلَ يُرَتِّلُ، وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكُمُ النَّشِيجِ "
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي سَرِيعُ الْقُرْآنِ إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ قَالَ: " لَأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فِي لَيْلَةٍ أَتَدَبَّرُهَا، وَأُرَتِّلُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ من أَنْ أَقْرَأَهُ كَمَا تَقْرَأُ "
ولما تدبروا القرآن وعرفوا معانيه تلذذوا به ، عن إِبْرَاهِيمَ بْن أَدْهَمَ قال: " لَقِيتُ عَابِدًا مِنَ العُبَّادِ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ لَا تَنَامُ فَقَالَ لِي: مَنَعَتْنِي عَجَائِبُ الْقُرْآنِ أَنْ أَنَامَ "
نختم بهذه الوصية النافعة لهذا الصحابي الجليل يقول رضي الله عنه: " يَنْبَغِي لِقَارِئِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنِهَارِهِ إِذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِبُكَائِهِ إِذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِوَرَعِهِ إِذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إِذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ.."
اللهم اجعلنا من أهل القرآن وخاصته، التالين لآياته المتدبرين لمعانيه، العاملين بأحكامه .
والله الهادي إلى سبيل الرشاد