فضل عشر ذي الحجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم عَلَىٰ أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعَلَىٰ آله وصحبه أجمعين؛ وَبَعْد..
فإنَّ مِن فضل الله ومنّته عَلَىٰ عباده الصالحين أنْ هيئ لهم مواسم يستكثرون فيها من الخير ومن العمل الصالح، ومدَّ في آجالهم فهُم بين غادٍ للخير ورائح، ولا يكاد موسمٌ من هٰذِه المواسم ينتهي إلا ويأتي موسمٌ بعده.
فعن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ». [رواه الطبراني في الكبير]
وإنَّ من هٰذِه المواسم التي ستطل علينا قريبًا أيام العشر من ذي الحجة؛ هٰذِه الأيام ورد في فضلها أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أقسم بها في كتابه العزيز، فقال سُبْحَانَهُ: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ [الفجر: 1، 2].
المراد بها: العشر من ذي الحجة، كما صحَّ ذلك عن جمهور المفسرين من السلف؛ منهم: ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغيرهم. وقال البعض بأنَّ المراد بـ"ليالٍ عشر": هي العشر الأخيرة من رمضان، ولا مانع من حمل المعنى عَلَىٰ كِلا العشر (عشر ذي الحجة وعشر رمضان) كما قال بذلك بعض المتأخرين من أهل العلم.
- ومما ورد في فضلها: ما رواه ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَىٰ اللَّهِ مِنْ هٰذِه الأَيَّامِ- يعني: العشر- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» [رواه الترمذي]
وثبت أيضًا عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هٰذِه الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ» [رواه أحمد].
وكان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت عليهِ العشر اجتهد اجتهادًا كثيرًا حتى ما يكاد يقدر عليه.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: "والذي يظهر أنَّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة عن غيرها؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها من الأيام".
وقد دلّت النصوص المتقدمة عَلَىٰ أنَّ العمل في أيام العشر أفضل وأحب إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ من العمل في أيام عشرٍ غيرها، ولهٰذَا قال الصحابة رضي الله عنهم: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟"، قَالَ: «وَلَا الجِهَادُ»، ثم استثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو قوله كما ثبت في روايةٍ أخرى: «مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ».
يعني: مَن خرجتْ نفسه ولم يرجع من ماله بشيء، هٰذَا هو أفضل الجهاد وأحبُّه إِلَىٰ الله عَزَّ وَجَلَّ.
وهنا مسألة ذكرها أهل العلم وهي:
أيهما أفضل: العشر من ذي الحجة أم العشر الأخيرة من رمضان؟
الجواب عَلَىٰ هٰذَا السؤال: أنه لا شك أنَّ الصيام في رمضان صيام فرض، وهو أفضل من صيام التطوع الذي هو في عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل بلا تردد، أمَّا ما فُعِل في هٰذِه العشر من فرضٍ غير الصيام فهو أفضل مما فُعِل في عشرٍ غيرها من فرض كالصلاة ونحوها، فقد تُضاعَف صلواته المكتوبة عَلَىٰ صلوات عشر رمضان لعموم الحديث، وما فُعِل فيه من نفلٍ فهو أفضل مما فُعِل في غيره من نفل.
أمَّا ما يتعلق بليالي العشر هٰذِه وليالي العشر من رمضان، فإنَّ مِن أحسن ما قيل فيه: أنَّ مجموع هٰذِه العشر (يعني عشر ذي الحجة) أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلةٌ مباركة وهي ليلة القدر لا يفضُل عليها غيرها كما صحَّ بذلك الكتاب والسُّنة.
ومما يُستحب فعله في هٰذِه الأيام: الإكثار من الطاعات والقربات التي تزيد العبد قُربًا من ربه سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ لا سيما في مِثل هٰذِه الأيام المباركة، وخاصةً لمن لم يستطع الذهاب إِلَىٰ الحج وإنما بقي في بلده، فإنَّ هٰذِه العشر فرصةٌ لتعويض ما قد يفوته في الحج من الأجور العظيمة.
ولهٰذَا يقول ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ: "لَمَّا كان الله سُبْحَانَهُ قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إِلَىٰ مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحدٍ قادرًا عَلَىٰ مشاهدته في كل عام، فَرَضَ عَلَىٰ المستطيعِ الحجَّ مرةً واحدةً في عمره" ثم قال: "وجعل موسم العشر -يعني عشر ذي الحجة- مشتركًا بين السائرين والقاعدين".
السائرين أي: الذاهبين إِلَىٰ الحج، والقاعدين: الذين بقوا في بلدهم ولم يحجوا.
ثم قال: "فمن عجز عن الحج في عامٍ، قَدَر في العشر عَلَىٰ عملٍ يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج" انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ.
وإنَّ من هٰذِه الأعمال التي تُذكَر: الصلاة؛ فيُستحب التبكير إِلَىٰ الفرائض والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات إِلَىٰ الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقد روى ثوبان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» [رواه مسلم]، وهٰذَا عامٌّ في كل وقت لا سيما في جوف الليل؛ فقد ثبت عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: "لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر" يعني تُعجبه العبادة والصلاة في الليل.
ومما يُستحب أيضًا في هٰذِه الأيام: الصيام؛ لدخوله في الأعمال الصالحة.
فقد ثبت عن هُنيدة بن خالد عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كان رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيامٍ من كل شهر" [رواه أبو داود] .
قال الإمام النووي رحمه الله عن صوم أيام العشر:" أنه مستحب استحبابًا شديدًا".
ومن الأعمال المستحبة أيضًا في هٰذِه الأيام المباركة: التكبير والتهليل والتحميد.
وقد دلَّ عَلَىٰ ذلك قول الله جل وعلا: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28] ، فإنَّ الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء، ولِمَا ثبت في الحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ».
وقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "كان ابن عمر وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يخرجان إِلَىٰ السوق في أيام العشر يُكبِّران ويُكبِّر الناس بتكبيرهما".
وقال أيضًا: "وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا .وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَىٰ فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا".
والمستحب: الجهر بالتكبير؛ لفِعل عمر وابنه وأبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
وحريٌّ بنا نحن المسلمين أن نُحيي هٰذِه السُّنة التي قد ضاعت في هٰذَا الزمان وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير وللأسف، بخلاف ما كان عليه السلف الصالح.
- ومن الأعمال المستحبة في هٰذِه الأيام: صيام يوم عرفة، وهو اليوم التاسع؛ لِمَا ثبت عنه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن صوم يوم عرفة: «أَحْتَسِبُ عَلَىٰ اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» [رواه مسلم]، لكن مَن كان في عرفة (يعني في الحج) فإنه لا يُستحب له الصيام؛ لأن النبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف بعرفة مفطرًا في حجة الوداع.
- ولنا أن نتساءل هنا: بماذا نستقبل مواسم الخير عمومًا؟
والجواب عَلَىٰ ذلك أن نقول: إنه حريٌّ بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامةً بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإنَّ الذنوب تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه.
كذلك نستقبل مواسم الخير عامة بالعزم الصادق الجاد عَلَىٰ اغتنامها بما يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ، فمن صدَق الله صَدَقه الله، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
فيا أخي المسلم؛ احرص عَلَىٰ اغتنام هٰذِه الفرصة السانحة قبل أن تفوتك فتندم ولات ساعة مندم.
وفَّقني الله وإياكم لاغتنام هٰذَا الموسم العظيم، وأسأل الله جل علا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يتولانا برحمته.
وصلى الله وسلم عَلَىٰ نبينا محمد وعَلَىٰ آله وصحبه أجمعين.