شعبان ... فضائل وأحكام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..
خلقنا رب العالمين سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة وهي عبادته وتوحيده، قال تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، وأخبرنا سبحانه أنه سيحاسبنا على هذه العبادة، فقال سبحانه في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ . " رواه مسلم، لذلك كان على المسلم أن يبادر إلى العمل قبل انشغاله أو وقوع الفتن المضلة التي ستشغله، أو ذهاب عمره وانقطاع عمله، قال صلى الله عليه وسلم: " بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا. " وقال صلى الله عليه وسلم: " التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ" رواه أبوداود.
ومن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم مواسم تكثر فيها الطاعات، وتضاعف فيها الحسنات، وترفع فيها الدرجات، وقد حث الله عباده على اغتنامها قبل فواتها، جاء في الأثر " افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده. "
وها هي مواسم الخير تقبل علينا، بداية من شهر شعبان والذي نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله، ويليه رمضان الذي لا يخفاكم أجره وثوابه، ثم يليه شهر شوال وفيه صيام الست، ثم يليه أشهر الحج، وأخيراً شهر الله المحرم، والصيام فيه من خير التطوع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا أول مواسم الخير قد دخل وهو شعر شعبان، والناس عنه غافلة ، وقد نبهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لاغتنامه بصالح الأعمال، فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ : ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " رواه النسائي
فهو شهر يغفل الناس عنه لانشغالهم برجب الحرام وبرمضان ، وهذا فيه إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن ..قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم . وفيه دليل على استحباب عمارة أزمان غفلة الناس بالطاعة.
(ينظر: لطائف المعارف لابن رجب ص 310)
قال ابن الجوزي رحمه الله في التبصرة لابن الجوزي (2/ 47) : " واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظّمة القدر؛ لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دلّ على حرصه على الخير. ولهذا فُضل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفُضل ما بين العشاءين وفُضل قيام نصف الليل ووقت السحر"
وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يرفع عمله إلى الله وهو صائم ، كما ورد ذلك في قوله (وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس لأنها أيام تعرض فيها الأعمال على الله سبحانه وتعالى، فروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ "
ثم بين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية الاستفادة من هذا الشهر – شهر شعبان – وذلك بالصوم فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال " وكان أحب الصوم إليه في شعبان " وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ " ، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على استحباب الصيام في شهر شعبان لمن قدر على ذلك، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في لطائف المعارف ص 306: " وقد رجح طائفة من العلماء – منهم ابن المبارك وغيره- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره"
ولشهر شعبان جملة من الأحكام لا بد من مراعاتها والتنبه لها منها:
الأول : استحباب الإكثار من الصيام في شهر شعبان، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " لَمْ أَرَهُ – صلى الله عليه وسلم - صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً " رواه مسلم. والصيام من أعظم العبادات أجراً، ويكفيك أخي المسلم هذا الحديث النبوي العظيم المبين لعظيم أجر الصائم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – " قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ . وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ . وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ."
الثاني : من كان عليه شيء من قضاء رمضان الماضي وجب عليه قضاؤه، ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان، لقول الله تبارك وتعالى : " وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" [البقرة:185]، وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِى سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَيّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغُلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري لابن حجر (4/ 191): " وَيُؤْخَذُ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ. "
الثالث : من أحكام شهر شعبان ، قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان" ولا تعارض بينه وبين قول عائشة رضي الله عنها " فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ " " فالمراد النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف ، أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة ".
الرابع: النهي عن صيام آخر يومين من شعبان على سبيل الاحتياط لدخول رمضان، فروى مسلم عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ" فدل الحديث على النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا لمن كانت له عادة صيام أو قضاء فإنه يصوم تلكم الأيام.
فيجب على من لم ير الهلال ولم يسمع إعلان الدولة لدخول رمضان أن يكمل شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ" متفق عليه
وروى الترمذي عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَأُتِىَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، فَقَالَ: كُلُوا. فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ عَمَّارٌ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِى يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وجاء في المصنف لابن أبي شيبة (٢/ ٣٢٣ ـ ٣٢٤) رقم: (٩٥٠٢). مزيد بيان للقصة وأنها وقعت في اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا، وفيها: " إِنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَنَاسًا مَعَهُ أَتَوْهُمْ بِمَسْلُوخَةٍ مَشْوِيَّةٍ فِي الْيَوْمِ الْذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَوْ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاجْتَمَعُوا وَاعْتَزَلَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: «تَعَالَ فَكُلْ»، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ»، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: «إِنْ كُنْتَ تُؤمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ اْلآخِرِ فَتَعَالَ فَكُلْ..."
وقال الترمذي : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذى يُشك فيه، ورأى أكثرهم إن صامه فكان من شهر رمضان أن يقضى يوما مكانه. "
وأما ما يتعلق بالنصف من شعبان فقد ورد فيه حديث " إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" رواه ابن ماجه، وقد اختلف أهل الحديث في صحة الحديث، وعلى القول بصحته فإنه يثبت فضيلة لهذه الليلة بهذه الصفة وهي مغفرة الله لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن، ولا يجوز تخصيص هذه الليلة بفضائل أخرى لم يثبت بها دليل صحيح، وذلك لأن باب الفضائل توقيفي لا يقال فيه إلا بالنص والدليل.
و السلف رحمهم الله لم يعظموا هذه الليلة بشيء، إذ ورد عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو من أتباع التابعين أنه قال : " لم أدرك أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول (الحديث السابق) ولا يرى لها فضلا على سواها من الليالي " رواه ابن وضاح في البدع، والطرطوشي في الحوداث والبدع .
وقال القرطبي في تفسيره (16/128) : " وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليه"
ومما أحدثه الناس في ليلة النصف من شعبان ما يسمى بصلاة الرغائب وصلاة النصف من شعبان وصلاة الألفية، قال عنها النووي رحمه الله في المجموع (4/56): " وهاتان الصلاتان بدعتان، مذمومتان منكرتان قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قتوت القلوب والإحياء"
وقال ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف ص 98 : " ومن الأحاديث الموضوعة أحاديث صلاة ليلة النصف من شعبان ... والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ويصليها "
ومما أحدثه الناس كذلك إطلاق حملة قبل ليلة النصف من شعبان عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطلب المسامحة، فيرسلون لبعضهم البعض: سامحني أسامحك.
وطلب المسامحة ومسامحة الناس والعفو عنهم محمود شرعاً، ولكن ليست هذه طريقته، بل المطلوب الاعتذار من الخطأ، والتواصل إن وُجد هجران، أما إطلاق هذا الشعار مقروناً بليلة النصف من شعبان فهو من البدع الإضافية التي لم يفعلها السلف رحمهم الله مع انتشار الحديث بينهم ومعرفتهم به، فتركها متعين.
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.