رمضان شهر القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد عاش الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أحقابا غشيتها ظلمة الجهل والظلم والشرك والكفر بالله تعالى، فأكرم الله هذه البشرية ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن الكريم فأخرج الله بهما العباد من هذه الظلمات إلى نور التوحيد والإسلام ، قال تعالى : " قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " وقال سبحانه : " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"
هذه الهداية عمت الإنس والجن ، وشملت جميع الأزمان والأماكن ، حيث شملت الهداية جميع ما يحتاجه الخلق في عقيدتهم وعلاقتهم بربهم، وعباداتهم ، ومعاملاتهم مع الآخرين، وحسن خلقهم وسلوكهم .
ولذلك قال تعالى : " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا "
قال الشنقيطي صاحب أضواء البيان : " وهذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع مافي القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم. لشمولها لجميع مافيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة"
هذا الكتاب سمّاه الله بعدة أسماء ووصفه بعدة صفات فهو النور والروح وصفه بأنه بصيرة وبشرى وهدى ورحمة وموعظة وشفاء وذكرا .. " لتستقرّ عظمته في نفوس المتّقين ويزداد احترامهم له ورغبتهم في تلاوته وسماعه ..."
وأخبر سبحانه أن من اتبع هذا الكتاب فإنه لن يضل ولن يشقى، بل له السعادة الأبدية والنعيم السرمدي قال تعالى : " فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " وقال سبحانه :
وقال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَن ْتَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ"
وقال صلى الله عليه وسلم: " أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُم ْثَقَلَيْنِ َحَدُهُمَا كِتَاب ُاللَّه ِعَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَن ْتَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ " رواه مسلم
وبهذا الحديث يفسر قوله تعالى : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل ِاللَّه ِجَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا "
فإذا علم العبد عظيم المنة بإنزال هذا الكتاب وجب عليه شكر المنعم بالإقبال على تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل به.
ومن شكر هذه النعمة الاهتمام بكتاب الله تعالى في هذا الشهر الفضيل شهر رمضان لأنه الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن كما قال تعالى : "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " وقال سبحانه : " إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" ، قال أهل التفسير أن القرآن أنزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما في عشرين سنة أو ثلاثا وعشرين سنة هي مدة نبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
روى البيهقي عن ابن عباس قال : أُنْزِلَ الْقُرْآن ُجُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ , ثُمَّ نُزِّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةٍ ، قال تعالى : " {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلَا} "
ولذلك اجتهد السلف الصالح في الاعتناء بالقرآن الكريم في شهر رمضان عناية خاصة، وقدوتهم في هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان جبريل عليه الصلاة والسلام يتدارس القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ بالخير، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ حتى ينسلخ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"
قال ابن رجب في لطائف المعارف: " دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له منه، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، كما دل على استحباب الاكثار من التلاوة ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى : " إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا "
وكانوا رحمهم الله يجتهدون في ختم القرآن في رمضان أكثر من غيره، فيقرؤونه في خلواتهم بل كان بعضهم يوقف دروس العلم ويقبل على المصحف ويقول: رمضان شهر القرآن، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف" ، وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة – يعني النافلة-وأقبل على تلاوة القرآن "
وكانوا يقرؤون في صلاة التراويح والقيام فيطيلون القراءة عَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُول ِاللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا مِنَ الشَّهْرِ شَيْئًا حَتَّى بَقِي َسَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ، وَقَامَ بِنَا اللَّيْلَةَ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُل َإِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ " ثُمّ َلَمْ يَقُمْ بِنَا السَّادِسَةَ، وَقَامَ بِنَا السَّابِعَةَ، قَالَ: وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ
روى الإمام مالك في الموطأ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ،أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً , قَالَ: فكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ. "
هذا وغيره يدلنا على اهتمام السلف بكتاب الله تعالى في رمضان اهتماما بالغا، ويعظمونه فيه تعظيما ظاهرا.
والمؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام وقراءة القرآن، فمن جمع بينن هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفيَّ أجره بغير حساب .
ولذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والقرآن في قوله : " الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ "،قَالَ: " فَيُشَفَّعَانِ "
ومن أجر هذا الاجتهاد في قراءة القرآن والسهر لأجله ما رواه أحمد في المسند قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْم َمِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأ ْوَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَادَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا " والحديث حسنه بعض أهل العلم .
قال خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه : «تقرّب إلى الله ما استطعت، فإنّك لن تتقرّب إليه بشيء، أحبّ إليه من كلامه"
ولكن لنقف مع أنفسنا وقفة محاسبة : هذا حال خير القرون مع كتاب الله، فما هو حالنا نحن مع كتاب الله في رمضان ؟
الجواب : يوجد ولله الحمد من يجتهد في رمضان فيقبل على تلاوة كتاب الله سرا وجهرا، ويغتنم كل وقت فراغ فيتلو فيه كتاب ربه سبحانه وتعالى، ويقوم به القيام والتراويح.
ويوجد من يجتهد في العشر الأول من رمضان ثم يكسل في العشر الثانية ثم يعاود الاجتهاد في العشر الأخيرة من الشهر.
ويوجد من يقبل على تلاوة القرآن في العشر الأخيرة من رمضان فقط، ولا يحرص على ختم القرآن ولا تدبره ولا النظر في معانيه وإنما هي قراءة كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه كهذ الشهر ونثر الدقل .
وهذا لا يليق بالعبد الذي عرف قيمة القرآن، وعرف فضله ، وعظيم الأجر بتلاوته.
هل يعلم هذا المتهاون عن تلاوة القرآن أن قراءة القرآن من العبادات السهلة ذات الفائدة الكبيرة ، قال تعالى :" إِنّ َالَّذِين َيَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن ْتَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِن ْفَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "
لماذا لا تكون مع قوافل التالين الكتاب الله الحافظين له لترتقي درجات في الجنة قال صلى الله عليه وسلم: " يُقَالُ لِصَاحِب ِالْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ زِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا "
تعلم أخي المسلم أن المتهاون عن التلاوة قد ضيع أجورا عظيمة بعمل يسير ربما ندم عليه يوم القيامة قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَن ْقَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لاَ أقول : ألم حَرفٌ، وَلكِنْ : ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ))
لا تجعل قلبك خربا ، فإن القلب الخالي من القرآن كالبيت الخرب، قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ،كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ "
والمسلم إذا لم يشغل قلبه بالقرآن شغله بما لا نفع فيه غالبا.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْت ِبه نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدِاً من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري.. " فشبه القرآن بالربيع للدلالة على أنه سبب لحياة القلب كما أن الربيع سبب لحياة الأرض
فيا أيها المتهاون في تلاوة القرآن قف مع نفسك وقفة محاسبة ، وجاهد نفسك على هذه العبادة فإن القلب الذي يصد عن كتاب الله قلب مريض يحتاج إلى علاج وتداوي قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: " لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ من كلام الله ".