لا يخفى ما تواجهه الأمة الإسلامية هذه الأيام من تحديات الإرهاب والتطرف، وغلو التنظيمات المتطرفة، وشناعة ما تقوم به من أعمال إجرامية تسيء إلى صورة الإسلام النقية، مما حدا بالعقلاء إلى بيان خطورة هذه الأفكار والمسالك المتطرفة..
فانبرى في هذا الإطار أهل العلم وأصحاب الثقافة الإيجابية الصادقون الغيورون، يبدِّدون ظلمات التطرف بأنوار العلم والحجة والبيان الساطع، وينفون عن الإسلام تحريف الغالين، ملتزمين في ذلك بالمنطلقات الصحيحة من خلال تشخيص سليم للمرض وعلاجه.
ولكن وجدنا وسط هذه الأجواء ظهور فئات غريبة شذت عن الطريق، وركنت إلى ممارسة سياسة خلط الأوراق وانتهاز الفرص، بعيداً عن الموازين العلمية وقيم الإنصاف والموضوعية، فحاولت أن تتخذ من وجود المتطرفين متَّكأً لها لقلب الحقائق وتزييفها، على اختلاف هؤلاء في ألوانهم وأهدافهم.
فمن هؤلاء صنف يحاول إلصاق داعش بحمَلة الخطاب الديني المعتدل، الذين عُرفوا بالتصدي للثقافات الفاسدة كالتكفير والخروج والثورات والحزبيات وغيرها، إما في محاولة لتبرئة ساحة التيارات الحزبية التي خرجت من عباءتها تلك التنظيمات المتطرفة، والتشويش على البراهين الدامغة والشهادات الموثقة التي تدينهم..
وإما لإضعاف الثقافة الإيجابية التي تنقُضُ أفكارهم الحزبية والثورية، سيما مع انكشاف أوراق دعاة التحزب، وافتضاح مكوناتهم الثقافية والدينية الفاسدة، وبروز التيارات المتطرفة وانكشاف ارتباط أفكارها بأفكار ورموز تلك التيارات الحزبية.
والعجيب أن هذا الصنف لم يُسمع لهم صوت حين عصفت الثورات المدمرة بكثير من المجتمعات، وحينما أراد المغرضون تصدير هذه الثورات إلى البلدان الآمنة، بل كان الصمت المطبق رائدهم، وكأنهم ينتظرون رجحان كفة معينة ليرسموا مصالحهم معها..
ولهذا فالتساؤل الذي يطرح نفسه آنذاك: أين دفاع هؤلاء عن أوطانهم؟ وأين حرصهم على أمنها واستقرارها؟! وفي الوقت الذي كانوا فيه صامتين، كان العلماء وطلبة العلم والمثقفون والغيورون بأنواعهم، يعملون على قدم وساق بأقلامهم وألسنتهم لحماية دينهم وأوطانهم وقيادتهم ومجتمعهم، بل تحملوا في ذلك ألوان الإهانات والسباب والشتائم، فلم يلقوا لذلك بالاً في سبيل المحافظة على الهوية الإسلامية المعتدلة، وعلى سلامة أوطانهم واستقرارها.
وصنف ثانٍ يحاول إلصاق داعش بعلماء الاعتدال والوسطية، الذين يدعون إلى الالتفاف حول ولي الأمر والمحافظة على الأوطان، إما لإشعال صراعات مذهبية في المجتمعات، أو لخدمة مخططات طائفية، أو لتشويه ما يحمله هؤلاء العلماء من علم شريف ومخزون ثقافي إيجابي ينصب في أبواب طاعة ولي الأمر وغيرها، أو للترويج للتنظيمات الإرهابية بادعاء أنها امتداد لدعوة العلماء والمجددين..
وهي خدمة دعائية مجانية كبيرة يقدمها هؤلاء الانتهازيون لهذه التنظيمات! وقد يقع في هذا الشراك بعض البسطاء أو المخدوعين، إما لعدم التمييز بين أصول الفكر وجذوره ومنابعه، وبين الاستدلالات والاستشهادات التي تقوم على ليِّ أعناق النصوص وبتر الكلام من سياقه وتحريف الدلالات والمعاني، فيختلط عليه هذا بذاك، وإما لعدم التمييز بين الحقائق والمضامين وبين الشعارات المزيفة والانتسابات الكاذبة..
فينطلي عليه ادعاءٌ كاذب من هنا أو هناك. وإذا نظرنا في تاريخ الفِرَق فإننا نجد، على سبيل المثال، أن المعتزلة الذين يشاركون الخوارج في سلب الإيمان عن أهل الكبائر وتخليدهم في النار وتجويز التغيير بالسيف والخروج على الحكام؛ قد أظهروا أفكارهم في قوالب براقة..
وألصقوا أنفسهم بالخلفاء الراشدين، فها هو قاضيهم عبد الجبار الهمذاني يورد الخلفاء الراشدين في رأس الطبقة الأولى من المعتزلة، وينسب إليهم أقوالاً زعم أن المعتزلة أخذوا منها أفكارهم! ومع ذلك فإن العاقل المنصف لا تنطلي عليه هذه الانتسابات والاستشهادات وهو يعلم عقيدة أهل السنة، ويعلم ما عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين.
وصنف ثالث ممن يحاول إلصاق داعش ببعض الأحكام الدينية والنصوص الشرعية الواردة في أبواب الجهاد والردة وغيرها، لزعزعة الثوابت الدينية وخلخلة البنية الثقافية وتمرير أفكار دخيلة وآراء شاذة، مع تجاهل أن موضع الخلل هو في الأفهام السقيمة والاستدلالات الفاسدة، وليس في النصوص الشرعية..
وإلا فالمتطرفون يرفعون أيضاً شعارات كثيرة، منها الحرية والكرامة وغيرها مما يتكئ عليه أيضاً أصحاب دعوات التحرر المنفلت! والمنصف يجيب هؤلاء وهؤلاء بالجواب المعروف: كلمات حق أريد بها باطل.
ولهذا لا بد أن يُدرك المثقفون أنّ صور الطرح الانتهازي متعددة، ومخاطره كثيرة، سيما في مثل قضايا التطرف والإرهاب، فمن أخطر السلبيات: الجنوح عن الطرح السليم لمشكلة التطرف وتجاهل مسبباته الحقيقية، ومنها: خلق أسباب موهومة بعيدة عن الحقيقة والواقع، ومنها: تشويه دعاة الوسطية والاعتدال والاستعداء عليهم، ومنها: إيجاد متنفس للتيارات الحزبية والمتطرفة..
ومنها: الدعاية للتنظيمات الإرهابية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومنها: بث أفكار دخيلة منحلة وآراء شاذة يتكئ عليها المتطرفون في رمي الدول الإسلامية ومجتمعاتها برفض الدين والخروج عن ثوابته، إلى غير ذلك من السلبيات. ويكفينا في هذا المقام أن نذكِّر كل عاقل مريد للخير لدينه ووطنه، بقول الله تعالى في كتابه العزيز: (ولا تلبِسوا الحق بالباطل)، أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب، ولا تمزجوا الحقيقة بالزيف، بل كونوا كما أمركم الله تعالى مع الصادقين.